السعودية: حرب استقطاب «كفاءات» تشتعل في القطاع المالي وترفع سقف أعلى مرتب لـ213 ألف دولار

«مؤسسة النقد» تبدي مخاوف من زيادة «تدوير القوى العاملة».. والبنوك تلجأ لخيارات جديدة لكسب ولاء الموظف

السعودية تشهد تجاذبا بين الشركات والمؤسسات في القطاع المالي والمصرفي للظفر بالكفاءات المؤهلة الشحيحة (تصوير: خالد الخميس)
TT

تشتعل في السعودية حالياً «حرب خفية» بين البنوك والمؤسسات المالية وشركات الوساطة والاستثمار ودخلت أخيراً شركات التأمين، ساحتها كسب الكوادر المحلية والأجنبية العاملة في البلاد والفوز بعقود عمل معها، إذ تجري حالياً محاولات تلك المنشآت العاملة على استقطاب الموارد البشرية ذات الكفاءة.

وأدى إلى تلك المعركة الخفية في كواليس السوق المالية والمصرفية السعودية، توجه الدولة لفتح سوقها المالية أمام المؤسسات والبنوك العالمية في جهود تبذل لصناعة مالية ومصرفية ذات مستوى دولي تتواكب مع طفرة الاقتصاد المحلي وتعزز من مكانة أضخم سوق مالية في الشرق الأوسط.

وأفصحت لـ«الشرق الأوسط» مصادر عاملة في نشاط الموارد البشرية أن البنوك المحلية والدولية وشركات الوساطة والتأمين تتسابق حاليا لاستقطاب المصرفيين ومديري المحافظ ومنفذي عمليات المالية والتقنيين الماليين وكفاءات الأجهزة الإدارية والإجرائية المتعلقة، في وقت تشهد فيه السوق نقصا حادا في الكوادر المؤهلة، مما يفتح الباب على مصراعيه لتصاعد عروض مرتبات الكفاءات الحالية إلى مستويات عالية جدا. وقال لـ«الشرق الأوسط» سلطان العماش، المدير العام التنفيذي لشركة «إنترسيرش» السعودية، المتخصصة في التوظيف، أن هناك نقصا كبيرا في الكوادر البشرية، وخصوصا منها المؤهلة لشغل الوظائف القيادية والتنفيذية، مبينا أن المنافسة أصبحت كبيرة نظراً للخلل في ميزان العرض والطلب لكفة الوظائف المتاحة، مما أدى إلى أن يصبح القطاع المالي من أكبر القطاعات المتأثرة سلباً بزيادة حدة المنافسة على الكوادر البشرية لديها، كونها مغذية ليس فقط للبنوك التجارية والاستثمارية وشركات الوساطة والتأمين الجديدة فحسب، ولكن لقطاعات كبيرة أخرى تعتمد على جلب موظفي البنوك من أبرزها الشركات العقارية والشركات القابضة وكذلك الشركات التجارية.

وذهب في ذات الاتجاه، الدكتور سعيد الشيخ، كبير الاقتصاديين في البنك الأهلي التجاري السعودي، الذي أفصح أن الأزمة تمر بكافة مكونات القطاع المالي بصفة عامة، والبنكي على وجه التحديد نتيجة التوسع في خلق قطاع خاص مالي، مما أدى إلى تزايد الطلب على الكوادر والبحث عن المدرب منها مما يصعب الوفاء بمتطلباته في وقت قصير في ظل المنافسة الشرسة للظفر بتوقيع القوى العاملة المتخصصة.

وكانت مؤسسة النقد العربي السعودي صرحت عن تخوفها من جراء الاستقطاب والتنافس الحالي مع تزايد الحاجة إلى الكوادر في المجالات المالية والمصرفية والاستثمارية بل ذهب محافظها حمد السياري إلى القول إنها تمثل أبرز التحديات التي تواجه القطاع المالي في الوقت الحاضر.

وأبدى السياري مخاوفه تلك خلال مشاركته ضمن فعاليات المنتدى الاقتصادي نظمه معهد التمويل الدولي أواخر العام الماضي، لافتا إلى أن أهم التحديات التي يواجهها القطاع المالي الزيادة الكبيرة في الطلب على المهارات نتيجة توسع البنوك والشركات المالية في أعمالها، إضافة إلى إنشاء شركات الخدمات المالية وشركات التأمين وخدماته من المهن الحرة مما يشكل ضغطا كبيرا على المتوفر من المهارات الفنية في هذا التخصص.

ويمكن اعتبار محافظ «مؤسسة النقد» أول من أشار إلى خطورة الطلب المتزايد مقابل الشح القائم رسميا، حيث أكد أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع فاحش في مرتبات عروض العمل، وبالتالي تنعكس سلبيا على استقرار العمل جراء تدوير القوى العاملة.

