شركة «فيتول» تسيطر على 11% من إجمالي عقود النفط بشرائها 57.7 مليون برميل

سيطرة المضاربين على قطاع كبير من سوق النفط

انتشرت منصات التجارة الالكترونية متحدية سيطرة بورصة نيويورك التجارية (أ.ب.إ)
TT

صنف المعنيون بتنظيم أوضاع السوق النفطية منذ أمد بعيد شركة سويسرية خاصة عملاقة تدعى «فيتول» على انه مضارب يساعد بصورة رئيسية الشركات الصناعية التي تحتاج إلى النفط في إدارة نشاطاتها التجارية. إلا أنه عندما تفحصت هيئة البيع الآجل دفاتر الشركة في الشهر الماضي، توصلت إلى أنها تعمل كمضارب أكثر منها كتاجر، حيث تحتفظ بعقود النفط كاستثمار لجني الأرباح، وليس كوسيلة لتوصيل الوقود فعلياً. بل والمفاجأة الاكبر للسوق تمثلت في الحجم الهائل لمحفظة «فيتول» الخاصة التي بلغت خلال فترة معينة من شهر يوليو (تموز) 11% من إجمالي عقود النفط التي يجري التعامل فيها داخل بورصة نيويورك التجارية. وكشفت هذه المعلومات الجديدة كيف ان مضاربا ماليا واحدا تمكن من اكتساب نفوذ هائل داخل السوق النفطية دون علم من المسؤولين المعنيين بتنظيم السوق. وتكشف البيانات الأخرى المتوافرة لدى هيئة البيع الآجل تركز نسبة كبيرة من نشاطات الاتجار في يد عدد قليل من المضاربين. ويذكر أن الهيئة لم تعلم بشأن طبيعة نشاطات «فيتول» إلا بعد ان تقدمت بطلب غير عادي للحصول على بيانات الشركة. والآن، تؤكد الهيئة أن الشركات المالية التي تضارب بالنيابة عن عملائها أو لحسابها تمثل قرابة 81 في المائة من إجمالي عقود النفط في بورصة نيويورك التجارية، وهي حصة أكبر بكثير عما سبق أن أعلنته الهيئة. وهذا الرقم مؤهل للارتفاع خلال الأسابيع المقبلة مع تفحص اللجنة لأوضاع المزيد من كبار الشركات المتعاملة في البورصة. يذكر أن بعض المشرعين ألقوا باللوم على عاتق مثل هذه الشركات فيما يتعلق بالتقلبات البالغة التي تشهدها أسعار النفط، بما في ذلك فترة الارتفاع الهائل في الاسعار التي حدث في وقت سابق من هذا الصيف. وقد اوضح جون دي. دينجل العضو الديمقراطي في مجلس النواب الاميركي عن ولاية ميشيغان، بالقول «بات واضحاً أن المضاربين يضطلعون بدور أكبر بكثير داخل أسواق البيع الآجل للطاقة عما سبق الاعتقاد، وازدادت الآن صعوبة تقبل تأكيد الهيئة المثير للسخرية حول أن عمليات المضاربة المفرطة لم تسهم في ارتفاع أسعار الطاقة». مستطرداً بأنه أصبح «من الصعب تفهم كيف سمحت هيئة البيع الآجل لمضارب بالحصول على مثل هذا المخزون الهائل من النفط، وألا تقوم بتفحص موقفه في وقت أقرب من ذلك».

