نموذج لاستشراف الفرص الاقتصادية

TT

كثيرون عرفوا الدكتور مانع سعيد العتيبة شاعرا وفارسا من فرسان الكلمة، وكثيرون عرفوه وزيرا للبترول في مرحلة من أدق المراحل التي مرت بها الصناعة البترولية، وأشدها دقة وحساسية. وغير هؤلاء وهؤلاء، عرفه الجميع كرجل غيور على وطنه وأمته. وكما يقولون فإن «الحكي غير الشوف» والمعاشرة والتواصل المباشر غير ما يمكن للمرء ان يكونه من صور وانطباعات. فالاحتكاك بالدكتور مانع العتيبة يأخذك إلى عوالم من التجارب الغنية التي يعلم المرء بعدها أن الدكتور العتيبة لم يصل إلى المكانة الرسمية والاجتماعية بالصدفة أو بالواسطة بل كان ذلك ثمرة جهد موصول منذ أن كان طالبا يتدرج في مقاعد المدرسة والجامعة حتى حصوله على ارفع الدرجات العلمية وتبوئه لأرفع المناصب في بلاده. ومع أن شهادتي لا تضيف إلى تاريخ الرجل ومكانته، إلا أنني أحببت أن أسلط الضوء في هذه الزاوية على بعض الجوانب التي قد لا يعرفها البعض وهي قدرته على استشراف فرص الاستثمار والإشارة إليها والدفع باتجاهها. ففي الحوارات العديدة التي أتيحت لي مع الدكتور العتيبة والتي كان فيها موضوع الاستثمار والأسواق حاضرا كما هو الحال عندما يجتمع أهل الاختصاص والمشتغلون بنفس المجال، يفاجئك الرجل بأمور تظن أنها جديدة أو فريدة لتجد في جعبته أمثلة وشواهد عديدة تؤكد على حسه العالي بالمستقبل وعلى الجرأة في تحمل المسؤولية وتبعات القرار، وهي من أهم وابرز مقومات من يتصدى للعمل العام أو للشأن الاقتصادي. في هذا المجال تجد أن تجربة الدكتور العتيبة الذي كان من أوائل من جسد إيمانه بالتكامل الاقتصادي العربي وإيمانه بالفرص المتاحة في الوطن العربي عبر مبادرات استثمارية مشهودة امتدت من الساحل العربي في الخليج ومرورا بمصر وسورية وصولا إلى الساحل العربي في المغرب، تجربة جديرة بالدراسة والتمعن، خاصة في هذه الفترة بالذات التي تتزايد فيها الاستثمارات البينية العربية وتنفتح الحدود أمام رؤوس الأموال. وهنا لا أتحدث عن الدكتور العتيبة كأحد الرواد الذين قاموا في وقت مبكر بالمبادرة و«تعليق الجرس»، بل عن دوره في دفع الجهود التي بذلت لتطوير وتحسين بيئة الاستثمار في الوطن العربي وتطوير التشريعات وزيادة الحوافز أمام المستثمرين.

ولعل المقام لا يتسع هنا للحديث عن الجهد الذي بذل في هذا الصدد خاصة في دول كان دور القطاع الخاص والاستثمار العربي والأجنبي محاصرا بمفاهيم اقتصادية واجتماعية كانت تعبر عن مصالح سياسية ضيقة أكثر من تعبيرها عن رؤى ناضجة. لكننا سنسوق في هذا المجال مثالا واحدا على ما يتمتع به الدكتور مانع العتيبة من قدرة استشرافية ورؤية مستقبلية، وهو دوره المعروف في انجاز اتفاقيات المشاركة التي استهدفت تعديل اتفاقيات الامتياز النفطية المجحفة التي وقعت إبان فترة الانتداب. ففي تلك الفترة كانت «الموضة السائدة» هي السيطرة الوطنية الكاملة على الصناعة النفطية باعتبار ذلك مظهرا من مظاهر السيادة. ورغم الإغراء الذي مثله ذلك الشعار بالنسبة لدولة مستقلة حديثا، إلا أن الدكتور مانع العتيبة وبدعم من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وولي عهده في ذلك الوقت الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، قاد المفاوضات مع الشركات الأجنبية المالكة للامتيازات النفطية باتجاه ما عرف في ذلك الوقت بالمشاركة وهي صيغة تسمح للشركات الأجنبية بالاحتفاظ بنسبة من حقوق الامتياز وتستعيد معها الدولة النسبة الأكبر التي تجعل لها السيطرة الفعلية والقانونية على الصناعة النفطية. وكانت تلك الصيغة مفيدة باتجاهين، إذ مكنت الإمارات من الاحتفاظ بالخبرات الفنية للشركات الأجنبية كما مكنتها من الاحتفاظ بأسواقها وزبائنها. والأهم من ذلك أنها أبقت الصناعة النفطية الإماراتية مواكبة باستمرار للتطورات الاقتصادية والفنية العالمية في هذا المجال. ولو وضعنا هذا المثال في سياق التسابق الذي نشهده حاليا على عقد شراكات بين الدول المصدرة وشركات النفط العالمية سندرك معنى الريادة في التجربة النفطية الإماراتية التي كان الدكتور مانع العتيبة فارسا من فرسانها الاوائل.

* الرئيس التنفيذي لشركة نور للخدمات المالية الإماراتية