ووفق ما ذكره السياري تحديدا: «لوحظ أثر زيادة الطلب على الكوادر في ارتفاع ملحوظ في أجور تلك المهارات المتخصصة وتنافس الشركات المالية على اجتذابها، وأرجو ألا تؤدي المبالغة في هذا التنافس إلى زيادة تدوير القوى العاملة في هذا القطاع بشكل يؤثر على استقرار العمل في شركاته».

في هذه الأثناء، دخل على خط منافسة استقطاب الكوادر البشرية المؤهلة لاسيما ما يخص التقنية والمصارف، بعض الشركات في دول آسيوية تنادي الكفاءات من بلدها لاستقطابهم من دول الخليج والمنطقة العربية بل تؤكد على قدرتها إعطاء فرص وعروض مرتبات أساسية ومكافآت مجزية أعلى مما تحصل عليه، مستخدمة في ذلك الحملات الإعلانية التي تنشر داخل الصحف والمطبوعات المحلية والدولية.

وبرغم ذلك، يشير العماش هنا إلى أنه برغم موجة الاستقطاب الملحوظة إلا أن الكثير من الرواتب لم ترفع لشريحة كبيرة من التنفيذيين بل تم تعديلها لتتناسب وحجم الجهد والعمل الذي يؤديه الكثير من التنفيذيين في المجال المالي، خاصة أن أغلب المؤسسات المالية شهدت أرباحها مستويات قياسية لم تتحقق إلا بوجود تلك الكوادر المؤهلة والتي تستحق أن تعدل رواتبها ارتفاعا تماشيا مع مستويات الأداء المتميزة التي يقدمونها. واعترف العماش بأنه على الرغم من ذلك هناك فئة قليلة غير فعالة من التنفيذيين استفادوا من تلك المنافسة رغم عدم أحقيتهم بها، متنبئا أن يكون وضع هؤلاء سيئا عندما يبدأ الاقتصاد في الركود حيث من المرشح أن يخسر الكثير منهم وضعهم كونهم الحلقة الأضعف ما يجعل الكثير منهم عرضة للاستغناء.

وحول معدل المرتبات، يضيف العماش: ليست هناك معلومات علميّة مؤكدة حول هذا الموضوع لحساسيته ولكن حسب التقدير، فإن راتب شريحة التنفيذيين من مديري الإدارة المتوسطة وحتى الرؤساء التنفيذيين في القطاع المالي تتراوح في أغلبها بين 50 ألف ريال (13.3 ألف دولار) و800 ألف ريال (213 ألف دولار) كراتب شهري شاملا المكافآت والحوافز.

من ناحيته، يفيد الشيخ أن الأجور والرواتب تحددها طبيعة احتياج السوق وإمكانات المؤسسات المالية حيث لن تغامر المؤسسات والشركات دون أن تأخذ في حسبانها معدلات الأجور وتناسبه مع إمكانيات الأفراد المستقطبين، إلا أنه لم ينكر وقوع مبالغات أحيانا في حالات كثيرة ولكنها ستكون عرضة في النهاية لتصحيح السوق لذاته، ربما تكون عبر إلغاء الحوافز أو تقليص المكافآت وغيرها من الوسائل والطرق. ولا تزال «مؤسسة النقد»، وهي البنك المركزي في السعودية، تفاخر أن النظام المصرفي التي تشرف عليه حقق منجزاته بارزة في مجال الموارد البشرية، حيث واصلت المصارف زيادة توظيف وتدريب المواطنين السعوديين حتى أن القطاع المصرفي تقدم في هذا ا???ال على كافة القطاعات الخاصة الأخرى بدلالة ما تثبته الإحصاءات حيث تتجاوز نسبة السعوديين بين العاملين في هذا القطاع نسبة 80 في المائة، بينما بلغ معدل توظيف السعوديين على مستوى الإدارة العليا نسبة 70 في المائة.

أمام ذلك، يستطرد خبير الموارد البشرية العماش أن ما يخفف من وطأة الظرف الحالي أن أكبر المتأثرين هو القطاع المالي كونه الأجدر فنيا وتنظيميا وماليا بين القطاعات المختلفة الأخرى لسد الخلل من خلال برامج استقطاب الكوادر البشرية الجديدة وتطويرها وإحلالها للعمل في إداراتها المختلفة، موضحا أن القطاع المالي من أكثر القطاعات نموذجية وتنظيم من ناحية العمل، ولذا يجد الموظف الجديد سهولة في الاندماج والتطور سريعاً في السلم الوظيفي.

وزاد العماش: «القطاع المالي ينعم بدعم كبير وغير مسبوق بوجود مؤسسات تدريب مرموقة تدعم القطاع المالي بالكوادر المؤهلة كمعهد التدريب المصرفي، وكذلك مشروع الأكاديمية الجديدة التي تزمع كل من مؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة سوق المال إنشاءها على احدث المستويات العالمية»، مفيدا أن كل الأسباب السابقة تجعل من المنافسة في القطاع المالي فرصة وليست تحديا يواجه الاقتصاد السعودي.

