هل لقوى دفع التضخم أن تتراجع؟

TT

لا أذيع سراً إذا قلت أن المنبع الأهم لقراءة مستقبل التوجهات الاقتصادية هم القادة السياسيون... فلا سياسة بمعزل عن الاقتصاد ولا اقتصاد دون سياسة. ناهيك عن أن رموز السياسية المعاصرة هم في الواقع رجال أعمال. ولذلك فإن الذين يؤسسون توقعاتهم على العوامل الاقتصادية التقليدية وميكانيكيات العرض والطلب في الأسواق المالية، هؤلاء ربما يجبرهم على ذلك قدرتهم على المتابعة والوصول للمعلومة.

ومن هذا المنطلق... عندما عُقد مؤتمر جدة بدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في يونيو (حزيران) الماضي، لمناقشة أوضاع السوق البترولية العالمية بحضور 35 من رؤساء ووزراء الدول المنتجة والمستهلكة وبحضور أهم الشركات النفطية العالمية وسبع منظمات دولية من بينها الأمانة العامة لمنتدى الطاقة وصندوق النقد الدولي ووكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك والمفوضية الأوروبية للطاقة وبحضور أكثر من ثلاثمائة صحافي، كان من الملاحظ من تصريحات المسؤولين أن هناك تبرأ من مسؤولية ارتفاع أسعار النفط. فالدول المصدرة تدفع بأن السبب في ذلك هم المضاربون، والمضاربون يلقون بالتهمة على المنتجين؛ مما يستخلص منه أن الجميع ليس مع الزيادة بأسعار النفط. عندها عزمت على بناء توقعاتي أن سعر النفط وإن أرتفع شيئاً ما فهو لا محالة إلى نزول. ومما يلاحظ (أيضاً) عن هدف الاجتماع كما أذيع على لسان وزير البترول والثروة المعدنية السعودي بأن «الاجتماع يأتي انطلاقاً من حرص المملكة على استقرار السوق النفطية العالمية، وللخروج بنتائج إيجابية تضمن استقرار الاقتصاد العالمي وبالذات الاقتصاديات للدول النامية»، وأن قادة دول العالم يشعرون بالمسؤولية تجاه الأزمة. لكنني (في الحقيقة) عجزت عن كتابة توقعات بهذا المعنى (حتى لا أكون كمن يغرد خارج السرب!).

ولأن مستوى التضخم قد أنتقل في هذا العام ولأول مرة منذ السبعينات إلى الخانة العشرية، وبالنظر إلى أن محافظ البنك المركزي السعودي الأستاذ حمد السياري قد صرح للصحافيين في مؤتمر عُقد في كندا (بتاريخ 21 يونيو) قال فيه: إن القوى التي تدفع التضخم ما زالت نشطة. ولعلها إشارة أكيدة إلى رغبة السلطات الاقتصادية في توظيف ما هو متاح من آليات للتغلب على مشكلة التضخم.

وفي تقديري أن سعر النفط يعتبر أهم القوى لرفع مستوى التضخم (إن لم يكن القوة الأساس). ومن ذلك إذا تكاتفت الدول الصناعية مع مصدري النفط لتخفيض أسعاره في الاسواق العالمية، فلا بد لمعدلات التضخم أن تتناقص. أما عن مقولة أن سبب تنامي نسب التضخم تعود للزيادة المتواصلة في أسعار الإيجارات السكنية والسلع الغذائية في السوق المحلية بدافع زيادة الطلب عليها، فأصحاب هذه المقولة كمن يضع العربة أمام الحصان. ولأن العوامل أو القوى الدافعة ليست هذه في الأساس وإنما هذه نتائج لارتفاع التكاليف من مواد وخدمات محلية ومستوردة. وكما هو معروف، فإن طرق قياس التضخم تحسب بمتوسطات أسعار السلع وقوائم تكاليف المنتجين. لكن منابعه تبقى هي: أنفاق القطاع الحكومي وأنفاق قطاع الأعمال وأنفاق الأفراد.

أما عن تأثير أسعار النفط على أسعار السلع الأخرى، على اعتبار أنه ما من سلعة أو خدمة إلا ويدخل في تكلفتها النفط (بصورة أو بأخرى)، خصوصاً في ظل النظام العالمي التكاملي الجديد، فالشركات الصناعية (التي نستورد منها مشترياتنا) تتعامل في إنتاجيتها بطريقة تكاملية مع شركات الدول الأخرى. فمثلا لو أردنا شراء طائرات أميركية من شركة بوينغ علينا أن نأخذ بالاعتبار أن شركة بوينغ تستورد محرك الطائرات من مصنع «رولز رويز» البريطاني. ومن الطبيعي إذا ارتفع سعر النفط على الأوروبيين لا بد أن يرتفع سعر الطائرة الأميركية، وبالتالي تزيد تكاليف تذاكر السفر، لذلك فتغير مستوى أسعار السلع يؤثر من سلعة إلى أخرى ومن منتجات دولة لأخرى، مثله مثل نظرية الأواني المستطرقة ... والقاعدة هي نفسها أن العكس بالعكس.

وعودة إلى مقدمة الحديث وتلخيصاً لمستقبل الأحداث... أتوقع أن أسعار النفط إلى تراجع وأن سعر الدولار إلى استقرار وأن نسب التضخم إلى تراجع ... ولمن يتابع الأحداث قد يجد أن هذه التوجهات قد ظهرت اشراطها.

*كاتب ومحلل مالي [email protected]