خط أنابيب تبليسي ـ باكو ـ جيهان يهدد بالقضاء على السيطرة الروسية

الهجوم الروسي يظهر سطوة أنابيب النفط

TT

لم يغب عن ذهن رئيس الفتوات الروس فلاديمير بوتين أن شركة النفط العملاقة «بي بي» قررت إغلاق خط الأنابيب الذي تديره عبر بعض مناطق جورجيا الواقعة تحت إمرة القوات الروسية. وبالفعل، كان هذا هو أحد أهداف الاجتياح الأخير الذي قامت به القوات الروسية. ويدرك بوتين أكثر من أي شخص آخر أن النفط والغاز هما مصدرا الانتعاش للاقتصاد الروسي، حيث أن كلاهما يعتبر مصدرا للقوة العسكرية والاقتصادية، كما أنهما أيضا مصدر لهيمنته ونفوذه على الحكومة الروسية والقطاعات الرئيسة بالاقتصاد. ويوفر النفط والغاز أيضا المال اللازم للإبقاء على قوة وهيمنة المؤسسة العسكرية الروسية، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية الداخلية وشبكة المؤسسات التي تديرها الحكومة التي تتيح للرئيس الذي تحول الى رئيس للوزراء السلطة والهيمنة اللازمتين لإحكام قبضته الحديدية على مقاليد السلطة السياسية والاقتصادية. ولنعطي نبذة صغيرة عن تاريخ أنابيب النفط: تم التوصل إلى اتفاق بمجرد وصول الرئيس بوتين إلى سدة الحكم عام 1999، وكان هذا الاتفاق يتعلق بخط أنابيب باكوـ تبليسي جيهان. وكان من المفترض ان يتيح لأذربيجان وشريكتها في الانتاج «بي بي» تجاهل روسيا ونقل النفط المستكشف حديثًا عبر جورجيا وتركيا حتى يصل إلى أحد الموانئ على شرق البحر المتوسط. ونظرًا لسيطرتها على نظام خط الأنابيب الوحيد الذي يربط جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقًا مع الغرب، دأبت روسيا على استخلاص غالبية الأرباح الناجمة عن النفط والغاز التي يمكن لتلك الدول الوليدة حديثًا إنتاجها. ولكن مع اتفاقية أنابيب باكوـ تبليسي ـ جيهان، التي حازت دعما كبيرا من حكومة الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية، كان من شأن روسيا أن تفقد سيطرتها على زمام الأمور، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام شركات النفط الغربية لعقد استثمارات تبلغ عدة مليارات في دول منطقة القوقاز الغنية بالنفط. وبالرغم من عدم اكتمال مشروع أنابيب باكو ـ تبليسي ـ جيهان بعد، إلا أن المسؤولين الغربيين شرعوا على الفور في محاولة الكشف عن إمكانية التوصل إلى خط أنابيب آخر فيما وراء جورجيا وأذربيجان وتركمنستان، التي يعتقد أن لديها بعض أكبر احتياطيات الغاز العالمية. هذا، ولم يكن اهتمامهم فقط مقصورا على «أمن الطاقة» وتوقعات الثراء النفطي لشركات الطاقة الغربية، ولكن اتجهوا أيضا إلى دعم الديمقراطية التي تأتي على النمط الغربي ورأس مالية الأسواق الحرة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. في هذه الأثناء، تركز قدر كبير من جهودهم على المشروع الذي عُرف باسم نابوكو البالغة قيمته 12 مليار دولار، وكان من المنتظر لهذا المشروع نقل الغاز إلى بحر قزوين عبر جورجيا، وتركيا، وبلغاريا، ورومانيا، والمجر، ووصولاً إلى محطته النهائية بالقرب من فيينا. ونظرًا إلى اعتماد أوروبا فعليا على روسيا في ربع وارداتها من الغاز الطبيعي، فقد بدا أن هذا الرقم ماض نحو الزيادة مع إنشاء خط أنابيب النفط الشمالي الجديد الذي يمر تحت بحر البلطيق، ووصولاً إلى ألمانيا. يأتي هذا في ظل اهتمام قادة أوروبا على إيجاد مصادر بديلة للغاز الطبيعي. واشتدت العجلة تجاه الإسراع في تلك الجهود خلال شتاء 2006، وذلك بعد أن قطعت روسيا إمداداتها لفترة وجيزة نظرًا لخلاف حول عملية تسعير الغاز الطبيعي مع