من المحيط إلى الخليج.. غلاء الأسعار «يكوي» فقراء العرب

مخاطر سياسية متفجرة يحملها التذمر الشعبي خصوصاً بين الطبقات الوسطى

آثار الغلاء بدت واضحة في جميع العواصم العربية («الشرق الاوسط»)
TT

ينظر إلى تصدر ارتفاع أسعار المواد الغذائية عناوين الأخبار الرئيسية على أنه ظاهرة حديثة نسبياً، فإن التصاعد الأوسع نطاقاً في أسعار السلع الأولية لم يكن وليد اللحظة بل إنه بدأ عام 2001.

وتجلت التحولات الهيكلية الكبيرة في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك نمو الطلب في الصين والهند، بصورة مطردة في الزيادات التي تشهدها أسعار السلع الأولية، وبخاصة أسعار المعادن والطاقة. وترجع الزيادة التي شهدتها أسعار المواد الغذائية إلى العديد من العوامل، منها ارتفاع أسعار منتجات الطاقة والأسمدة وزيادة حجم الطلب على الوقود الحيوي، وبخاصة في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وموجات الجفاف التي ضربت أستراليا وبلدانا أخرى.

وانخفض المخزون العالمي من الحبوب إلى أدنى مستوى له، وتعتمد أسعار العام المقبل على مدى نجاح موسم الحصاد القادم في النصف الشمالي من الكرة الأرضية. وارتفعت أسعار القمح (مقومة بالدولار الأميركي) بأكثر من200 في المائة، كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بصفة عامة بحوالي 80 في المائة منذ بداية هذا القرن. ومن شأن تعديل الأسعار وفقاً لأسعار الصرف ومعدلات التضخم أن يؤدي إلى تخفيض الزيادات في الأسعار التي تواجهها البلدان النامية، ولكن تلك الزيادات ما زالت شديدة الوطأة على ملايين المستهلكين من الفقراء.

وفي الوقت الذي يجني فيه منتجو النفط في دول الخليج العربية عائدات وفيرة من ارتفاع أسعار الخام يعاني أبناء عمومتهم الاقل حظا في الدول العربية الاخرى الامرين من جراء ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. ويرتفع التضخم في دول الخليج لعوامل من بينها الإنفاق لإيرادات النفط والغاز القياسية. ويحفز هذا ايضا الطلب على كل شيء من الاسكان الى الكهرباء والماء. كما تضررت دول الخليج التي تربط عملاتها بالدولار من جراء الضعف العالمي للعملة الاميركية الذي يغذي التضخم من خلال رفع تكلفة بعض الواردات. لكن مواجهة ارتفاع الاسعار مسألة أصعب بكثير في العواصم العربية المحرومة من ثروات النفط. ومن القاهرة الى صنعاء يتعين على الحكومات العربية ومعظمها شمولية الموازنة بين التكلفة المالية لدعم الوقود والغذاء والمخاطر السياسية المتفجرة للسخط الشعبي.

ويتذمر جهاد الأمين، الذي يملك متجراً لتنظيف الملابس في دمشق، قائلا «لم يعد هناك أي شيء رخيص. حتى البقدونس الذي كان برخص التراب تضاعف سعره الى ثلاثة أمثاله» بحسب ما اوردته أمس وكالة رويترز. وتعصف زيادات أسعار الغذاء بشدة بالفقراء في الشرق الاوسط مثلما هو الحال في دول نامية مستوردة للغذاء في شتى أنحاء العالم لكن أي قلاقل في هذه المنطقة قد تكون لها مضاعفات تتجاوز كثيرا نطاقها.

يقول روبن لودج، المتحدث باسم برنامج الاغذية العالمي ومقره روما، «نظرا لان الشرق الاوسط منطقة بالغة الحساسية، فانه يتعين علينا متابعته بحرص بالغ». ويضيف «عواقب الاستياء والغضب في الشرق الاوسط يمكن ان تكون سياسية أكثر منها في أي مكان آخر. كما أن التفاوت الهائل في توزيع الثروة أمر آخر ينبغي أخذه بالاعتبار».

