الزمن يدور على الدولار في مصر.. والتضخم يتولى أمر الجنيه

في ظل قوة الإسترليني واليورو

تحذيرات من تأثير انخفاض سعر الدولار مقابل الجنيه على الاحتياطي المصري («الشرق الأوسط»)
TT

«كأني إلى الناس مطلي به القار أجرب» لعل هذا هو لسان حال الدولار الآن في السوق المصرية أو لعله قول حامليه. خمسون عاما أو يزيد و«الورقة» كما يطلق العامة على القطع فئة المائة دولار محل تبجيل استثنائي في المجتمع المصري هي وأخواتها من «الفكة» الخضراء.

تقدير خاص لحيازة الدولار في حد ذاتها وكأداة اكتناز للقيمة حتى في ظل الاقتصاد الشمولي وأيام العداء المستحكم مع الولايات المتحدة الأميركية. وقد حانت اللحظة التي يقول فيها قانون التغيير «الكمي والكيفي» نحن هنا.. فلم يكن من المتصور أن تستمر إصلاحات أسواق الاستثمار والمال والتجارة والجهاز المصرفي وميزان المدفوعات وبصفة خاصة تلك التي تمت في عهد الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء الحالي والأكثر ليبرالية منذ 1952 بدون أن يؤدي التراكم الكمي للإصلاحات الى تغير كيفي في أمور عديدة منها أوزان العملات المختلفة في سلة الاحتياطي وفي التجارة الخارجية (مصر تتوقع أن تكون الصين شريكتها التجاري الأول بعد خمس سنوات) وارتباط الجنيه بالدولار وكذا تغير في ثقافة الحيازة والاكتناز بعد أن انفتح المصريون بخطوات واسعة على العالم الفسيح لـ«البيزنس» والاستثمار والتبادل بعملات مختلفة. وكان من الطبيعي أن تظهر التغيرات في ظرف عالمي موات فالدولار أهم عملة لتسوية المدفوعات الدولية وفي كتل احتياطيات البنوك المركزية وأسعاره أمام العملات الرئيسية وسعر الفائدة ـ أميركيا ـ على الودائع (والسندات) به لهما تأثير في طول العالم وعرضه.

ومع تبلور عدة محاولات في دول عديدة لفك الارتباط بالدولار ولو نسبيا أو تغيير وزنه في سلة الاحتياطيات ومع استمرار أزمات الاقتصاد الاميركي وارتفاع أسعار النفط والذهب عالميا الى آفاق غير متصورة وبروز كتل اقتصادية ضخمة على ساحة التجارة الدولية ترفع أعلاما نقدية غير الأخضر (عملات أخرى) بدأ مصريون كثيرون يحملون الدولار ويخزنونه يدخلون دائرة القلق غير أن لحظة إعادة النظر ذات الدلالة جرت في الأيام الأخيرة من رمضان الماضي فقد تواترت تقارير دولية تؤكد تحسن مكانة مصر في بيئة الأعمال ومناخ الاستثمار وزادت ثقة الحكومة المصرية في إمكان أن يصل رقم الاستثمار الاجنبي المباشر الى 18 مليار دولار سنويا عما قريب بعد أن تجاوز الأحد عشر مليارا وبلغ الاطمئنان الى قوة تدفقات الاستثمار الاجنبي مع زيادة الصادرات وبلوغ الاحتياطيات الدولية بالمركزي إلى أكثر من 30 مليار دولار فضلا عن عوائد قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين بالخارج.

