تذبذب في الموازنات والدخل.. والنفط ظل المصدر الرئيس منذ 7 عقود

«الشرق الأوسط» تقدم رصدا للواقع المالي السعودي منذ عهد المؤسس.. الميزانية الأولى بدأت بـ 106 ملايين قرش

TT

76 عاماً تفصل بين أول موازنة عامة وضعت في السعودية بصورة منهجية، وآخر ميزانية للدولة التي أعلنت يوم أمس الاثنين، وتطورت مراحل إعداد الميزانية في السعودية وإجراءاتها تبعا للمراحل التي مرّ بها التنظيم الإداري للبلاد ونمو مواردها المالية.

وسجلت ميزانية الدولة عام 1350هـ (1931)، وهي أول موازنة للمملكة ـ الحجازية والنجدية ـ وملحقاتها، مبلغا قدره 106.442.544 قرشا أميريا (9.677.049 ريالا)، (الريال العربي يساوي أحد عشر قرشا أميريا)، في حين بلغت ميزانية الدولة لهذا العام 410 مليار ريال (109.3 مليار دولار).

أما أول ميزانية موحدة لجميع المقاطعات في البلاد فقد صدرت عام 1365هـ (1945م)، وبلغت مائة واثنين وسبعين مليونا وتسعمائة وخمسة وعشرين ألفا وثلاثمائة واثني عشر ريالا (172.925.312 ريالا).

واتضح وفقا لجدول موازنات الدولة لبعض الأعوام من 1931 إلى 1954، التي سجلها العقيد الدكتور إبراهيم بن عويض العتيبي، في دراسته التاريخية لتنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز وغطت الفترة من عام 1924 إلى 1953، اتضح أن الميزانية في الحجاز ونجد كانت في سنة 1350هـ (1931)، في وضع أفضل من السنوات التي جاءت بعدها. فقد تقلصت الميزانية في عام 1932، بنسبة 40 في المائة تقريباً عن ميزانية 1931. ثم انخفضت في سنة 1933، بنسبة 20 في المائة تقريبا عن موازنة العام السابق لها. وبعد ذلك بدأ الانحدار التدريجي في الميزانية حتى وصل إلى أدنى مستوى عام 1940، في حين سجلت موازنة عام 1944، رقما وصل إلى أكثر من 104 ملايين ريال، ثم زاد في السنة التالية بنسبة 70 في المائة، لتتوالى بعد ذلك الزيادات في الميزانية حتى بلغت عام 1374هـ (1954)، ثلاثة عشر ضعف ما كانت عليه عام 1944، بإجمالي قدره مليار وثلاثمائة وخمسة وخمسون مليون ريال (1.355 مليار ريال)، وهي آخر ميزانية صدرت في عهد الملك المؤسس، وتمثل هذه الميزانية خير تمثيل الأساليب الناجعة التي أمر الملك عبد العزيز باتخاذها لتحسين موارد الدولة. كما أن معطيات هذه الميزانية تبين أوجه الانفاق الحكومي في تلك الفترة.

وفي قراءة لجدول ميزانية السعودية في ذلك العام، يتضح أن الواردات التقديرية بلغت مليارا وثلاثمائة وخمسة وخمسين مليون ريال عربي، منها 274.374.500 ريالا عربيا استثمار الزيت، و69.225 مليون ريال ضريبة الدخل، و5.150 مليون واردات الزكاة، ومبلغ 80 مليون ريال واردات الجمارك، ومبالغ أخرى كرسوم المرافئ والموانئ والمحاجر، والضريبة العقارية والخطوط السعودية، وإيرادات سكة الحديد، وغيرها من المؤسسات الحكومية.

