بريطانيا: تحذيرات من انهيار سوق العقارات على الطريقة الاميركية

صندوق النقد رسم صورة متشائمة وسط توقعات بتخفيض أسعار الفائدة

الاسواق العقارية البريطانية تمر بفترة من الحرمان على صعيد القروض («الشرق الاوسط»)
TT

تواجه بريطانيا تباطؤا كبيرا في سوق الاسكان، فقد توقع اخر تقرير لوكالة التصنيف الائتماني «ستاندرد آند بورز»، ان يتبع سوق الاسكان في بريطانيا على الارجح، سوق الولايات المتحدة في عملية التصحيح الحاد. كما تتسابق البنوك والمؤسسات المالية والعقارية على سحب منتجاتها وقروضها العقارية او رفع كلفة الرهون العقارية مع تفاقم ازمة الائتمان العالمي ونقصان السيولة في الاسواق، فضلا عن تزايد المخاوف الاقتصادية.

فقد أدت أزمة الائتمان العالمية الى تضرر الاقتصاد البريطاني، الذي تجنب الركود منذ بداية التسعينات، وكان الافضل اداء بين مجموعة السبع الصناعية. ويتوقع اغلب الخبراء ان يتراجع النمو الاقتصادي في بريطانيا الى النصف تقريبا، مرجحين ان يبلغ في العام الحالي 1.6 في المائة، وهو أدنى معدل نمو منذ عام 1992. لا بل أن مؤسسة «ليمان بروذارز» تذهب أبعد من ذلك حيث تشير توقعاتها الى ان هناك احتمال 35 في المائة ان يتعرض الاقتصاد البريطاني للركود. فأسعار المنازل في بريطانيا، التي كانت محركا للنمو على مدى العقد الماضي، آخذة في الهبوط، والجنيه انخفض حوالي 11 في المائة مقابل اليورو منذ سبتمبر (أيلول)، عندما اضطر بنك انجلترا للتدخل من اجل انقاذ بنك نورذرن روك. وكانت اسعار العقارات البريطانية قد ارتفعت بأكثر من 170 في المائة منذ وصول حزب العمال الى السلطة في عام 1997. وأشار بنك انجلترا (البنك المركزي) الى ان أزمة الائتمان العالمية وضعت الاقتصاد البريطاني على مسار النمو الابطأ منذ 16 سنة، مبينا ان البنوك البريطانية تتوقع تراجعا أكبر في الرهون العقارية في الربع الثاني من العام الحالي، بعد ان تراجعت منح الرهون العقارية بنحو 40 في المائة في الربع الاول من عام 2008. وفي السياق ذاته رسم صندوق النقد الدولي في احدث تقرير له عن الوضع الاقتصادي في بريطانيا صورة متشائمة، حيث أشار الى ان اسعار العقارات في بريطانيا هي الاكثر عرضة للتغيرات والتراجعات الحادة بين دول العالم الصناعي، بسبب ما تمتعت به من طفرات عقارية (ارتفاع الاسعار) متلاحقة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية. وحذر التقرير، من مخاطر إنهيار الاسواق العقارية على صحة الإقتصاد الوطني، مؤكدا ان بريطانيا وايرلندا وفرنسا وهولندا اكثر الدول الاوروبية عرضة للتصحيح الحاد لاسعار العقارات.

واوضح التقرير، ان العقارات في بريطانيا اعلى من سعرها الحقيقي بنحو 30 في المائة، ويصعب تبرير هذه النسبة، إذ ما اخذنا بعين الاعتبار مسائل العرض والطلب ومعدل الحد الادنى للاجر العام.

وعلى الارجح ان يعزز ما جاء في التقرير المخاوف من ان تتعرض اسواق العقار البريطانية لما تعرضت له الاسواق في الولايات المتحدة وتنهار على نفس الشاكلة، مما سيؤدي الى تبعات وخيمة على الاقتصاد. ولهذا كان صندوق النقد قد حذر مرارا خلال الفترة السابقة، من مخاطر ارتفاع اسعار العقارات غير المبرر في بريطانيا، في ظل عدم بناء منازل جديدة بالحجم المطلوب على الصعيد الوطني.

