هل بدأ العد التنازلي لفقدان الدولار مكانته العالمية؟

يتربع على العرش منذ عام 1945

لا يزال الدولار حتى الآن هو العملة المسيطرة (خدمة «كي.آر.تي»)
TT

يواجه الدولار الأميركي، الذي كان رمزاً للهيمنة العالمية، خطراً مع الهبوط الحاد في قيمته وهجر المستثمرين له. خلف الأخبار ذات العناوين الجذابة عن الأزمة الائتمانية والانهيار في قطاع الإسكان في الولايات المتحدة وتجارب الاقتراب من الموت لـ«نورذرن روك» و«بير ستيرنز»، يأتي أكثر الأخبار أهمية عن الانخفاض المفاجئ لقيمة الدولار الأميركي. وهبط الدولار بحدة أمام منافسيه الأساسيين، وهما اليورو والين الياباني، مما دفع الاقتصاديون إلى الحديث عن فقدان الدولار لمكانته كعملة الاحتياطي العالمي، الذي احتفظ به منذ عام 1945. وكتب المعلقون نعياً لوفاة الدولار في الكثير من المناسبات طوال الأربعين سنة الماضية، وخاصة في أواخر السبعينات وأوائل التسعينات من القرن العشرين، عندما تراجع الأداء الاقتصادي الأميركي أمام الاقتصاد الياباني والألماني. فما الذي اختلف اليوم؟

هناك إجابتان عن هذا السؤال: العولمة ووجود منافس للدولار، هو اليورو، وهو عملة لكتلة اقتصادية في نفس قوة الاقتصاد الأميركي. ولم تجد كل من ألمانيا أو اليابان فرصة لانتزاع عرش الدولار وذلك نتيجة لصغر حجم اقتصاداتهما مقارنة بالاقتصاد الأميركي. أما اليوم، فأصبحت الكتلة التجارية لدول الاتحاد الأوروبي تضاهي الولايات المتحدة، وهي في طريقها إلى الزيادة بانضمام أعضاء جدد إلى الاتحاد الأوروبي. ويرى جيفري فرانكل من جامعة هارفارد أن الدولار «يستطيع أن يتفوق على الدولار في غضون 10 سنوات». ويقول إن الأسباب وراء هبوط الاقتصادي الأميركي طويل الأجل تكرر الحديث عنها، إلا أن هناك سببا دائما يتمثل في العجز الحالي الكبير في الحساب الجاري، والذي تعمل الحكومة على سده بالاقتراض من دول دائنة، خاصة الصين ودول الخليج الغنية بالنفط. وإذا استمر الدولار في التراجع، وقد هبط بمعدل 52 في المائة مقابل سلة من العملات منذ عام 1985، فلن ترغب الدول الأخرى في الاستثمار في أصول دولارية، (الأمر الذي يساعد على معادلة النقص الحالي في الحساب الجاري). وتشمل هذه الأصول الأسهم وسندات الحكومة الأميركية والأوراق المالية المضمونة بالرهون العقارية وديون الشركات الأميركية الكبيرة. ويقول فرانكل: «سوف تفقد الولايات المتحدة «الامتياز الكبير» الذي كانت تحظى به، والمتمثل في قدرتها على تمويل العجز الدولي بسهولة». كما أن هناك تلميحات تتعلق بالسياسة الطبيعية، والتي يبرزها فرانكل بوضوح قائلاً: «في الماضي، كان من السهل التحكم في العجز الأميركي لأن الحلفاء كانوا على استعداد لتكبد خسائر مالية من أجل دعم القيادة الأميركية للعالم». في الستينات من القرن العشرين، قامت ألمانيا بموازنة نفقات وجود الجنود الأميركيين على أراضيها من أجل إنقاذ أميركا من عجز ضخم في ميزان المدفوعات. وفي عام 1991، كانت السعودية والكويت واليابان على استعداد لتحمل نفقات الحرب على العراق، وذلك في محاولة لسد العجز في الحساب الجاري الأميركي. ولكن هل تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد على حلفائها في المستقبل؟ يشك فرانكل، والبروفسور منزي شين من جامعة ويسكنسون، في حدوث ذلك. وفي بحث أجرياه أخيراً، شبه الاثنان الوضع الحالي بالهبوط الذي أصاب الجنيه الإسترليني في النصف الأول من القرن العشرين، وكان ذلك جزءاً من نموذج كبير فقدت فيه بريطانيا تفوقها الاقتصادي ومستعمراتها وقوتها العسكرية، علاوة على مميزات الهيمنة الدولية.