وقال الدكتور يوسف بطرس غالي في لقاء خاص بحديقة الأزهر مع صحافيين ماليين حضرته «الشرق الأوسط»: «احنا بنحوش نزول(هبوط) الدولار قدام الجنيه في مصر بالعافية» كان الوزير يخلط الهزل بالجد عن عمد ولما ضغطنا عليه بالأسئلة قال انه يتوقع بصفة شخصية أن يصل الدولار الى «كذا» جنيه بنهاية العام وذكر رقما بانخفاض حاد عن القائم وقتها، لكنه رجا الصحافيين ألا يكتبوا ذلك لأنه لا يجوز لمسؤول أن يتنبأ بسعر الصرف، لكن بعض الصحافيين سرب الخبر الى مجلة أسبوعية خلال تواجد الوزير فى واشنطن لحضور اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدوليين، الأمر الذي سبب حرجا للحكومة فيما يبدو لأنها أصدرت منذ وقت قريب سندات دولية بالجنيه المصري يسدد ثمنها بالدولار بسعر الصرف السائد ويصرف عند الاستحقاق بسعر الصرف وقتها أيضا أي إن حامليها يتأثرون بشدة بسعر الدولار مقابل الجنيه، ولذلك عاد الوزير من واشنطن ليكون أول ما يفعله هو نفي إصدار أية تصريحات حول سعر الصرف لكن التأثيرات المتراكمة والموضوعية بدأت تفصح عن مفعولها واندفعت أعداد كبيرة من المصريين الى تبديل ما بحوزتهم ـ أو جزء منه ـ من دولارات باليورو ـ العملة الصاعدة بثبات ـ أو الاسترليني، الأمر الذي جعل الدولار يهوي الى مستوى 5.47 جنيه في التعاملات من الخميس الماضي الى أمس الاثنين، وهو الذي استقر لشهور طويلة بين 5.70 جنيه و5.60 جنيه بعد فترة من بدء العمل بالانتربنك الدولاري في ديسمبر2005.

وكان الدولار قد تجاوز 7.20 جنيه في أعقاب الخطوة المتسرعة ـ رغم أهمية القرار ـ بتحرير سعر الصرف في يناير 2003 وللقارئ إن يتصور حجم الخسائر التي لحقت بحملة الدولار القوي هذا ! لكن يتعين أن نشير أيضا الى أن السعر الرسمي للدولار كان 3.40 جنيه في منتصف 2002 وكان سعره في السوق الموازية أو السوداء أعلى من ذلك بنحو 30 قرشا.

وقد اتفق أصحاب شركات صرافة ومسؤولون بشعبة الصرافات التابعة لاتحاد الغرف التجارية مع التوقعات حول انخفاضات متتالية للدولار الاميركي مقابل الجنيه المصري، خلال الفترة المقبلة.

وتوقع علي الحريري سكرتير عام شعبة الصرافات المصرية وصاحب احدى الشركات أن يصل الدولار قرابة 5.30 جنيه خلال الشهرين المقبلين وقبل نهاية العام الجاري على حد قوله، مدعوما بزيادة المعروض بالصرافات والبنوك المصرية، ونجاح سياسة البنك المركزي المصري في ضبط السياسة النقدية والقضاء على سوق الصرف «السوداء» قبل 3 سنوات.

وأكد الحريري أن استمرار انخفاض الدولار الاميركي مقابل الجنيه المصري يعطي مؤشرا لتحسن قيمة الثاني وانخفاض أسعار السلع بالأسواق كنتيجة مباشرة لزيادة الواردات وانخفاض تكلفتها، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث عمليا كما يقول الحريري لان التضخم الذي يزيد في الأشهر الأخيرة بوضوح وخاصة في السلع الغذائية التي تجاوز فيها 12.5 % في الشهرين الأخيرين وهي أهم ما يعني المواطن العادي.. تولى التضخم حرمان الجنيه من الشعور بزهو القوة سواء أمام الدولار أو غيره من العملات الدولية وتراجعت قيمته الشرائية الى حد كبير وبأعلى من أرقام التضخم الرسمية.

وكانت سوق الصرف المصرية قد شهدت في نهاية تعاملاتها بالبنوك والصرافات استمرار تراجع الدولار مقابل الجنيه ليسجل 5.48 جنيه للشراء و5.47 جنيه للبيع (الخميس الماضى)، وهو ما أرجعه الحريري إلى حدوث زيادة في الطلب عليه من خلال آلية الانتربنك الدولاري بين البنوك.

