تنامي قطاع الشحن البحري يعود بالنفع على بورصة البلطيق اللندنية

تكاليف الشحن العالمية ارتفعت بنسبة بلغت 365%

TT

شهدت أسعار القمح وفول الصويا والحديد ارتفاعاً كبيراً خلال العامين السابقين، لكن هذا الارتفاع يتضاءل مقارنة بالارتفاع الحاد في تكاليف شحن هذه الأنماط من السلع. فمنذ منتصف 2006، أسفر عدد من العوامل القوية ـ تنوعت بين نقص سفن الشحن والنهم الصيني الشديد تجاه المواد الخام ـ عن حدوث زيادة هائلة في تكاليف الشحن العالمية بنسبة بلغت 365%. واجتذبت مسألة ارتفاع تكاليف الشحن اهتمام وول ستريت وركزت الأنظار على بورصة البلطيق الصغيرة في لندن، حيث يحدد سماسرة السفن سعر نقل السلع بصورة يومية. ومع اقتراب مؤشر بورصة البلطيق من مستويات مرتفعة قياسية، شرعت المصارف الاستثمارية وصناديق التحوط في الدخول إلى السوق المتنامية بالسرعة الخاصة بالأدوات المالية المرتبطة بالمؤشر. وبالمثل، تصاعدت حدة الأسعار داخل سوق السفن أيضاً، فللمرة الأولى، تجاوزت أسعار السفن المخصصة لحمل سلع جافة مثل الحديد والغلال أسعار بعض ناقلات النفط، الأمر الذي دفع بعض مالكي الناقلات إلى تحويلها إلى سفن شحن للسلع الجافة، بينما بدأ آخرون في الاتجار في مراكز داخل الأحواض الخاصة بالسفن، حيث يجري بناء السفن الجديدة. وفي الوقت ذاته، حدثت زيادة هائلة في أسعار السفن التجارية المستعملة.

وعلق نيكوس نوميكوس، وهو بروفسير إدارة مخاطر الشحن بكلية «كاس للتجارة» في لندن والمحلل السابق ببورصة البلطيق، على الأمر بقوله: «هذا الأمر خارج عن المألوف تماماً، فمنذ خمس سنوات ماضية، لم يكن أحد يتوقع أن يشتعل السوق بهذه الدرجة». من جانبه، أكد جيرمي بين، الرئيس التنفيذي لبورصة البلطيق التي تبلغ من العمر 264 عاماً، أن البورصة سعيدة بعودة الاهتمام بها. جدير بالذكر أن البورصة بدأت أعمالها عام 1744 باعتبارها مقهى فيرجينيا والبلطيق. وهناك، اعتاد مالكو السفن مقابلة التجار للتباحث بشأن أسعار السفن لنقل سلعهم، خاصة التبغ من فيرجينيا والفرو من منطقة البلطيق. وفي تلك الفترة، كان أعضاء مجتمع الشحن اللندني البالغ عددهم قرابة 300 شخص يبرمون الصفقات بمجرد مصافحة اليد. واليوم، لا تزال بورصة البلطيق جهة الإمداد الأولى للمعلومات المرتبطة بالسوق البحرية وتسيطر على عملية تحديد أجرة الشحن يومياً. وكل يوم قبل الساعة الواحدة بعد الظهر، تقوم البورصة باستطلاع لرأي حوالي 57 سمسار سفن ينتمون إلى 15 دولة، بينها النرويج وفرنسا واليابان وأستراليا، بشأن الأسعار الخاصة بما يزيد على 50 طريقاً للشحن وقرابة ثمانية أنماط من السفن. ويسهُل على زائري مقر البورصة تذكر تاريخها القديم، ففي المدخل يوجد الجرس الخاص بسفينة «بالتيك امبرتر»، في إشارة إلى عصر ازدهار صناعة الشحن اللندنية خلال الحقبة «الإدواردية»، عندما كان ميناء المدينة من بين أكبر الموانئ على مستوى العالم. وبالقرب من المدخل، توجد نافورة تم إنقاذها من حطام قاعة التعاملات التجارية السابقة بالبورصة التي تعرضت للتدمير جراء تفجير نفذه الجيش الجمهوري الأيرلندي عام 1992. وكان من شأن الاقتصاد الصيني المزدهر إحداث تحول كبير بالبورصة التي اتسمت قبل ذلك بحالة من الخمول. ونظراً لأن غالبية السلع الجافة التي يجري نقلها عن طريق البحر ترتبط بصورة ما بصناعة الصلب، ولأن الصين أكبر منتج عالمي للصلب، أصبح مؤشر بورصة البلطيق من العلامات الدالة على وضع الاقتصاد الصيني. إلا أن الصين لا تشكل السبب الوحيد وراء الارتفاع الحاد في رسوم الشحن، ذلك أنه مع تنامي الطلب العالمي على المواد الخام، بات من الضروري شحن الكثير من السلع لمسافات أكبر، الأمر الذي يجبر السفن على البقاء داخل البحر لفترات أطول. وأسفرت الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها الموانئ ومشكلات البنية التحتية في تعطيل عمليات التحميل. ومن شأن ضآلة الاعتمادات المتوافرة وتردد المصارف حيال تقديم قروض زيادة صعوبة جمع مبلغ الـ350 مليار دولار اللازمة لتمويل تشييد ما يزيد على 10 آلاف سفينة جديدة.

