الدورة العملاقة للمضاربات والسلع

TT

يمثل المضاربون جزءاً أساسياً من مختلف النظم الاقتصادية وذلك بدرجات متفاوتة بالطبع، وتلعب المضاربات دوراً هاماً حتى عند اتخاذ قرارات الحياة اليومية سواء في شراء منزل أو الرهان على الخيل أو حتى استثمار الأموال في البورصة، وهذا ما اصطلح خبراء الاقتصاد المعاصرون على تسميته «شمول المضاربات». ولا بد من رابح وخاسر في المضاربات؛ فليس من الممكن أن يزيد كافة المضاربين من أرباحهم في نفس الوقت. ويمكن أن تؤدي المضاربات إلى زيادة سعر السلعة عن قيمتها الحقيقية (وهذا على الرغم من خضوع عملية تقييم سعر السلعة لآراء ذاتية قد تتجاوز المعادلة البسيطة التي مفادها «القيمة الحقيقة = القيمة الفعلية ـ التضخم). وقد ترتفع الأسعار في بعض الحالات نتيجة الإقبال على الشراء بالمضاربة وسط تنبؤات باستمرار الأسعار في الصعود، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الأسعار عن قيمتها الحقيقية، وهذا ما يعرف بالفقاعة الاقتصادية. وشهدت أسعار السلع ارتفاعاً هائلاً خلال السنوات الخمس الماضية على نحو غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. فمن المعروف أن حالة التضخم المصاحبة للحروب أو الناشئة في أعقابها كانت السبب وراء قفزات الأسعار الكبيرة في المراحل المتعاقبة من تاريخ الولايات المتحدة اعتبارا من عام 1749، إلا أن معدلات زيادة الأسعار في هذه الدورة تجاوزت كل الدورات السابقة (دورة 1968 والدورة العظمى عام 1981). وقد حصد المستثمرون فوائد هذه الدورة نتيجة لعدم كشف النقاب عن حالة التضخم سوى في العام الماضي أو ما قبله. والواقع أن الطلب زاد على كافة السلع والمنتجات في الآونة الأخيرة، وجاء إقبال الاقتصادات الناشئة على استهلاك الكثير من السلع ولاسيما النفط الخام والحديد والمواد الغذائية كي يساعد على تفاقم المشكلة. وبلغ إنتاج كثير من السلع إلى ذروته مما ترك آثاراً سلبية على احتياطي هذه السلع. فعلى سبيل المثال، يواجه إنتاج بعض المعادن الثمينة مثل الذهب والبلاتين تحديات هائلة نتيجة تزايد الطلب العالمي على هذه السلع، غير أن توليد الطاقة الكهربائية في جنوب أفريقيا، وهي أكبر منتج للذهب والبلاتين على مستوى العالم، استحوذ على أهمية أكبر من إنتاج المعادن. واستفاد المستثمرون والمضاربون الجدد في العقود الآجلة من ظاهرة تزايد الطلب التي تصاعدت أحياناً نتيجة الخوف من نقص الإنتاج. ويأتي على رأس المستفيدين صناديق التقاعد الحكومية والخاصة والأموال المرصودة للجامعات وأخيراً وليس آخراً صناديق التغطية. ويستحوذ هؤلاء المضاربون الجدد مجتمعون على نصيب كبير من العقود الآجلة للسلع المتداولة يفوق أي مضارب آخر في السوق. ويعطي صندوق التغطية، «أمارنث»، مثالاً حياً على ذلك، في حال خسر الصندوق 6 مليارات دولار أو أكثر في سلعة واحدة، مثال خسائر الغاز الطبيعي الأميركي التي لا تتجاوز الخسارة التي تعرض لها الصندوق. وتجدر الإشارة إلى أن مئات من صناديق التغطية قد تخصصت حالياً في قطاع السلع فقط بينما اقتصرت جميع أنواع الصناديق الأكثر تنوعاً مثل الصناديق الكلية العالمية في المضاربة في السلع فقط. وعقب ظهور المضاربين الجدد، بدأت الأنظار تتوجه إلى أسواق العقود الآجلة للسلع (من خلال المشتقات) بعد تدهور أسواق الأسهم العادية لعام 2000. وارتفعت الأصول المخصصة لتداول السلع من 13 مليار دولار في نهاية عام 2003 إلى 260 مليار دولار في شهر مارس (آذار) 2008، في حين سجلت البيانات المستمدة من بنك الاعتماد الدولي المتعلقة بصفقات مشتقات السلع التي تمت خارج البورصة والمحفوظة في دفاتر بنوك العالم ارتفاعاً من 1.02 تريليون دولار في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2003 إلى 5.85 تريليون دولار في يونيو (حزيران) 2006. ويقدر بعض المشاركين في أسواق مشتقات السلع بأن القيمة تزيد عن 10 تريليون دولار. ولا يمكن تفسير ارتفاع أسعار النفط الخام استناداً إلى آليات العرض والطلب أو انخفاض سعر الدولار. فحسب شهادته التي أدلى بها أمام لجنة الأمن الوطني والشؤون الحكومية التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي، صرح مايكل دبليو ماسترز أن طلب الصين على البترول قد ارتفع بنحو 920 مليون برميل على مدار السنوات الخمس بينما زاد الطلب على العقود الآجلة للبترول بنحو 848 مليون برميل في نفس الفترة الزمنية. وتم تخزين قرابة 1.1 مليار برميل بترول من خلال أسواق العقود الآجلة، وهي الكمية التي تمثل ثمانية أضعاف مخزون احتياطي البترول الاستراتيجي الأميركي منذ عام 2003. وكانت المضاربات في مشتقات النفط الخام السبب وراء ارتفاع أسعار النفط الخام، حتى مع عدم كفاية الإنتاج الفعلي، في حين كان ضعف الدولار هو المتهم الأول في قضية ارتفاع أسعار النفط. والواقع أن استخدام النفط كغطاء للدولار جاء بمثابة محاولة لإنقاذ الأصول الموجودة بالدولار. وعقب فك الصلة بين ارتفاع أسعار النفط وضعف الدولار، ظهر الكثير من الشكوك حول إمكانية الموازنة بين حماية القيمة وتأثير المضاربات والتي بدت الأخيرة منهما أكثر قوة.

* كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك السعودي البريطاني