ويتولى برنامج الاغذية العالمي إطعام نحو أربعة ملايين شخص في مصر والعراق وسورية واليمن والاراضي الفلسطينية المحتلة.

وفي الامارات والبحرين، أثار مزيج من ارتفاع الاسعار وهبوط القوة الشرائية للدولار أعمال شغب واحتجاجات من العمال الاجانب الذين يعيش كثير منهم في عنابر بائسة وسط ناطحات السحاب ومعارض السيارات الرياضية. وقفز التضخم في شتى أنحاء المنطقة. ففي السعودية بلغ التضخم السنوي 8.7 في المائة في فبراير (شباط) مسجلا أعلى مستوى في 27 عاماً. وقدر مؤشر اقليمي تعده وحدة المعلومات في مجلة «ايكونوميست»، ولا يحسب اجمالي الناتج المحلي، أن التضخم في الشرق الاوسط وشمال افريقيا بلغ 8.9 في المائة في العام الماضي.

تقول كارولاين بين المحررة في هذه الوحدة بلندن «نتوقع ارتفاع المؤشر الى 9.9 في المائة هذا العام و8.5 في المائة العام المقبل. انه ليس رقما عاليا، ولكنه يأتي من منطقة كان التضخم فيها طفيفا للغاية دائما مع بعض الاستثناءات». وربما تتنامى مشاعر السخط مع تراجع مستويات معيشة الطبقات الوسطى في العالم العربي بسبب التضخم وازدياد جوع الفقراء ولكن بعض المحللين يتشككون في أن يؤدي هذا الى ثورة سياسية.

يقول لرويترز، لويس حبيقة، استاذ مادة الاقتصاد في جامعة نوتردام في لبنان «إن التأثير هو الفقر والاضطراب الاجتماعي وتفاقم البؤس الذي يعيش فيه الناس. ولكن الامر لن يتجاوز هذا بسبب القمع السياسي».

ومع ذلك، فان المشكلة عالمية ولن تزول بسهولة. وهنا يقول لودج من برنامج الاغذية العالمي «نحن نشهد تراجعا سريعا في مخزونات الغذاء وارتفاعا حادا في الاسعار، وذلك أساساً بسبب ارتفاع أسعار الوقود وتنامي الطلب من الاقتصادات الناشئة والى حدٍّ ما بسبب تأثير صناعة الوقود الحيوي» وفقا لما اوردته رويترز. وزادت أسعار الحبوب والبقول والزيوت النباتية التي يشتريها برنامج الاغذية بنسبة 40 في المائة خلال الشهور الستة الماضية.

وذكر لودج أن أسعار المواد الغذائية في سورية زادت 20 في المائة خلال الشهور الستة الماضية. وفي اليمن وهو من أشد الدول العربية فقراً تضاعف سعر القمح الى مثليه منذ فبراير (شباط)، في حين زادت أسعارُ الأرز والزيوت النباتية 10 في المائة خلال شهرين. ويواجه المستهلكون خيارات صعبة حيث يستولي بند الغذاء على القسم الاكبر من ميزانية الاسرة وربما لا يترك سوى القليل للرعاية الصحية والتعليم.

وقال نضال مخلوف، وهو تاجر جملة في رام الله بالضفة الغربية، ان زبائنه يقلصون مشترياتهم من كل شيء عدا السلع الضرورية. واضاف «هذا الارتفاع العالمي الجنوني للأسعار حد من الشهية للشراء».

وفي لبنان، قال رياض سلامة حاكم المصرف المركزي إن القوة الشرائية للبنان مبعث قلق بعد ان انخفضت بين عشرة و15 في المائة العام الماضي بسبب ارتفاع أسعار النفط والسلع الاولية وهبوط الدولار أمام اليورو.

