كبير الاقتصاديين بمركز دبي المالي: العملة الخليجية قد تصبح ثالث أقوى عملة في العالم

ناصر السعيدي لـ «الشرق الأوسط» : على الخليجيين تبني سياسة أكثر مرونة تجاه أسعار الصرف.. والتضخم الإماراتي سيعود إلى مستويات 2002

TT

حث الدكتور ناصر السعيدي، كبير الاقتصاديين في مركز دبي المالي العالمي، دول الخليج على تبني سياسات اكثر مرونة تجاه اسعار صرف عملاتها الوطنية المرتبطة بالدولار، داعياً المجموعة الى تبني سلة عملات يغلب عليها الدولار. وقال السعيدي في حوار مع «الشرق الاوسط» في دبي، انه يجب احترام الموعد المحدد لإطلاق العملة الخليجية الموحدة عام 2010، متوقعا ان تصبح ثالث او رابع اقوى عملة في العالم اذا خططت الحكومات الخليجية بصورة جيدة للمستقبل. وقال السعيدي الذي كان قد شغل وزارة الاقتصاد في لبنان في عهد حكومة الرئيس سليم الحص، ان الارتباط بالدولار منع من تطوير اسواق مالية ونقدية في المنطقة ومنع البنوك المركزية الخليجية من امتلاك ادوات مالية قادرة على تحريك السوق. وفيما يلي نص الحوار:

> شهدنا في الاشهر القليلة الماضية تصاعد الجدل في الخليج حول ارتباط العملات المحلية بالدولار، والدعوات الى ايجاد حلول مناسبة للتخفيف من آثار انخفاض العملة الاميركية إلا ان الاسواق شعرت بتناقضات واضحة سواء في التصريحات أو في سقف التوقعات. فما الذي حدث بالضبط؟

ـ أهم امر نشأ عن هذا الجدل ان العملة الخليجية الموحدة ما زالت قائمة. فمن وجهة نظر الاسواق المالية، فإن الالتزام بهذا القرار مهم جدا وكذلك احترام تاريخ اطلاق العملة الموحدة عام 2010 الذي حدد سابقا. ولفهم ما يحدث يجب التركيز على دور الاسواق المالية التي كما نعرف استقبلت رساميل ضخمة نتيجة ارتفاع اسعار النفط. كما ان فائض الميزان التجاري بالنسبة لحجم الاقتصاد اصبح في حدود 25 في المائة وهذا فائض ضخم. وازداد احتياطي العملات الاجنبية ثلاث مرات ونصف خلال تلك الفترة. وبالإجمال، اصبح لدينا تراكم اموال اكبر مما تستوعبه دول الخليج ولهذا السبب ظهر ما يسمى صناديق الثروة السيادية، لكن الذي لم يذكر الى الآن هو عدم وجود اسواق مالية لاستيعاب هذه الرساميل. هناك الآن فرصة نادرة لتلعب اسواقنا دورها الكامل في اقتصاداتنا. هذا يتطلب توحيد الاسواق في دول الخليج؛ فهذه الاسواق حاليا هي صغيرة نسبيا وتفتقر الى سهولة التعامل. واذا استطعنا الوصول الى سوق مالية مشتركة للاسهم والسندات والادوات المالية ككل، فمن الممكن برأيي ان تبرز دول الخليج كسوق مالي رئيسي في العالم، بل اذا عرفنا كيف نخطط للمستقبل، فإن العملة الخليجية الموحدة قد تصبح ثالث او رابع أقوى عملة في العالم. اليوم هناك الدولار واليورو وبعض العملات الاخرى كالين والاسترليني والفرنك السويسري، وهما يلعبان دورا رئيسيا في التعامل المالي والنقدي وفي الاسواق المالية طبعا. لكن اذا ركزنا على حجم اقتصادات المنطقة ونسب النمو التي تشهدها اليوم، فقد تصبح دول الخليج خلال 20 عاما خامس اكبر قوة اقتصادية في العالم اذا استمرت نسب النمو والانماء التي نشهدها حاليا. ويجب ان نركز في الوقت نفسه على ان تتمتع العملة الموحدة بالمصداقية والثبات مع نسب تضخم متدنية حتى يمكن ان تصبح ركيزة