وأوضح جدول الموازنة لعام 1954، أن مجموع الإيرادات من ذلك بلغ 1.143.010.500 ريال عربي، إضافة إلى مبلغ 211.989.500 ريال عربي، من الاحتياطي العام ليصبح المجموع الكلي 1.355 مليار ريال عربي. كما بلغت المنصرفات التقديرية المبلغ نفسه، وتراوحت المصروفات ما بين ميزانيات القطاعات الحكومية المختلفة، ومشاريع عامة منها 3 ملايين ريال لإنشاء محطة للإذاعة، ومليون ريال لحساب مستشفى الناصرية، وأكثر من 128 مليون ريال لحساب ديون السنين السابقة، وخصص لوزارة الدفاع والطيران أكثر من 472 مليون ريال، منها 192 مليون ريال لتشكيلات البادية والحرس الوطني، ومبلغ 6 ملايين ريال نفقات الرحلات الملكية. وخصصت في الميزانية للعام ذاته حوالي 82 مليون ريال لوزارة الداخلية وقطاعاتها المختلفة من إمارات وأوقاف والأمن العام والجوازات والجنسية وفرق المطافئ وخفر السواحل وأم القرى، ومبلغ 45 مليون ريال عربي لوزارة المعارف، إضافة إلى توزيع بقية الميزانية على القطاعات الحكومية. كما خصصت في منصرفات الميزانية لعام 1954، أكثر من 26 مليون ريال عربي كقواعد سنوية للرؤساء ومشايخ القبائل، إضافة إلى حوالي 7 ملايين ريال للرواتب الشخصية الشهرية، ومبلغ 800 ألف ريال فقط كمعاشات للتقاعد، ومبلغ 8 ملايين ريال صدقات، وتم تقسيم المتبقي من الميزانية على مصاريف أخرى حسب القطاعات.

وتشير المعلومات التاريخية عن التنظيم المالي وتطوره في عهد الملك المؤسس، إلى أن التنظيمات المالية التي أحدثها الملك عبد العزيز تتطور جنباً إلى جنب مع تطور التنظيمات الإدارية، نظرا للعلاقة الوطيدة بينهما. وقد استفاد الملك عبد العزيز من الأسس التنظيمية التي وجدها في الحجاز التي تعد أكثر المناطق تقدما من حيث تطور التنظيمات المالية، فضلا عن انفتاح المنطقة على العالم الخارجي، ولمكانة الحجاز الدينية. وقد مثل ذلك بداية انطلاقة الملك في تنظيمات البلاد المالية التي بدأت بعد انضمام الحجاز وانتهت بتوحيد نظم وتنظيم الدوائر المالية في السعودية بعد ربع قرن من بداية أول تنظيم اتخذ للدوائر المالية على أساس أن أول تنظيم مالي اتخذ في الحجاز كان عام 1344هـ (1925)، وأول ميزانية موحدة لجميع مناطق المملكة صدرت عام 1365هـ (1945).

وعندما دخل السلطان عبد العزيز آل سعود، الحجاز، وجد أن الدوائر التي كانت تشرف على الشؤون المالية غير موجودة في إدارة واحدة، بمعنى أنه كانت هناك عدة دوائر مالية، وكل دائرة مالية تتبع إداريا الحاكم الإداري في منطقتها ويتم الصرف من وارداتها على الإدارة المحلية، ويحوّل بعض منها إلى رئاسة الأموال بجدة، التي كان لها الإشراف على ماليات الملحقات بحكم موقع مدينة جدة التجاري.

لذلك فما أن انتهت الحرب في الحجاز حتى كلف الملك عبد العزيز الهيئة التأسيسية بإعادة تنظيم الدوائر الحكومية ومنها دوائر المالية، فاقترحت تشكيل إدارة للمالية بمكة المكرمة لتكون على مقربة من الحكومة المركزية مع الإبقاء على رئاسة الأموال بجدة مؤقتا. فصدر أمر ملكي بالموافقة على تشكيل إدارة مالية مكة المكرمة في أوائل شهر فبراير (شباط) من عام 1926، وبقيت رئاسة الأموال في جدة تعمل بشكل منفصل عن إدارة مالية مكة المكرمة. وأثناء ذلك تشكلت النيابة العامة في مكة المكرمة، وتطلب التنظيم الإداري وجود رؤساء الدوائر الحكومية في مكة بالقرب من الحكومة المركزية (النيابة العامة)، فأمر الملك عبد العزيز بإنشاء إدارة تشرف على جميع الدوائر المالية في الحجاز باسم «مديرية الأمور المالية»، وأسندت رئاستها إلى الشريف شرف رضا.