أوكرانيا. على صعيد آخر، أصبح مشروع نابوكو على قائمة أولويات وزارة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش، وخاصة بالنسبة لنائب وزيرة الخارجية مات بريزا، وسي. بويدن جراي الصديق المقرب من عائلة بوش، الذي عين مبعوثا خاصا إلى شركة يورشان للطاقة، قام بدوره بالتودد إلى زعماء أذربيجان. وبصورة صائبة تماما، نظر بوتين إلى مشروع ناباكو على أنه حملة من قبل واشنطن لاحتواء وعزل روسيا وتحديد توسع إمبراطورية الطاقة المزدهرة لديها. ومن خلال غازبروم، مشروع احتكار الغاز المملوك للدولة، دشن بوتين مقترحه التنافسي الذي يُدعى ساوث ستريم، ويهدف لبناء خط أنابيب جديد إلى منطقة القوقاز. وبصورة مفاجئة، عرضت روسيا أن تدفع إلى أذربيجان وتركمنستان أضعاف ما عرضته في السابق لضمان الحصول على صفقات الإمداد لفترت طويلة الأمد. كما شكلوا اتفاقية مع إيطاليا، وشركة النفط التابعة لها (إيني) لإنشاء خط أنابيب يمر عبر البحر الأسود ابتداء من روسيا وانتهاء بأوروبا بحيث تكون النمسا هي المحطة النهائية للمشروع وذلك على غرار ناباكو. كما عرض المسؤولون الروس أيضا اتفاقات انتقال أكثر تفضيلاً، وحصص ملكية، وضمنت المزيد من إمدادات الغاز لتأمين اتفاقات النقل عبر بلغاريا والصرب والمجر. وبالنسبة لبعض المراقبين الصناعيين مثل إد تشو، الزميل البارز بمركز الدراسات الدولية والإستراتيجية، فإن مشروع ناباكو طالما كان يبدو وكأنه حلم أنابيب النفط بالنسبة للدبلوماسيين أكثر من كونه مشروعا اقتصاديا قابلا للتطبيق. هذا، ولم يخفق المؤيدون له فقط في ضمان اتفاقات الإمداد والنقل، ولكن أخفقوا أيضا في تحديد شركة النفط التي ستحظى بامتياز هذا المشروع وتمويل خط الأنابيب. أما الآن، ومع عملية الاجتياح العسكري الناجحة لها، أثارت روسيا قدرا من المخاوف الخطيرة في خلد الممولين والمستثمرين الغربيين بأن يكون خط الأنابيب الجديد المار عبر جورجيا بمأمن من الهجوم أو سيطرة الكرملين. إن ما حدث أعاد إلى أذهاننا من جديد عزم فلاديمر بوتين بصورة شديدة على التضحية بسيادة القانون ورأي الآخرين الصائب لحماية الإمبراطورية الروسية واحتكارها للطاقة الذي يحافظ على استمرارية نظامها. فالأساليب التي استخدمها لإخضاع جورجيا، رغم كونها أكثر دموية وتدميرا، كانت على شاكلة تلك الأساليب الشرسة التي استخدمها بوتين من قبل لإسكات المعارضة السياسية ومصادرة أصول الطاقة الخاصة بشركات «يوكوس»، و«شل»، و«بي بي». وبالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا، فإن ما حدث قد يكون بمثابة رسالة تحذير كافية لهما من الإقدام على حماقة مد عضوية الناتو أو الاتحاد الأوروبي إلى كل دول الجوار الروسي، خاصة عندما يكونون غير عازمين على دعم تلك المسألة بالعمل العسكري. كما أنها تذكرنا أيضا بعبث محاولة التأثير على بوتين من خلال عرض مقعد له في مجموعة السبعة، أو عضوية في منظمة التجارة العالمية أو شرف استضافة أولمبياد شتاء 2014. وقد لا تكون لدينا النية الفعلية لإرسال قوات إلى تبليسي، إلا أننا على الأقل يجب أن نكون عازمين على رفض حق زيادة الشركات الروسية لرأس مالها بأسواق الأسهم الغربية، أو مد أنابيب النفط الخاصة بها إلى الأسواق الأوربية أو استخدام أرباح الطاقة لشراء الشركات الغربية الكبرى. ويبدو أن فلاديمير بوتين يجول برأسه أن روح الغرب بيده، وأننا بحاجة إليه أكثر مما هو بحاجة إلينا، ومن هنا تظهر لنا حقيقة أنه حان الوقت لإقناعه بعكس هذا.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الاوسط»