ودعا النقد الدولي الى اخذ البنوك المركزية في الحسبان، اسعار العقارات واسواقها، عند اتخاذ أي قرار بشأن معدل الفائدة العام. واعتبر البنك ان اتباع هذه النصيحة واخذها في الحسبان (خصوصا عندما ترتفع الاسعار بوتائر تصاعدية يصعب السيطرة عليها)، قد يؤدي الى استقرار الاسواق ودعم الاقتصاد.

وفي هذا السياق يتوقع العديد من المحللين ان تتراجع اسعار المنازل والعقارات في بريطانيا بنسبة 25 في المائة قبل نهاية العام 2010. هذا ما يؤكده العديد من خبراء الاقتصاد والقطاع العقاري. وخلال الاسبوعين الماضيين جاءت معظم التقارير لتؤكد هذا الاتجاه بقوة.

وأظهر آخر مسح لمؤسسة هاليفاكس، أكبر مؤسسة للاقراض العقاري في بريطانيا، أن أسعار المساكن هبطت 2.5 في المائة في مارس (آذار) عن الشهر السابق وهو ما جاء أسوأ كثيرا من توقعات السوق بانخفاض نسبته 0.4 في المائة.

وتمثل تلك البيانات أكبر انخفاض شهري في أسعار المساكن منذ هبوطها بنسبة ثلاثة في المائة في سبتمبر (ايلول) 1992 وتوحي بأن وتيرة هبوط سوق المساكن في بريطانيا ربما تشهد تسارعا. من جهتها قالت مؤسسة «نيشن وايد» العقارية في بريطانيا في تقريرها الاخير، ان اسعار المنازل تتراجع منذ خمسة اشهر على التوالي، متوقعة انخفاض الاسعار في عام 2008.

وأشارت المؤسسة الى ان النمو في قطاع العقارات في بريطانيا تراجع في الربع الاول من العام الحالي بنحو (ناقص 1.7 في المائة)، بينما تراجع النمو على اساس سنوي الى 2.2 في المائة من 6.9 في المائة في الربع السابق.

وبحسب التقرير فان جميع مناطق بريطانيا سجلت تراجعا خلال الربع الاول من العام الحالي. وهبط متوسط أسعار المنازل 0.2 في المائة في شهر مارس (اذار) في حين انخفض معدل النمو السنوي الى 0.4 في المائة وهو الابطأ منذ مارس 2006. وهو الامر الذي أكدته ايضا مؤسسة «هوم تراك» العقارية والذي اكدت ان الاسعار تواصل انخفاضها للشهر السادس على التوالي. وهنا قال ريتشارد دونيل المدير العام لمؤسسة «هوم تراك» ان «استمرار الشكوك في الاسواق المالية، وضغوط القدرة على تحمل التكاليف وضعف الثقة لدى المشتري من المحتمل ان تكبح جميع مستويات نشاط السوق في الاشهر المقبلة مع استمرار مستويات الاسعار تحت الضغط».

وهناك اتفاق بين الخبراء الاقتصاديين على ان قطاع العقارات تباطأ والأسعار في طريقها للمزيد من الهبوط. وفي هذا الاطار توقع هوارد ارشر كبير الاقتصاديين في بريطانيا لدى مؤسسة «غلوبال انسايت» للابحاث، ان تتراجع اسعار المنازل بنحو بنسبة 5 فى المائة فى عام 2008.

وقدمت مؤسسة «كابيتال اكونوميكس» الاقتصادية في لندن توقعات متطابقة. كما ان مركز ابحاث الاقتصاد والاعمال البريطاني، رغم انه يختلف في اللغة فقط مع المتشائمين، من خلال الحديث عن «هبوط ناعم»، لكنه يتوقع ان تشهد الاسعار انخفاضا بنحو 3 في المائة في عام 2008.