وجدير بالذكر أن هيئة البيع الآجل، التي تمتنع عن تحديد أسماء تجار بعينهم في تقاريرها، لم تذكر «فيتول» بالاسم علانية. واظهر تقرير الهيئة حجم تعامل تاجر، بدون ذكر اسمه، إلا أن هوية «فيتول» تم تأكيدها من جانب مصدرين صناعيين على علاقة مباشرة بتطورات القضية. وتوضح الوثائق المتوافرة حالياً لدى الهيئة أن «فيتول» كانت واحدة من أكثر التجار نشاطاً بمجال النفط داخل بورصة نيويورك التجارية مع وصول الأسعار إلى مستويات قياسية. وبحلول السادس من يونيو (حزيران)، على سبيل المثال، حصلت «فيتول» على قدر هائل من عقود النفط، مراهنة بذلك على أن الأسعار سوف ترتفع. وتساوي قيمة هذه العقود 57.7 مليون برميل من النفط ـ وهو ما يعادل قرابة ثلاثة أضعاف كمية النفط التي تستهلكها الولايات المتحدة يومياً. وخلال ذلك اليوم ارتفعت أسعار النفط ارتفاعاً بالغاً بمقدار 11 دولارا لتستقر عند مستوى 138.54 دولار للبرميل. وفي نهاية الأمر، وصلت أسعار النفط إلى الذروة ببلوغها 147.27 للبرميل في 11 يوليو (تموز) لتستقر عند 138 دولارا قبل أن تعاود التراجع لتستقر عند مستوى 114.98 دولار. ومع أن الوثائق لم تكشف حجم المبالغ المقدمة التي دفعتها «فيتول» من أجل الوصول إلى هذه المكانة، فإنه طبقاً لقواعد بورصة نيويورك التجارية، من الممكن أن تصل قيمة عربون تلك القيود إلى مليار دولار. ويذكر أن العناصر الكبرى العاملة داخل أسواق السلع غالباً ما تعمل باعتبارها «تجار مقايضة»، حيث تستثمر بصورة رئيسة نيابة عن صناديق التحوط والأفراد الأثرياء وصناديق المعاشات، الأمر الذي يسمح لهؤلاء المستثمرين بجني عوائد من دون الاضطرار إلى شراء عقود فعلية للنفط أو أي سلع أخرى. كما تقوم بعض جهات المتاجرة بإدارة عمليات الاتجار بالسلع لحساب شركات تجارية. ومن أجل تحقيق مخزون كبير من العقود التي تتطلبها هذه الممارسة، فإن بعض تجار المقايضة يتناورون من وراء الستار ويستغلون نفوذها والثغرات القائمة بعملية الإشراف، وذلك من أجل الفوز بإعفاءات من القيود التنظيمية، والحصول على تصريح بإقامة اسواق لا تخضع للتنظيم. وجدير بالذكر أن الكثير من التجار لا يقتصر نشاطهم على بورصة نيويورك التجارية، وإنما يمتد أيضاً إلى أسواق خاصة وأجنبية تقع فيما وراء نطاق سلطات لجنة البيع الآجل. وكان من شأن تلك الثغرات منح مثل هذه الشركات قدرة غير محدودة على المتاجرة في سلع حيوية، بينها النفط والقطن والقمح. وقد دفعت صناديق الاستثمار، باستخدام تجار المقايضة كوسطاء، بكميات ضخمة من الاستثمارات في اسواق السلع، ما رفع حجم ما يمتلكونه هذا العام الى 260 مليار دولار من 13 مليارا عام 2003. وخلال تلك الفترة ارتفعت اسعار النفط سنويا بلا توقف.

وأوضحت وثائق هيئة البيع الآجل أنه عند نهاية يوليو (تموز)، سيطر أربعة «تجار مقايضة» فقط على ثلث عقود النفط المرتبطة ببورصة نيويورك التجارية. من ناحيتهم، أكد المحللون على أن هذه المعلومات تثبت تركز النفوذ داخل الأسواق في يد عدد ضئيل من العناصر. على الجانب الآخر، أصر رؤساء هيئة البيع الآجل على أن المضاربين لا يؤثرون على أسعار السلع. وأكد المسؤولون أنه حال ظهور أي معلومات جديدة في إطار تفحص اللجنة لنشاطات «تجار المقايضة»، سيتم تحويلها إلى الكونغرس. وفي هذا الإطار أعلن آر. دافيد جاري، المتحدث الرسمي باسم الهيئة، «حتى اليوم، توصلت لجنة البيع الآجل إلى أن العوامل الرئيسة المرتبطة بالعرض والطلب توفر التفسير الأمثل للارتفاع المنظم الذي تشهده أسعار النفط. وبغض النظر عن تصنيفهم.. تقوم مجموعة المراقبة التابعة لهيئة البيع الآجل بإجراء فحص يومي لمواقف جميع جهات المتاجرة الكبرى، التجارية وغير التجارية، لضمان حماية السوق من التلاعب».