ومع ارتفاع معدلات تكاليف الشحن، دبت الحياة في مشتقات الشحن، التي ظلت خامدة منذ الثمانينيات. من ناحيته، أوضح «بين» أن: «الشحن يمثل بطبيعته صناعة عرضة للتقلبات. لكن مع زيادة الطلب كثيراً ما يحدث نقص في السفن خلال فترات بعينها، ويمكن للأسعار أن تقفز لمجرد أن الناس بحاجة لنقل سلعها بطريقة ما». وتتنامى سوق مشتقات شحن السلع الجافة، التي تقدر قيمتها بـ50 مليار دولار عام 2006، نتيجة حاجة المعنيين بصناعة الشحن إلى تحقيق تحوط مناسب للمخاطر التي يواجهونها. كما تتطلع المصارف وصناديق التحوط لتحقيق ربح من خلال المضاربة في ما يتعلق بمعدلات تكاليف الشحن بنفس الأسلوب الذي يتبعونه تجاه الأسهم أو السندات أو النفط. ويعتبر كل من «يو بي إس» و«جيه بي مورغان» و«باركليز» من بين المصارف التي أعلنت خططاً لتوسيع نطاق منتجاتها الاستثمارية بمجال الشحن. من ناحيته، قال تور إيه. سفلاند، رئيس قسم مشتقات الشحن داخل «مجموعة كارنيجي» في أوسلو: «لقد عملت بمجال الشحن على امتداد 20 عاماً وهذه هي أكثر فترة مفعمة بالنشاط شهدتها على الإطلاق حتى الآن. ولكن ما تزال هناك الكثير من العوامل الأخرى، مثل الشرق الأوسط، لم يتم حتى تمثيلها بعد داخل السوق». وتكشف الأرقام أن مالكي السفن تقدموا بعدد قياسي من طلبات لشراء سفن. لكن الكثير من أحواض بناء السفن تعمل بالفعل في الوقت الحاضر بطاقتها القصوى. بل إن بعض أحواض بناء السفن الصينية التي اتفقت على بناء سفن لم يتم بناءها هي ذاتها بعد. ومن المتوقع ألا يتم تسليم معظم السفن التي تم الاتفاق على بناءها قبل حلول عام 2010. ويثير هذا الطلب الشديد القلق إزاء احتمالات أن يفوق المعروض من السفن في المستقبل الطلب عليها في المستقبل. وفي هذا السياق، علق جون لوك، رئيس قسم الشحن بشركة «كيه بي إم جي» في لندن، على الأمر بقوله: «لا شك أن عام 2010 يشكل نقطة مخاطرة. والتساؤل الأكبر الآن: هل ستستمر الصين في شراء الجزء الأكبر؟».

ويرى البعض أن زيادة الطلبات على شراء السفن تثير ذكريات الثمانينات، عندما أسفر الإفراط في المعروض من السفن مع وجود حالة من الركود الاقتصادي عن بقاء آلاف السفن في الموانئ. وحذر بين، في هذا الصدد، من أن: «لصناعة الشحن سجل سيئ عندما يتعلق الأمر بفترات الرواج والكساد، ويرجع ذلك إلى أن مالكي السفن دائماً ما يشعرون بحماس مفرط عندما يحدث نقص في أعداد السفن». أما لوك فنوه بأن معدلات الشحن ربما تتراجع حال تباطؤ النمو الصيني أو إغراق السوق بعدد ضخم من السفن أو تداعي الاقتصاد الأميركي بصورة أكبر.

* خدمة «نيويورك تايمز»