الرئيس المقبل سيرث فوضى مالية واقتصادية ذات حجم تاريخي فريد

700 مليار دولار عجز الموازنة الفيدرالية

ريتشارد فولد الرئيس التنفيذي لمصرف ليمان براذرز في طريقه الى جلسة التحقيق التي عقدها الكونغرس في أسباب وتأثير إفلاس البنك (رويترز)
TT

مثلما تندفع المياه عبر ضفاف النهر، بدأت نفقات الحكومة الفيدرالية المتزايدة سريعًا في غمر الميزانية الفيدرالية وزيادة عجز الميزانية الكبير بالفعل. فعملية الإنقاذ البنكية ـ وهي آخر النفقات الكبرى ـ من الممكن أن تكلف 250 مليار دولار خلال الأسابيع القليلة المقبلة، كما أن مجموعة المحفزات المقترحة حديثًا سوف تحدث تدفقًا قدره 150 مليار دولار أو أكثر من واشنطن قبل أن يتولى الرئيس الجديد مهام منصبه في شهر يناير (كانون الثاني).

وإضافة إلى الأضرار والخسائر التي حدثت فقد انخفضت كذلك عوائد الضرائب في ظل الضعف الاقتصادي الحالي، ومن المحتمل أن يكون ذلك مرده إلى أن الحكومة بحاجة إلى مئات المليارات من الدولارات لإصلاح النظام المالي. كما أن نفقات الحروب التي شنتها البلاد في تزايد دائم، نظرًا إلى توسع العمليات القتالية في أفغانستان. كما تزايدت نفقات إعانات البطالة، والمعونات الغذائية، وسائر المعونات الفيدرالية الأخرى. ومع ذلك، بدا أن الاتجاه نحو المزيد من الإنفاق ـ وهو أمر موجع للغاية في الظروف العادية ـ يعتبر مقبولاً إلى حد كبير من كلا الطرفين السياسيين كضرورة حتمية لإنقاذ النظام البنكي، وتفادي حدوث كساد كبير آخر. وتقول مايا ماك غينيس ـ رئيس اللجنة المسؤولة عن الموازنة الفيدرالية ـ وهي جماعة تتكون من كلا الحزبين في واشنطن مهمتها دائمًا الدفع بالرأي المضاد: «إن الوقت لم يسمح حتى الآن لموازنة الميزانية».

ولمواجهة الأزمة الحالية المكلفة للغاية، قرر المشرعون من كلا الحزبين دفع فاتورة الخسائر عبر اقتراض الأموال، بدلاً من تخفيض النفقات أو زيادة الضرائب. ولكن في الوقت الذي يعتبر الاقتراض أمرًا غير مكلف نسبيًا بالنسبة للحكومة عندما تشهد اقتصادًا ضعيفًا، فإن تكلفته سوف تصبح عبئًا كبيرًا عند ارتفاع عوائد النمو ومعدلات الفائدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن من المتوقع أن تتضخم الإنفاقات الخاصة بالرعاية الصحية والأمن الاجتماعي في الوقت الذي سوف يصل فيه الجيل الأول لزيادة معدلات الإنجاب، إلى سن التقاعد خلال السنوات الثلاث المقبلة. وفي هذا الصدد يقول كينت كونراد، السيناتور الديمقراطي عن نورث داكوتا، ورئيس لجنة الموازنة بمجلس الشيوخ: «سيرث الرئيس المقبل فوضى مالية واقتصادية ذات حجم تاريخي فريد في نوعه. وسوف يستغرق الأمر سنوات من أجل أن نشق طريقنا للخروج» من هذه الفوضى.