من ناحية أخرى، رفضت فيكتوريا ديكس المتحدثة الرسمية باسم شركة «فيتول» الرد على التساؤلات الموجهة إليها. إلا أن الشركة أصدرت، على لسان ديكس بياناً ذكرت فيه أن هيئة البيع الآجل أجرت اتصالات معها بشأن إعادة تصنيف نشاطاتها التجارية وأن وضعها التجاري سيبقى دونما تغيير. إلا ان مسؤولي اللجنة اشاروا إلى أنهم عادة ما لا يجرون اتصالات بالشركات التي تتم إعادة تصنيفها. جدير بالذكر أنه عبر موقعها على شبكة الانترنت، أعلنت الشركة أنها حققت عوائد سنوية بلغت 100 مليار دولار. ومن المعروف أنه على امتداد الجزء الأكبر من القرن الماضي عمد المشرعون إلى فرض قيود تحد من قدرة العناصر المالية على الهيمنة على بورصات السلع. وتم السماح فقط للعناصر التي تمثل عمليات تجارية، مثل المزارع وشركات الخطوط الجوية وجهات التصنيع والوسطاء الذين يديروا نشاطاتهم التجارية، بشراء كميات غير محدودة تقريباً من السلع. وكان الهدف من وراء ذلك تمكين تلك الكيانات التجارية من التقليل بأكبر درجة ممكنة من تداعيات تقلبات الأسعار. وجاء أول تغيير كبير في إطار العمل التنظيمي ذلك عام 1991، عندما طالبت شركة «جولدمان ساكس»، من خلال شركة فرعية تدعى «جيه. آرون»، بضرورة إعطائها نفس الإعفاء الممنوح إلى جهات المتاجرة التجارية لأن نشاطاتها التجارية بمجال شراء السلع بالنيابة عن المستثمرين يشبه دور الوسطاء الذين يقومون بصفقات تتعلق بالسلع نيابة عن شركات تجارية. وبالفعل، وافقت هيئة البيع الآجل على هذا الطلب، وسرعان ما تم منح إعفاءات لكيانات أخرى، بينها شركة «إنرون» التي تعد من جهات الاتجار الكبرى بمجال الطاقة. في هذا الصدد، أعرب بارت ستوباك عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي عن ولاية ميشيغان عن اعتقاده بأنه «عندما منحت لجنة البيع الآجل إعفاء التحوط إلى جيه. آرون عام 1991، جاء ذلك بمثابة مؤشر على حدوث تحول هائل لأنها سمحت بذلك للمستثمرين بتكديس مراكز هائلة لأغراض تتعلق بصورة محضة بالمضاربة». وتمثلت نقطة تحول كبرى أخرى عندما مرر الكونغرس قانون تحديث قواعد البيع الآجل في السلع عام 2000، الذي سمح رسمياً للمستثمرين بالمتاجرة في سلع الطاقة من خلال برامج الكترونية خاصة خارج نطاق سلطة المشرعين. وأطلق النقاد على هذا التشريع «ثغرة إنرون»، منوهين بان شركة «إنرون» لعبت دوراً في صياغته. وفي الشهور التالية بعدما تم اقرار القانون، انتشرت منصات التجارة الالكترونية عبر البلاد، متحدية سيطرة بورصة نيويورك التجارية.

من جهته، قال مايكل جرينبرجر، البروفيسور في القانون بجامعة ماريلاند والعضو السابق بهيئة البيع الآجل، إن «المصارف الاستثمارية أصابها الشعور بالإحباط إزاء البورصة القائمة، نظراً لأنه لم يكن باستطاعتها قط إحكام سيطرتها عليها».

أما أكثر الأطر الخاصة نجاحاً فتمثلت في «بورصة إنتركوننتال» التي تأسست على يد كل من غولدمان ساكس ومورغان ستانلي، إلى جانب عدد من شركات السمسرة الكبرى الأخرى عام 2000. وسرعان ما افتتحت «بورصة إنتركوننتال» إطارا للتداول بها داخل لندن، ما سمح لمؤسسيها بالاتجار في كميات ضخمة من احتياطيات النفط الأميركي، من دون الخضوع للتنظيمات والقوانين. وكان من شأن الإعفاء الذي تم منحه لـ«تجار المقايضة» وتنمية أسواق خارجية السماح لشركات السمسرة الكبرى بفتح الباب أمام المزيد من صناديق التحوط والمعاشات والجهات الاستثمارية الكبرى للمشاركة بأسواق السلع. وخلال السنوات القادمة، قد يصل حجم استثمارات الصناديق في السلع إلى تريليون دولار، حسبما أشار مايكل ماسترز، المدير البارز لأحد هذه الصناديق، في شهادته التي أدلى بها أمام مجلس الشيوخ في وقت سابق من هذا العام. وفي إطار لقاء أجري معه، قال ماسترز إن هذا التوجه بإمكانه التسبب في رفع أسعار السلع بالنسبة للجميع خلال السنوات القادمة، الأمر «الذي سيخلف عواقب اقتصادية كارثية على ملايين المستهلكين الأميركيين، الذين يعانون بالفعل من وطأة ضغوط شديدة».

في تلك الأثناء، من الواضح أن السلع شكلت نشاطاً تجارياً جيداً أمام شركات السمسرة الكبرى المشاركة في بورصة وول ستريت. وقد ساعدت عمليات الاتجار في السلع غولدمان ساكس على الاستمرار في جني أرباح خلال أزمة الائتمان، حسبما أوضح ريتشارد بوف، المحلل المصرفي بشركة لادنبرغ ثالمان. وأكد بوف في ما يخص شركة غولدمان ساكس «يتسم النشاط التجاري بالاضطراب في الوقت الحاضر. ومن الواضح أن السلع والعملات تعد الآن النشاط التجاري الأقوى بالنسبة لها».

وخلال الشهور القليلة القادمة، يتوقع تجار المقايضة الحصول على سبيل آخر للمضاربة النفطية، حيث أعلنت هيئة البيع الآجل، أنها لن تقف في طريق المتاجرة في عقود النفط الأميركية في دبي. يذكر أن غولدمان ساكس وفيتول من بين كبار المستثمرين في هذه البورصة الجديدة.

* خدمة «واشنطن بوست خاص بـ«الشرق الاوسط»