في حين ان مؤسسة «لومبارد» للبحوث تتوقع هبوطا حادا في اسعار المنازل بنحو 10 في المائة. وبالمحصلة فان الخلاف ليس على الهبوط او عدمه، بل على نسبة ذلك الهبوط في القطاع العقاري وسرعته.

ويقول الخبير في الوسط المالي والعقاري في لندن، ايد ستانفورد، من مؤسسة «كابيتال اكونوميكس» المعروفة، ان هذا هو المتوقع في حال تواصلت ازمة الائتمان الدولية وتعمق انعدام الثقة لدى المستهلك بالاقتصاد بشكل عام.

وتقول المؤسسة في آخر تقرير لها ان اسعار العقارات ستسجل تراجعا وانخفاضا بنسبة 5 في المائة هذا العام (2008) وبنسبة 8 في المائة العام المقبل (2009)، وان البطالة سترتفع في بريطانيا من 5.3 في المائة الى 7.5 في المائة. من ناحيته يقول الاقتصادي في مؤسسة «مورغان ستانلي» الدولية، ديفيد مايلز بهذا الخصوص ان اسعار العقارات ستدخل مرحلة التصحيح وتنخفض بنسبة 20 في المائة على الاقل. وهذا يعني ان المواطنين الذين اشتروا عقاراتهم خلال العامين الماضيين سيجدون انفسهم تحت الخط الاحمر.

وعلى صعيد الاسعار ايضا، اكد التقرير الاخير لبنك «نيشن وايد» الذي يعتبر من اكبر «مؤسسات الإقراض العقاري» المعروفة بالـBuilding society، ان اسعار العقارات ستسجل تراجعا سنويا يعتبر الاول لها منذ انهيار سوق العقار عام 1992، إذ تواصل الانخفاض في الاسعار للشهر الخامس على التوالي. وتشير الخبيرة الاقتصادية في البنك، فيوناويلا ايرلي، «الى ان النمط في تراجع الاسعار خلال الاشهر الماضية، تعني ان التراجع السنوي يصل الى 6 في المائة وانه سيواصل التراجع في المستقبل القريب. ولهذا النمط عادة تأثير كبير على حجم الصفقات العقارية ومستوى الاسعار. وهذا يحصل عندما يقرر الكثير من الناس البقاء في منازلهم وعقاراتهم والانتظار لمعرفة ما سيحصل للاسواق في المستقبل». الخبر «السعيد» الوحيد لأصحاب العقارات في تقرير «نيشن وايد» ان التراجع في الاسعار هذا العام ربما لن يكون حادا، بل بطيئا على حد تعبير التقرير، ما من شأنه اعطاء الاسواق العقارية المضطربة ومنحها بعض الاستقرار الذي تحتاجه. من جهة اخرى، سُجل تراجع كبير في عدد الباحثين عن المنازل والعقارات، خلال الاشهر القليلة الماضية وخصوصا في فبراير (شباط) الماضي، تحت تأثير عدم الاستقرار الذي تعيشه الاسواق والأسعار وأزمة الائتمان الدولية والمحلية التي لعبت دورا كبيرا في كبح جماح الاسواق العقارية.

فقد أشار تقرير «هيئة سماسرة العقار الوطنية» (NAEA)، ان معدل عدد الباحثين عن المنازلهم لدى المكاتب العقارية انخفض من 276 في يناير (كانون الثاني) الى 243 في فبراير الماضي، وهذه اكبر نسبة انخفاض تسجل في هذا القطاع مذ انهيار سوق العقار عام 1992 ايضا.