ويقدر مكتب الموازنة التابع للكونغرس أن العجز خلال السنة المالية الحالية ـ التي بدأت هذا الشهر ـ سوف يصل إلى 700 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 50% عن العام السابق. ومن خلال قياس العجز بالنسبة المئوية في مقابل النشاط الاقتصادي الكلي للبلاد، فإن هذا العجز ـ البالغ قدره 5% ـ سينافس ذلك العجز الذي وقع في بداية فترة الثمانينات، عندما اقترن الركود الشديد بزيادة الإنفاق الفيدرالي والتخفيضات الضريبية التي كانت في عهد ولاية ريغان، والتي أسفرت عن انخفاض هائل في الموازنة. ولطالما كان اللجوء إلى الاقتراض هو الحل الأميركي للتعامل مع الأزمات شديدة التكلفة، وذلك نظرًا إلى أن ذلك الحل دائما ما كان يتمتع بالمساندة الشعبية ذات القاعدة الكبيرة. وحتى الآن، مازال هناك الكثير من الأميركيين الذين يتسامحون مع زيادة العجز في الموازنة لدفع ثمن الحروب القائمة في العراق وأفغانستان، والتي تكلف 11 مليار دولار في الشهر الواحد. وما زال هناك تأييد كبير حتى الآن لعملية الإنفاق المبدئية والبالغة قيمتها 250 مليار دولار لإنقاذ النظام المالي، إذا كانت تلك الخطة ستؤدي إلى استقرار المصارف والبنوك، ومنع أي نوع من الركود الاقتصادي المفجع. ويشير روبرت باربيرا، كبير الاقتصاديين في «إنفيستمنت تكنولوجي غروب» وهو مكتب للأبحاث والتجارة، إلى أنه «دائمًا ما تكون هناك ظروف صارمة عندما يتم اعتبار الدين القومي الأكبر بمثابة أقل الخسائر». كما أن هناك افتراضات أيضًا بأن يساعد ذلك على جعل عجز الميزانية في أميركا أمرًا مقبولاً ويمكن احتماله، بل إنه ربما يكون منطقيا كذلك.

ومن تلك الافتراضات أن الأفراد من سائر أنحاء العالم عازمون، بل إنهم حتى تواقون، إلى إقراض الولايات المتحدة. وهم واثقون من أن القوة الأعظم في العالم سوف يكون بمقدورها دومًا الوفاء بديونها في الموعد المحدد، مهما كانت الصعوبات الجمة التي تواجهها. ويوضح لنا ستيفن ماك ميلان، نائب مدير مكتب الإدارة والموازنة في البيت الأبيض، حقيقة هذا الأمر، حيث يقول «إن السوق حتى الآن تبدي لنا أنها عازمة تمامًا على تمويل احتياجاتنا حتى الآن».

فالمقرضون يقبلون معدلات فائدة قدرها 4 في المائة أو أقل، التي غالبًا ما تكون أقل بنسبة كبيرة، لشراء ما يعتبرونه دينًا أميركيًا بالغ الأمان ويأتي على شكل سندات خزانة. ويعني معدل فائدة قيمته 4 في المائة أن التكلفة السنوية لاقتراض تريليون دولار تبلغ 40 مليار دولار، ويعد هذا مبلغًا متواضعًا مقابل الاقتصاد البالغة قيمته حوالي 14 تريليون دولار، وهو ما يبرر لنا السبب في أن عجز الموازنة الحالي يلاقي القليل من المعارضة حتى الآن. ولكن إذا كرر التاريخ الأخير نفسه، فمن المحتمل أن يكون عجز الموازنة نقطة خلاف من جديد عندما يستعيد الاقتصاد عافيته. وتعتبر معدلات الفائدة في تزايد دائم طوال فترة التعافي، وبالتالي، لن تدوم تكلفة خدمة الدين المنخفضة؛ ما لم يدم الركود الذي أحدثته الأزمة المصرفية، ما يعني تكرار التجربة اليابانية في فترة التسعينات، بل وربما تجريد الولايات المتحدة والدولار من وضعهما المتميز والبارز.