وفي اليمن الذي يستورد حوالي مليوني طن متري من القمح سنوياً يشكل مثالاً على كيف يمكن لارتفاع أسعار المواد الغذائية أن يؤدي إلى ازدياد معدلات الفقر. فبعد عامٍ من التضخم القياسي، من الممكن أن يؤدي ارتفاع أسعار القمح ومنتجاته بواقع الضعف إلى ازدياد عدد الفقراء في عمومه بما نسبته 6 نقاط مئوية.

ويقول بيير زغبي، عضو مجلس الادارة المنتدب في شركة مينسبرنج لتوريد الاغذية والمشروبات، ان أسعار الاغذية المستوردة بما فيها منتجات الالبان زادت 145 في المائة منذ أواخر عام 2007. ويضيف «أنه أمر مذهل ومرعب في نفس الوقت». ويلقي زغبي باللوم في ذلك على اليورو القوي. والليرة اللبنانية مرتبطة بالدولار. ويقول زغبي «تغيرات العملة تؤثر علينا كثيرا». وتتفاوت استجابة الحكومات العربية لهذه التطورات. فقد تحركت عدة دول خليجية لتخفيف تأثير ارتفاع أسعار الغذاء والمساكن من خلال زيادة اجور مواطنيها مما يهدد بتغذية التضخم المحلي.

لكن العديد من السعوديين شعروا بالاحباط من زيادة بلغت خمسة في المائة في اجور موظفي القطاع العام في يناير (كانون الثاني) بعد أن رفعت الدول الخليجية المجاورة الرواتب بنسب أكبر. وأعلنت السعودية هذا الاسبوع خفض الرسوم الجمركية على المواد الغذائية مثل الدجاج المجمد ومنتجات الالبان والزيوت النباتية ومواد البناء.

وتضغط دول مثل مصر وسورية واليمن، وهي من صغار مصدري النفط الذين يتراجع انتاجهم، على ميزانياتها بشدة للابقاء على الدعم الذي يعد حيويا لشعوبها. وقررت مصر هذا الاسبوع الغاء الرسوم الجمركية على بعض السلع الاساسية. وفي مصر أيضا، حيث يعيش أكثر من 14 مليون نسمة بأقل من دولار واحد يوميا قفز التضخم الى أعلى مستوى في 11 شهرا عند 12.1 في المائة في فبراير (شباط) وذلك أساسا بسبب ارتفاع أسعار الغذاء.

وطوال عقود كانت مصر توفر الخبز بأسعار رخيصة للفقراء للمساعدة في سد الرمق ودرء شبح السخط الاجتماعي. بيد أن الطوابير المتراصة أمام المخابز للحصول على الخبز المدعم ازدادت طولا هذا العام واشتعلت الأعصاب ومنذ اوائل فبراير لقيَّ 11 مصريا حتفهم في طوابير الخبز.

وقال رئيس الوزراء، أحمد نظيف، لرويترز في مارس (آذار) ان الذين كانوا مستعدين يوما ما لدفع سعر أعلى للحصول على الخبز غير المدعم لم يعد بامكانهم تحمل هذا الثمن الآن مما فاقم الطلب على الخبز المدعم.

وحظرت الحكومة المصرية تصدير الارز اعتبارا من ابريل (نيسان) وحتى اكتوبر (تشرين الاول) لخفض الاسعار المحلية. وتتعرض دول الخليج الغنية لضغوط من أجل زيادة المساعدات المالية للدول العربية الاقل ثراءً لتخفيف معاناتها من جراء ارتفاع تكلفة استيراد النفط والغذاء. لكن مثل هذه المساعدات كانت مرتبطة في السابق عادة باعتبارات سياسية. ويقول برنامج الاغذية العالمي انه ينبغي لدول الخليج بحث زيادة المساعدات المقدمة للوكالات الدولية التي تحاول تخفيف حد الفقر في المنطقة.

ويقول لودج «ينبغي أن تكون الثروة النفطية مصحوبة بقدر من المسؤولية، خاصة ان سعر النفط الذي يجعل هذه الدول تزداد ثراءً من العوامل التي تزج باعداد متزايدة من الناس في براثن الفقر بسبب الغذاء».