للاقتصاد العالمي. هذا يتطلب تنمية اسواقنا المالية وربطها وتوحيدها خلال اطار زمني معين ويتطلب ايضا في الوقت نفسه تنسيق سياساتنا النقدية، فهذا قرار مهم. اما الربط بالدولار الاميركي، فقد كان اساسا لضبط التضخم واعطاء توجيه للسياسة النقدية. وحاليا، فإن حاجات السياسة النقدية والمالية في الولايات المتحدة موجهة للتعامل مع مشكلتين هما: تباطؤ النمو للوصول الى ما يسمى بـ«الهبوط السلس» للاقتصاد والذي يتطلب تخفيض اسعار الفائدة، والثاني معالجة مشكلة الرهونات العقارية التي تتطلب تخفيض اسعار الفائدة وضخ سيولة في السوق، وهذا ما قام به البنك المركزي الاميركي بالفعل. هذه السياسة تناقض السياسة المالية في الخليج الذي يسجل نسب نمو قياسية وضغطا في الطلب مقابل محدودية العرض كما نشهد مثلا في الوحدات السكنية. كما شهدنا نسب تضخم مرتفعة بل وقياسية مما يتطلب رفع اسعار الفائدة لا خفضها. ما نراه اليوم ان اسعار الفائدة الفعلية هي سلبية. فعندما تكون نسبة الفائدة بين 5 الى 6 في المائة ونسبة التضخم بين 7 الى 8 في المائة فإن الفوائد الفعلية سلبية. هذا يشجع على الاستهلاك والاستثمار والطلب وبالتالي صار لدينا تناقض في هذه السياسات (النقدية). والارتباط بالدولار منع تطوير اسواق نقدية ومالية لأننا اعتمدنا دائما على الدولار الاميركي. ما المطلوب اذا؟ المطلوب مرونة اكبر بالنسبة لسعر الصرف كيف يمكن تحقيق ذلك؟ عن طريق هامش تحرك بالنسبة للتسعير بنسب 3 او 4 او ربما 5 في المائة، او ـ وهذا ما احبذه اكثر ـ الربط بسلة عملات مكونة من الدولار واليورو والين بنسبة 50 و40 و10 في المائة على التوالي برأيي. هذه السلة، تعطي ركيزة ثابتة لربط عملاتنا ويعطينا مرونة كافية. فإذا كان الدولار يشكل 50 في المائة من السلة ووضعنا هامش تسعير بنسبة 2.5 في المائة مثلا فهذا يعني السماح بتحرك الدولار بنسبة 5 في المائة من كل جهة. هذا يسمح ايضا للبنوك المركزية في المنطقة بامتلاك ادوات مالية قادرة على تحريك السوق، وهي ادوات غير متوفرة (لها) حاليا. فعدم تطور السوق النقدي والمالي (في المنطقة) هو نتيجة عدم امتلاك ادوات مالية تستطيع البنوك المركزية بيعها وشراءها. هي تستخدم اليوم شهادات الايداع، بينما المفروض ان تكون لديها صكوك وسندات خزينة وغيرها تسمح للبنوك المركزية تخفيض او زيادة السيولة حسب الحاجة. وبالتالي علينا في هذه المرحلة وهذا يتطلب تغييرا هيكليا للاسواق لتلعب هذا الدور ان نفكر قليلا في «خارطة طريق» حتى نصل الى عملة موحدة والهدف منها ان تصبح بعد 15 او 20 عاما عملة رئيسية على مستوى الدولار واليورو. > الملاحظ ان ارتفاع التضخم في دول المنطقة هو موضوع الساعة دائما، ما هي توقعاتكم للعام الجديد 2008؟

ـ ارتفاع نسب التضخم في المنطقة يأتي من مصدرين: مصدر داخلي يتمثل في السلع والخدمات التي لا تدخل في التجارة العالمية وهذه ارتفعت اسعارها بصورة كبيرة. وتقديرنا انها تمثل ما بين 50 و60 في المائة من ارتفاع نسب التضخم. هذا كان بسبب ارتفاع الطلب بنسب مرتفعة بدون عرض كاف بمقابله. والتوقعات في 2008 وخاصة بالنسبة لدبي والامارات ان العرض سيزيد في السوق العقاري والسكني وستتراجع عام 2008-2009 نسب التضخم الى