ومع أن توحيد الدوائر المالية قد تم نظرياً، إلا أنها في الواقع العملي لم تتوحد مباشرة، لأن رئاسة أموال جدة بحكم خبرتها السابقة في الأمور المالية ظلت مرجعا لجميع ماليات الملحقات وجمرك جدة، وبخاصة أنه لم تصدر تعليمات تحدد صلاحيات ومسؤوليات كل إدارة. لكن ملامح توحيد الدوائر الحكومية بدأت تظهر عندما صدرت التعليمات الأساسية عام 1927. فأصبحت مديرية الأمور المالية تتكون من مالية مكة المكرمة وإدارة الجمارك والمحاسبة وأمانات أحوال الملحقات ـ بما فيها مالية جدة، بعد أن تغير مسماها من رئاسة الأحوال، إلى أمانة الأموال ـ ومجموع الدوائر ذات الواردات، على أن ترتبط هذه الإدارات بمدير واحد مرجعه النائب العام. ثم صدر أمر ملكي عام 1927، بتوحيد جميع الدوائر المالية في الحجاز في إدارة واحدة مقرها مكة المكرمة، وتعيين عبد الله سليمان الحمدان مديرا لها. وألحق بهذه المديرية كل إدارة ذات طابع مالي أنشئت بعد ذلك، مثل أمانة الطوابع التي استحدثت في العام ذاته. وهكذا أصبحت مديرية الأمور المالية مرجعا لعموم ماليات الحجاز، فاستدعى ذلك إعادة تنظيم الأمور المالية، مما تطلب رفع الإدارة إلى وكالة وصدر نظام وكالة المالية عام 1928، لأنها توسعت في تشكيلاتها التنظيمية ومقدرتها الإدارية وبقي عبد الله سليمان الحمدان وكيلا لها. وفي نفس العام، استحدثت إدارة لتنظيم الإنفاق الحكومي في الوكالة عرفت باسم «لجنة الميزانية». وعندما بدأت الأزمة المالية عام 1931، استقدمت الدولة خبيرا ماليا من هولندا يدعى فان لي ون، ليساعدها على تنظيم مواردها. وفي عام 1932 صدر مرسوم ملكي بتأسيس وزارة المالية في مكة المكرمة. وأصبح عبد الله سليمان الحمدان وزيرا لها، وحمد سليمان الحمدان وكيلا للوزارة. وبعد أسبوع من تأسيسها صدر نظام الوزارة وبموجبه أعيد تشكيل الوزارة من ديوان للوزارة وشعبة إدارية ومحاسبة عمومية ومفتشية عامة وماليات الملحقات في الحجاز. وأصبح للوزارة 13 فرعا. كما صدر أمر ملكي بنقل الصندوق العمومي من جدة إلى مقر وزارة المالية في مكة المكرمة ليكون تحت إشراف الوزير مباشرة، وأصبح على جميع الفروع توريد حاصلاتها أسبوعيا لصندوق الوزارة بمكة المكرمة حتى يتسنى للوزارة ضبط الواردات بصورة دقيقة. وتوسعت أعمال الوزارة وكبرت مسؤولياتها، وكثرت أعباؤها حتى أصبحت تشرف على معظم الدوائر الحكومية القائمة في تلك الفترة. وألحق بوزارة المالية على فترات مختلفة عدة دوائر، وصدر للوزارة على 1937، نظام داخلي، أعقب ذلك إقرار عمليات تنظيم شاملة واحداث تغييرات في تنظيم الوزارة وفروعها في الحجاز، وما لبثت أن شملت مالية مقاطعة الأحساء، وذلك في محاولة من الدولة لتحسين وسائل مواردها باستغلال ثرواتها الطبيعية، خاصة اكتشاف النفط والبدء في تصديره، ثم البدء في التنقيب عن المعادن، ليضاف إلى ذلك التوسع الإداري في معظم أجهزة الدولة مما جعل الدوائر المالية القائمة آنذاك تصبح عاجزة عن التكيف مع الوضع الإداري والمالي الجديد. لهذا استقدمت الوزارة في عام 1939، خبيرا ماليا من سورية هو خيري عبد الهادي ليساعدها في وضع التعليمات الخاصة بالقيود المالية ونظام الجباية والكفالات والمستودعات الحكومية.

وسعت الوزارة في الوقت نفسه إلى مد إشرافها على بقية مناطق السعودية تدريجيا، وحددت الأنظمة مهام وزارة المالية برسم السياسة المالية للدولة، وذلك بتقدير حجم الواردات، وإعداد الميزانية في ضوئها، ومراقبة تنفيذها بعد إقرارها بتحصيل رسوم الجمارك والضرائب والزكاة، والإشراف على أملاك الدولة، وضبط الحسابات الجارية، وإصدار التعليمات التي تؤدي إلى تحسين أساليب العمل في جميع الدوائر المالية أو الإدارية التي تشرف عليها الوزارة.