ومثل هذا الافتراض لن يحدث، كما أنه في الوقت الذي سيتعافى فيه الاقتصاد، سيزيد القطاع الخاص من طلبه على الائتمان، ما سيؤدي بدوره إلى زيادة معدلات الفائدة. وستؤدي المعدلات المرتفعة بدورها إلى زيادة تكلفة تمويل عجز الموازنة، ومن المحتمل أن يكون هناك المزيد من الضغوط لتقليلها عبر تخفيضات الإنفاق. وقد حدث هذا الأمر في نهاية الثمانينات، في الوقت الذي تغلب فيه الكونغرس والبيت الأبيض على العجز المرتفع في الموازنة في عهد ريغان. واتضح هذا من قانون غرام رودمان هولينجز، ومحاولاته لوضع سقف لعجز الموازنة. وهناك افتراض آخر يقوم على خبرة 60 عامًا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ألا وهو أنه رغم أن الاقتصاد ينحدر نحو الركود، إلا أنه في غضون عام أو اثنين سينتهي هذا الركود، وسيتوسع الدخل القومي (والمعروف باسم إجمالي الناتج المحلي) من جديد. وعندما يحدث هذا، سيتقلص الدين القومي، أي عملية الاقتراض المتراكمة لتمويل العجز السنوي في الموازنة، فيما يتعلق بالدخل المتاح لتسديد الدين. إن نسبة الدين القومي مقارنة بالنشاط الاقتصادي الكلي ـ والمرتفعة حاليًا على نحو ينذر بالخطر الداهم ـ ليست مرتفعة على نحو تاريخي. فالحصة المحتفظ بها خارج الحكومة الأميركية، سواء كانت هنا أو في الخارج، في شكل سندات خزانة كانت 5.8 تريليون دولار بنهاية الشهر الماضي. ويعد هذا الرقم متواضعا نسبيًا مقارنة بنسبته من الدخل القومي السنوي، حيث يبلغ 40.8%، كما أنه أقل من نسبة الـ109% التي كانت إبان الحرب العالمية الثانية، أو نسبة الـ50% تقريبًا والتي كانت في أغلب فترة التسعينات. ولنفترض سبيلاً آخر، فإذا ما تم تخصيص إجمالي الدخل القومي لإعادة دفع الدين، فسيتم دفعه في أقل من 5 شهور. وعقب عام 1940، استغرقت عمليات دفع الدين فترة طويلة، مما تسبب في الكثير من الحمل على كاهل الدخل. إلا أن الأوقات التي نشهدها الآن لا تعتبر أوقاتا اعتيادية، فالنظام المصرفي مرهق للغاية، وفي المقابل نرى الاقتصاد القومي مغمورا في الركود إلى الدرجة التي تستحضر في أذهاننا إلى حد كبير فترة الكساد الكبير. وللتخفيف من حدة هذه الأزمة، زادت الإدارة الأميركية والكونغرس من العجز بحد قياسي قوامه 455 مليار دولار في نهاية العام المالي 2008 المنتهي منذ فترة قصيرة للغاية، كما أنهم في طريقهم إلى إحداث عجز جديد في الموازنة قدره 700 مليار دولار أو أكثر خلال هذا العام. ويقول بيتر أورسزاغ، مدير مكتب الموازنة بالكونغرس،: «أعتقد أننا بحاجة إلى أن نكون مستعدين لكل زيادة كبيرة في عجز الموازنة».

وكجزء من عملية الإنفاق على الحرب، ارتفعت عمليات الإنفاق على إعانات البطالة بنحو الثلث، كما ارتفعت المعونة الغذائية بأكثر من 13 في المائة على مدار الـ12 شهرًا الماضية. كما وافق الكونغرس على توسيع المنافع التعليمية لقدامى محاربي الحروب الحالية، وفي الربيع الماضي، أقر أيضًا حزمة محفزات قوامها 168 مليار دولار جاء أغلبها في شكل عمليات تخفيض ضريبي. ومن الواضح الآن أن القيادة الديمقراطية للكونغرس عازمة على الدفع بالمزيد من المحفزات بنفس هذا الحد على الأقل.

ويحدث كل هذا في ظل انخفاض العوائد الضريبية، خاصة العوائد الضريبية المشتركة، والتي انخفضت بمقدار 66 مليار دولار، أو حوالي 18 في المائة في العام المالي المنقضي حديثًا. وقد تسارعت عملية الانخفاض هذه في شهر سبتمبر. ومن المحتمل أن يمضي الجمهوريون بعنصرين من حزمة المحفزات المقترحة من قبل الديمقراطيين، ويتمثلان في التخفيض الضريبي وزيادة إعانات البطالة. ولكنهم يعارضون زيادة الإنفاق في مشروعات الأعمال العامة والزيادة المؤقتة في المعونة الفيدرالية للولايات. ويقول روي بلانت ـ العضو الجمهوري بمجلس النواب ـ إنه لا يجب استغلال المحفزات في تمويل «الخطة الكبرى للأعمال العامة»، أو إنقاذ «الولايات التي أنفقت الكثير من الأموال أكثر مما ينبغي في الرعاية الصحية والبرامج الاجتماعية الأخرى».

ومن الوفاء بالزيادة الطارئة في عمليات الإنفاق ـ والانخفاض في الضرائب ـ زادت الحكومة الفيدرالية من الدين القومي بنحو 768 مليار دولار على مدار العام المنصرم، ليبلغ الدين الحالي 5.8 تريليون دولار، كما أن 300 مليار من هذا المبلغ سيذهب إلى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لمبادرات الإنقاذ المتنوعة للنظام المالي. وستزيد عمليات الإنفاق في كل يوم تفيد فيه التقارير الجديدة بأن النظام المالي الذي كلف كثيرًا من أجل إصلاحه، والاقتصاد المتجه نحو الركود على نحو سريع، بحاجة إلى العون والتشجيع. ويقول الاقتصادي باربيرا: «يعتبر العجز عبئًا على المدى البعيد، إلا أنه يعتبر عائقًا صغيرًا مقارنة بالمخاوف الحالية».

* خدمة «نيويورك تايمز»