المستويات التي شهدناها عام 2002. وبالنسبة للمصدر الخارجي، فقد انخفض الدولار عامي 2006 و2007 بمستويات قياسية تراوحت بين 20 و25 في المائة مقابل العملات الرئيسية. هذا الانخفاض لن يستمر في 2008 واذا حدث ضعف فسيكون محدودا. وبالتالي، فإن النسبة الاكبر من التضخم المستورد مرت وانتهت. وعندما نتحدث عن تضخم مستورد فالامر يتعلق بانخفاض مستمر ومتواصل للدولار، لكن نتوقع في العام الجديد تحسنا نسبيا للدولار او استقراره. > التقارير الاقتصادية في العالم تبدي تشاؤماً كبيراً تجاه الأداء الاقتصادي العالمي عام 2008.. كيف ترى العالم من خلال منظارك؟ ـ هذه التقارير والتحليلات التي تتحدث عنها هي رهينة فكر اقتصادي مستمر منذ 20 عاما لمحللين في الولايات المتحدة واوروبا. هذا الاطار الفكري لم يتطور ليأخذ في الاعتبار التطورات التي تشهدها الاسواق الناشئة والاسواق في آسيا، أي بروز الصين والهند كمحركين للاقتصاد العالمي. الاحصاءات تشير الى ان آسيا تمثل 40 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي، كما ان الصين والهند ساهمتا خلال السنوات الخمس الماضية في اكثر من 50 في المائة من النمو العالمي. وبالتالي فإن الفكرة التي تقول ان الاقتصاد الاميركي هو محرك الاقتصاد العالمي ليست فكرة واضحة وليست لها تلك الاهمية اليوم. لقد حدث انفصال ـ والجدل حاليا إن كان هذا الانفصال جزئيا او كاملا ـ بين الاقتصادات الناشئة والاقتصاد الاميركي، وتأثير الاخير على اقتصادات المنطقة او آسيا اصبح اضعفَ مما كان في الماضي. كما يلاحظ ان هناك فرقا بين التحليلات التي ظهرت قبل آب (اغسطس) الماضي وبعده على اثر ازمة الرهون العقارية الاميركية. فتلك التي ظهرت بعد آب تنظر الى 2008 بتشاؤم على اساس مدى تأثير سوق الرهون العقارية على الاستهلاك الاميركي ومن ثم على الاستيراد الاميركي من باقي دول العالم وتأثر النمو العالمي بهذا. هنا يجب ان ننظر الى امرين؛ أولهما تأثير انخفاض الثروة السكنية او اسعار المساكن على الاستهلاك. وبينت الدراسات كلها ان كل 10 في المائة زيادة او نقصا في الثروة السكنية يمكن ان تزيد او تنقص الاستهلاك السنوي بحدود 15 الى 20 نقطة أي اقل من 1 في المائة. وحتى الآن، لم نشاهد انخفاضا كبيرا في الثروة السكنية. صحيح ان اسعار المنازل سجلت اول انخفاض لها في 15 عاما الا انها كانت بحدود 2-3 في المائة. وحتى لو زادت الى 10 في المائة وطالت كل القطاع السكني فإن تأثير ذلك سيكون محدودا على الاستهلاك، وبالتالي سيكون له تأثير محدود على الاقتصاد العالمي. والامر الثاني يتعلق بالسوق الائتماني، وخاصة تأثيره على القطاع المصرفي. لهذا العامل بالطبع تأثير وقد يكون عالميَّ النطاق لكن له شروط. وحتى الآن، عرفنا تأثير ذلك على الشركات الكبرى مثل مورغان ستانلي وسيتي بنك ويو بي اس وغيرها. والتقديرات تشير الى ان الخسائر قد تصل الى ما بين 250-300 مليار دولار. وبعض التوقعات تضعها في مستوى 400 مليار دولار، لكن هذا لن يؤدي الى انهيار المصارف برأيي. ما سيحدث هو اعادة النظر في شروط الائتمان السكني. وفي الوقت نفسه، هناك وعي لدى المسؤولين عن السياسة النقدية والائتمانية في اميركا ان التشدد الفوري قد يزيد من حدة الازمة وبالتالي ستكون هناك مرونة في التعامل مع هذا الموضوع، وهذا ما قاد مثلا الى تحرك في تخفيض اسعار الفائدة وزيادة السيولة ومناقشة امكانية اعادة النظر في شروط الائتمان. هل هذا سيؤدي الى ازمة مالية عالمية؟ طبعا لا، بل قد تؤثر على القيمة السوقية لبعض الشركات وتؤثر على شروط الائتمان ككل. هل سيقود هذا الى ركود الاقتصاد الاميركي؟ لا اعتقد. قد نرى تأثيراً على نسب النمو المتدنية باطراد اصلا كأمر طبيعي في الدورة الاقتصادية، واظن اننا لن نشهد ركودا. وحتى اذا حدث تغيير بنسب النمو فإننا نتحدث عن فرق نمو من 2.5 ـ 3 في المائة وليس عن نمو صفري او متراجع. > هل هذا يعني أنك أقل تشاؤماً أم اكثر تفاؤلا مقارنة بهذه التقارير حول الأداء الاقتصادي العالمي عام 2008؟ ـ أنا اكثر تفاؤلا. أغلب هذه التقارير تعتقد ان المركز هو اميركا. برأيي ان هناك تغييرا هيكليا حدث في الاقتصاد العالمي يتجه اكثر نحو الشرق .. نحو آسيا. وحينما نتحدث عن الاسواق الناشئة هناك ايضا اميركا اللاتينية وآسيا الوسطى وروسيا. هذه اقتصادات تكبر بسرعة، وربما تعوض تراجع الاداء. كما ان السوق الاوروبية تكبر وتتوسع بسرعة والانتاجية تزيد نتيجة سهولة انتقال اليد العاملة داخل اوروبا ما يعني ان توقعات النمو بالنسبة لاوروبا هي افضل مما كانت عليه سابقا، وهي مرتبكة اكثر مع منطقتنا ومع آسيا. وبرأيي ما يحصل في اميركا سيظل محصورا بالسوق الائتماني والمصرفي الاميركي مع بعض التأثيرات السلبية على بعض المصارف العالمية في اوروبا واليابان وهذا محدود جدا الى الآن. > وماذا عن اقتصادات المنطقة عام 2008؟ الى أيِّ حد أنت متفائل؟ ـ انا متفائل عام 2008 بأن النمو الحالي جاء بصورة اساسية من زيادة الاستثمارات وليس لارتفاع اسعار النفط. في السبعينات والثمانينات ادى ارتفاع اسعار النفط الى زيادة الاستهلاك وتنفيذ بعد المشروعات، ولم يؤد الى خلق فرص عمل ونمو مستدام. وفي التسعينات لم تكن المنطقة قد اندمجت مع الاقتصاد العالمي، وبالتالي لم تشهد نسب نمو مرتفعة بل نسب توازي عدد السكان فلم تحصل زيادة في الدخل الفردي خلال السنوات الخمس او الست الماضية وحدث تغيير جذري في هذه الاقتصادات. والانطلاق كان مع ارتفاع اسعار النفط. واليوم هناك مشروعات هائلة في البنى التحتية والأهم من ذلك مشاركة القطاع الخاص في النمو. فبدءاً من 2003، ارتفعت نسبة الاستثمارات الحكومية في البنى التحتية خاصة ـ والامارات كانت في الطليعة. وبدءا من 2005 بدأت منطقة الخليج تشهد زيادة في استثمارات القطاع الخاص وبدأ يشارك القطاع العام في مشاريع البنى التحتية. ما نشهده اليوم لم يعد مرتبطا بأسعار النفط بل بنسب الاستثمارات المرتفعة، ولهذا تتحقق نسب النمو المرتفعة. > لكن أسعار النفط المرتفعة كانت عاملا حاسما ايضا؟ ـ طبعا، لكن هل سيزول النمو اذا انخفضت اسعار النفط؟ لا، لقد حدثت تغيرات هيكلية. واليوم، يتم تنفيذ مشاريع بقيمة 1300 مليار دولار في دول الخليج. هذه ستخلق فرص عمل. كما حدث تغيير في السياسات الاقتصادية التي تسمح بتنويع النشاط الاقتصادي والسماح للقطاع الخاص بالمشاركة بصورة افضل. لهذه الاسباب، ستظل نسب النمو هذه مرتفعة خلال السنوات الاربع او الخمس المقبلة.