ويتساءل البعض حول ما إذا كانت الولايات المتحدة قد بدأت في مسارها نحو «تجاوز إمبريالي»، خلفاً للإمبراطورية البريطانية، وذلك على خلفية عجز في الميزانية آخذ في الاتساع ومغامرات يملؤها طموحات عسكرية في العالم الإسلامي. وكثيراً ما نتذكر أزمة قناة السويس عام 1956 عندما دفعت الضغوط الأميركية بريطانيا إلى التنازل عما تبقى من مخططاتها الإمبريالية. وفي هذه المناسبة، يجب علينا أن نتذكر أيضاً أهمية التدافع على شراء الجنيه الإسترليني، والمقترن بقرار الرئيس آيزنهاور بعدم تقديم أي دعم من صندوق النقد الدولي إذا لم تسحب القوات البريطانية قواتها من مصر. إلا أن الولايات المتحدة ليست في نفس الوضع الذي كانت عليه بريطانيا وقت أزمة قناة السويس. ويتوقع الكثير من المحللين أن يسترد الدولار بعضاً من مكانته بنهاية العام الحالي. ويقول بول أشوورث من «كابيتال إكونوميكس»: «لا نرى هزيمة للدولار من هنا. فمعظم الأخبار السيئة عن الأزمة الاقتصادية وكوارث القطاع المصرفي قد تم حسابها بالفعل عند حساب سعر العملة الأميركية».

وعلى الرغم من ذلك، يفكر ستيفن كينغ، الاقتصادي العالمي من بنك «إتش إس بي سي» (HSBC)، في إمكانية أن يفقد الدولار مكانته البارزة كعملة احتياطي، إلا أنه يشكك في احتمالية أن يحل اليورو محله. ويوضح أنه إذا تعرض الاقتصاد الأميركي للركود، فإن ذلك سيؤثر سلباً على الاقتصادات الأوروبية وعلى كل أنحاء العالم. ويضيف كينغ: «من الصعب إسقاط الدولار من الحسبان. من المؤكد أن الدولار سوف يتخبط في القاع لفترة من الوقت. فعندما تواجه أزمة مصرفية كهذه، يتطلب الأمر وقتاً طويلاً لإصلاحها قد يمتد إلى سنتين أو ثلاث سنوات. ولكن لماذا تقوم البنوك المركزية بالتخلص من الدولار فجأة؟ هذا من شأنه أن يقلل من قيمة أصولهم الدولارية الضخمة، ولا تنسوا، فالصين تمتلك احتياطيا أجنبيا يقدر بحوالي 1.5 تريليون دولار أمريكي».