ويوضح التقرير، كما اكد العديد من الخبراء سابقا، ان سوق العقارات السكنية حاليا هو «سوق المشتري»، بحيث اتسعت الهوة بين سعر العرض وسعر المبيع ووصلت نسبتها الى 4.5 في المائة ( أي ان صاحب المنزل الذي يريد البيع سيضطر الى تخفيض السعر لاتمام أي صفقة). كما ارتفعت معدل عدد العقارات التوفرة للزبائن للإنتقاء والإختيار، إذ هناك 74 منزلا معروضا لكل زبون. وقد تراجع عدد المبيعات ايضا في فبراير (شباط) الماضي بنسبة 13 في المائة، رغم ان معدل المبيعات الشهري لدى السماسرة يبلغ 8 عقارات او منازل. وسجلت الهيئة ايضا تراجعا في نسبة عدد المشترين للمرة الاولى، من 14.5 في المائة في يناير (كانون الاول) الى 11.7 في المائة في فبراير وهو ايضا تراجع مهم ولع تأثير سلبي على سوق العقار السكني.

ومع هذا تأمل الهيئة ان يؤدي الراجع العام في الاسعار الى تشجيع الزبائن والراغبين بشراء منازلهم للمرة الاولى بدخول السوق وبالتالي تحركيه وإنقاذه من سباته.

وحسب ستيوارت ليلي، رئيس «هيئة سماسرة العقار الوطنية»، ان هذا، انعكاس طبيعي للمناخ الحالي الذي يعيشه سوق العقار. وقد ساهم كل من ازمة الائتمان وتراجع ثقة المستهلك في مواصلة الضغط على السوق العقاري، مؤكدا ان حركة الاسواق العقارية في وسط لندن وبعض المناطق والمدن الاخرى (خصوصا اسكوتلندا)، على ما يرام وتنشط كما كانت تنشط عادة في السابق قبل ازمة الائتمان. الاهم من هذا «ان امامنا وقتا طويلا قبل ان نرى مصاعب الثمانينات تكرر نفسها من جديد».

وفي الاطار ذاته توقع ايضا تقرير بنك «هاليفاكس» الاخير (وهو ايضا من اكبر بنوك الإقراض العقاري في بريطانيا)، ان تتعرض الاسعار الى الركود خلال العام الحالي. ويتوقع ان يتخذ بنك انجلترا (البنك المركزي) عدة خطوات وتخفيضات حتى منتصف العام المقبل حتى يصل معدل الفائدة الى 3.5 في المائة، في محاولة لدعم الاقتصاد والسوق العقاري وبالتالي احتواء أي اتجاه نحو الركود بسبب ازمة الائتمان الدولية.

وكانت معظم البنوك الكبرى وجمعيات الإقراض العقاري قد حذرت البنك من انها ستلجأ الى تخفيض عدد المنتجات والقروض العقارية التي ستوفرها للمواطنين، خلال النصف الثاني من هذا العام، بسبب صعوبة الحصول على السيولة وغلاء القروض بين البنوك نفسها.

وهذا التحذير ترافق مع لجوء الكثير من البنوك ومؤسسات الإقراض العقاري الى التوقف عن منح القروض الكاملة للمشترين للمرة الاولى وسحب الكثير من المنتجات التي كانت معروضة في الاسواق بشكل لم يسبق له مثيل في بريطانيا.

ومن آخر تلك المؤسسات المالية الرئيسية في بريطانيا التي لجأت ايضا الى سحب عروضها الخاصة بمعدلات الفائدة الثابتة «ابي ناشنال» بعد ان لحق بكل من «فيرست دايركت» (First Direct ) التابع لهاليفاكس و«البنك التعاوني» (Cooparetive Bank ). ولجأت بعض البنوك في خطوة مفاجئة ايضا، ورغم تدخل المركزي، الى رفع كلفة القروض لديها وتشديد شروط منحها، ومنها بنكا «سكوتيش ويدوز» (Scottish Widows) و«نت وست» (Natwest). ويتوقع ان تلحق العديد من البنوك، وتتخذ خطوات مماثلة، إذ تواصلت ازمة الائتمان. وقد سجلت التقارير الاخيرة حصول تراجع ضخم في معدل القروض العقارية الممنوحة خلال الفترة الاخيرة، وصلت نسبته 40 في المائة. وتراجع اكبر في انواع المنتجات العقارية (القروض) المعروضة في الاسواق، من 13 الف منتج الى 4 آلاف، أي ما نسبته حوالي 77 في المائة.