وهنا، عاد السياري للتشديد على أهمية توجه البنوك والشركات المالية إلى تعزيز مكانة التوظيف لديها وتبني مسؤولية التدريب والتطوير، مؤكدا أهمية أن تبذل جميع الشركات وخاصة البنوك جهودًا أكثر في التوظيف والتدريب استجابة للحاجة الحالية واستعدادًا للحاجات المستقبلية.

وفي هذا الصدد، بين الشيخ خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن البنوك تحركت في الفترة الأخيرة باستحداث بعض الحلول للحد من تسرب الكفاءات منها إلى الشركات والمؤسسات المالية والتأمينية، مفيدا أن البنوك عمدت إلى وضع خيارات مغرية أمام موظفيها من بينها ابتكار برامج حوافز ومكافآت وعلاوات مجزية، لتكون عاملا ماليا ملموسا ومحفزا في ذات الوقت على البقاء ومقاوما لأي عروض خارجية.

وأوضح الشيخ أن من بين الحلول المبتكرة، تكثيف برامج التدريب والتطوير المتخصصة ليشعر الموظفون بالولاء وتزيد من معدلات الاستقرار الوظيفي والارتياح النفسي، وتعزز من الاحترافية والمهنية لديهم، مبينا أن التوسع في توظيف الكوادر السعودية الشابة وحديثة التخرج، كان من بين الحلول المتاحة كذلك أمام البنوك حيث ذهبت للتعاقد والتعاون مع إدارات التدريب الداخلية لديها أو مع المؤسسات المحلية بل اتجهت إلى التعاون مع شركات تدريب إقليمية ودولية، بهدف تأهيلهم وضمهم بأسرع وقت ممكن.

ولكن الشيخ يؤكد أن القطاع المالي والمصرفي المحلي لا يزال تنقصه وقبل موجة استقطاب الكوادر البشرية، الكفاءات عالية الاحترافية في بعض التخصصات المالية والمصرفية والاستشارية والتي لا يغطيها السعوديون حتى الآن، مما يزيد حاجة استقدام الكفاءات من الخارج لاسيما مع استحداث أنشطة مالية جديدة. ويشكل فئة الأعمار الصغيرة نسبة عالية من سكان السعودية مما يصنفها واحدة من بين أعلى النسب في العالم، مما يضاعف التحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني المتوهج حاليا ويدعها أمام الحاجة لاستمرار إيجاد الوظائف لتلك الفئات عندما تدخل سوق العمل ويشمل ذلك تطوير التعليم والتدريب لإعدادهم لاحتياجات سوق العمل. وبحسب توجهات خطط الدولة، فالاهتمام بدا مرتكزاً للتوسع في إنشاء العديد من الجامعات والكليات المتخصصة ومراكز التدريب وتشجيع القطاع الخاص على المساهمة في ذلك. وتم إحراز تقدم ملحوظ في سعودة معظم الوظائف في القطاع العام بشكل خاص وفي جميع القطاعات الأخرى.

من ناحيته، يشدّد العماش على أن الضرر بالنسبة للقطاع المالي يعتبر تحت السيطرة كونه قطاعا منظما جدا داخليا من قبل البنوك والمؤسسات المالية ويحظى بدعم قوي جدا وعلى أحدث المستويات من مؤسسة النقد العربي السعودي من خلال معهد التدريب المصرفي والذي يدار بكثير من الاحترافية ولديه برامج تدريب مختلفة تغطي جميع احتياجات القطاع المالي.

وأضاف المدير العام التنفيذي لـ«إنترسيرتش» السعودية أن هناك جهوداً حثيثة من قبل المسؤولين في «ساما» وهيئة سوق المال لتأسيس أكاديمية علمية مالية مبنية على أحدث النظم التقنية وتقدم أفضل البرامج العلمية بالتعاون مع أكبر المؤسسات العلمية العالمية المرموقة، وهذا في حد ذاته كفيل بزرع الثقة بسوق العمل حتى وإن تأخر تدشين مثل هذا المشروع. ويختصر العماش رؤيته، بسحب ما يصف أنها من معلومات قريبة ومؤكدة، فإن المسؤولين بالقطاع المالي, وعلى رأسهم وزير المالية ومحافظ مؤسسة النقد ورئيس هيئة سوق المال يولون اهتماما كبيرا بتطوير القطاع المالي وتطوير كوادره البشرية ليس أدل على ذلك من دعوتهم ورعايتهم للكثير من المنتديات والمؤتمرات وحلقات التدريب المالية والاقتصادية المتخصصة والتي تقدمها بيوت الخبرة العالمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسة التمويل الدولية واليوروموني وغيرها والتي يستفيد منها التنفيذيون بالقطاع المالي.