ولفت الأنظار أن شركات الصرافة عرضت لأول مرة أسعارا اقل في الأيام الماضية عن البنوك حتى تصد إقبال راغبي البيع وشهدت سوق الصرف حركة بيع ملحوظة للعملة الأميركية وتحويلها الى جنيه خوفا من مزيد من الانخفاض، وهو ما أكده أصحاب شركات الصرافة الذين أضافوا أن فارق سعر الفائدة الصافي بين الجنيه والدولار يبلغ 3% لمصلحة الأول وكان المودع يضحي بالفارق عندما كانت القيمة الرأسمالية للدولار في صعود أو على الأقل متماسكة، غير انه الآن سيعيد حساباته. وقال عمرو الجنايني رئيس قطاع المعاملات الخارجية بالبنك التجاري الدولي «مصر» ان الدولار فقد اكثر من 150 قرشا من قيمته مقابل الجنيه منذ بدء تطبيق سياسة الصرف الجديد قبل نحو 3 سنوات حيث كان سعره وقتذاك أكثر من 7 جنيهات. وعلى صعيد متصل، أثار انخفاض الدولار مقابل الجنيه العديد من المخاوف بالاوساط المالية والتجارية والمصرفية المصرية، رغم أن هذا الاتجاه يعكس تحسن العملة الوطنية ومؤشرات الاقتصاد المصري.

وزاد الطلب من المستوردين المصريين على الدولار لانخفاض سعره، الأمر الذي وصفه محمد جابر الرئيس التنفيذي لإحدى شركات الصرافة بانه انتهاز للفرصة، مشيراً إلى اتجاه بعض العملاء الى التخلص مما في حوزتهم من دولار وتحويله وربط ودائع في البنوك المصرية بالجنيه لثبات سعر الفائدة عليه نسبيا مقارنة بالفائدة المنخفضة على الدولار الذي هبط أميركيا ربع نقطة لم تكن الأخيرة وربما لن تكون بعد الاجتماع الأخير للفيدرالي الأميركي.

على صعيد البنوك، جدد انخفاض سعر الدولار دعاوى الاوساط المصرفية إلى إعادة النظر في الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي وعدم ربطها فقط بالدولار والاتجاه جديا الى تكوين سلة عملات للاحتياطي لتفادي مخاطر انخفاض العملة.

وحذر احمد آدم المشرف على الفروع باحد البنوك الخاصة من التأثيرات السلبية لانخفاض الدولار على حصيلة البنوك، في ظل زيادة المعروض من العملة الأميركية، مشيرا إلى ضرورة تصريفها من خلال فتح الاعتمادات المستندية لاسيما ان الانخفاض المتتالي للدولار ربما يحقق فروق تقييم عملة سلبية، حسب رأي آدم، مما يحتم على البنوك ضرورة توظيف ما لديها من دولار واستثماره سريعا.

واستبعد عمرو توفيق مدير عام العمليات المصرفية بالبنك المصري الخليجي أية تأثيرات سلبية على الاستثمارات الأجنبية المباشرة نتيجة انخفاض الدولار، مؤكدا أن سعر العملة يأتي ضمن حزمة من المؤثرات تشمل عوامل سياسية وتشريعات اقتصادية بالاضافة الى القضاء على الروتين والبيروقراطية.

ودعا توفيق إلى تكوين سلة عملات لدى البنك المركزي للاحتياطيات الدولية البالغة 29.6 مليار دولار حسب احصائيات المركزي للشهر قبل الماضي، بدلا من ربط نسبة اكبر مما يتطلب الموقف من الاحتياطي بالدولار فقط، محذرا من تأثر هذا الاحتياطي سلبا بانخفاض سعر صرف الدولار مقابل الجنيه والعملات الأجنبية الأخرى.

وحذر المدير العام بالمصري الخليجي من تأثيرات الانخفاض على حركة السياحة الوافدة الى مصر حيث سيلجأ السائحون الى أماكن أخرى رخيصة.

من جانبه، قال محمد المصري رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية إن انخفاض الدولار مقابل الجنيه يسهم في زيادة اسعار المنتجات التي يتم تصديرها مما يؤثر سلبا على الصادرات المصرية وعلى قدرتها التنافسية. أما المهندس صفوان ثابت عضو مجلس ادارة اتحاد الصناعات المصرية فقال إن انخفاض الدولار وارتفاع اليورو مقابل الجنيه يسهم في ارتفاع فاتورة الغذاء في مصر.

واستبعد ثابت أية تأثيرات سلبية على الاستثمارات الاجنبية المباشرة جراء انخفاض الدولار، وقال «إن الاقتصاد الأميركي لا يزال الأقوى بين اقتصاديات العالم سواء شئنا ام ابينا وبالتالي فان الدولار هو الأقوى بين العملات الأجنبية».