ويقر كينغ أن البنوك المركزية لا يزال بوسعها أن تنوع استثماراتها ببطء بعيداً عن الدولار، وبذلك تسعى إلى مجموعة من البدائل، وليس اليورو فحسب. وفي وقت ما في المستقبل البعيد، قد يصبح كل من الرنمينبي الصيني، وعملات أخرى من دول ناشئة، جزءاً من الحقيبة الاستثمارية للبنوك المركزية. وقد اتخذ المستثمر الأميركي الأسطوري وارين بوفيه قراره بالفعل. ففي العام الماضي، كانت عملية الصرف الأجنبي الوحيدة التي قامت بها شركة بيركشاير هاثاواي، والتي يرأسها بوفيه، تنحصر في شراء البيزيتا، عملة البرازيل، والتي تضاعفت قيمتها بالمقارنة مع الدولار الأميركي خلال خمس سنوات. ويوضح كينغ أن اعتماد أميركا على الآخرين لسد عجزها قد سرع من صعود قوى أخرى، والتي سوف تتحدى الهيمنة الأميركية في يوم من الأيام. وطبقاً لهذه النظرية، تصبح الولايات المتحدة، إلى حد ما، ضحية العولمة. ويذكر كينغ إسبانيا في القرن السادس عشر كمثال على ذلك. وكانت أسبانيا في هذا الوقت قوة عظمى إقليمية والمنتج الأكبر للفضة والذهب، وذلك لاستعمارها أميركا الجنوبية. وكانت أسبانيا تنفق أكثر مما ينبغي، وتستورد السلع من الاقتصادات الناشئة، مثل هولندا وفرنسا وبريطانيا والسويد والدنمارك. وفي الوقت الذي كانت تعمل فيه هذه الدول على توفير متطلباتها، أنتجت إسبانيا بشكل غير مقصود شريكاً تجارياً، وهو بريطانيا، التي اخترعت سفن حرب متقدمة تكنولوجيا لمحاربة «الأرمادا» التي لا تقهر (أسطول إسبانيا الحربي). وبعد مئات السنين، أصبحت الولايات المتحدة دولة مستدينة، الأمر الذي أجبرها على التخلي عن بعض من قوتها الاقتصادية إلى الصين والهند والبرازيل، وهذا يفسر إلى حد كبير سبب اصطدام الدولار بالعملات الأجنبية. إن ظهور اقتصادات جديدة قد شجع الشركات في الغرب على إدخال دول أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا الوسطى في عمليات الإنتاج، حيث يتلقى العامل دولاراً واحداً في الساعة، بدلاً من 30 دولاراً، كما هو الحال في الغرب. وعلى خلفية هذه الأحداث، فإن هبوط الدولار وانخفاض قيمته، حتى في أثناء نمو قوي للاقتصادي الأميركي، لم يكن أمراً غير متوقع. ويقول بول ماكل، وهو استراتيجي عملات في بنك «إتش إس بي سي» إن البنوك المركزية «أدركت منذ فترة أنها لا ترغب في زيادة مفرطة لما تمتلكه من دولارات. فقد انخفض إجمالي ممتلكات البنوك المركزية في أنحاء العالم الموجودة في صورة دولارات من 73 في المائة إلى 64 في المائة».

وكان اليورو هو المستفيد الأكبر، فقد ارتفعت حصته من 18 في المائة إلى 26 في المائة. كما تضاعفت ممتلكات البنوك المركزية من الجنيه الاسترليني في غضون خمس سنوات، لتصل إلى 5 في المائة. ولا يرى الاقتصادي تيم كونجدون أن أهمية الدولار ستقل، موضحاً أن الولايات المتحدة لا تزال المصدر الرئيسي للتكنولوجيا العسكرية، والتي يتم شراؤها مقابل الدولار. وطبقاً لكونجدون، فهذا يجعل ما تقوم به بعض الدول، مثل تايوان، من ربط عملتها بالدولار أو المخاطرة بدفع مبالغ طائلة من أجل شراء أدوات عسكرية بعملة ضعيفة، أمراً مفهوماً. وهناك سؤال أكثر إلحاحاً عن المدى الذي سوف تسمح به السلطات الصينية لعملتها بالانخفاض أمام الدولار. فقد ضغطت الولايات المتحدة على الصين من أجل إعادة تقييم عملتها، وذلك في محاولة لوقف فيضان الواردات الصينية الرخيصة إليها. وفي واقع الأمر، فلقد سمحت الصين لعملتها بالارتفاع أمام الدولار بمعدل بلغ تقريباً 8 في المائة سنوياً، مما يعكس قوتها الاقتصادية الآخذة في النمو.