حلفاء أوروبيون يدعون إلى أدوار جديدة وموسعة لمنظمات دولية

خلافات بين الدول الكبرى حول النظام المالي العالمي

TT

من المقرر أن يجتمع رؤساء دول وحكومات الدول الكبرى في واشنطن خلال أسبوعين لبدء مفاوضات ساخنة حول شكل النظام المالي العالمي، في الوقت الذي يسعون فيه لتجنب حدوث ركود عالمي ولاستعادة الثقة في الأسواق. ويدعو حلفاء أوروبيون بارزون إلى أدوار جديدة وموسعة لمنظمات دولية، وإلى إعطاء بعضها السلطة لتقوم بالرقابة على كل شيء، بدءا من تجارة المشتقات العالمية إلى مراقبة طريقة تنظيم البنوك الكبرى لعملها في الخارج. ولكن إدارة بوش اشارت إلى أنها لا ترغب في التمادي في هذا الأمر. وكانت الإدارة قد رفضت في السابق مقترحات شبيهة حرصا على استقلالية النظام المالي الأميركي ولتجنيب الأسواق الحرة أية مخاطر. ويقول بعض علماء الاقتصاد وصانعي السياسات إن القمة يمكن أن تطلق إصلاحات مهمة، ولكن يتوقع آخرون أنه يمكن أن تصبح بمثابة «برج بابل» اقتصادي، حيث تروج قيادات سياسية ضعيفة لطرح حلول تتناقض في جوهرها مع بعضها بعضا. وإذا لم تستطع هذه القيادات تلافي تلك الاختلافات، فمن المحتمل وقوع جولة أخرى من الاضطراب المالي. وتظهر اختلافات في وجهات النظر حول قضية التوقيت، حيث يقول الرئيس الفرنسي نيكولاى ساركوزي، الذي ضغط لعقد قمة الدول العشرين، إنها يجب أن تتوج بنتائج فورية وملموسة. وفي المقابل، يرى الرئيس بوش أن الاجتماع سيكون «الأول في سلسلة» (من الاجتماعات) ويجب أن يركز على المبادئ، وأن «الحلول المحددة التي تتبعها كل دولة يمكن ألا تكون متطابقة». ويبدو أن المقترحات التي تهدف إلى تعزيز الوسائل المنظمة القائمة في الوقت الحالي سوف تتناقض مع المخططات التي تسعى لصياغة وسائل جديدة. ولكن، من الواضح أن الكثير من المراقبين يعلقون الكثير من الامال على القمة. ويقول هوارد دافيس، مدير كلية الاقتصاد بلندن والرئيس السابق لهيئة الخدمات المالية البريطانية «لا أعتقد أنه في الوقت الحالي سيكون مقبولا أن يعود قادة الدول الكبرى من هذا المؤتمر ليذهبوا إلى برلمانات دولهم أو ما شابه ذلك ويقولوا «نعم، لقد أدخلنا بعض التعديلات على ترتيب مقاعد المنصة‘، لأن ذلك سيحدث جلبة كبرى.» ويذكر أن هذه القمة ليست هي الأولى من هذا النوع، حيث عقدت قمة شبيهة قبل أكثر من ستة عقود، ففي عام 1944 عقد مؤتمر «برتون وودز»، وفيه اجتمع قادة الدول ليصوغوا الهيكلة المالية العالمية المطبقة في الوقت الحالي وليضعوا الأساس الذي يقوم عليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ولذا يشيع وصف قمة 15 نوفمبر المرتقبة بـ«برتون وودز 2». ولكن، ثمة اختلاف هذه المرة، فقد سبق قمة 1944 عامين من الإعداد، وفي الوقت الذي قامت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا بصورة كبيرة بصياغة النظام المالي في أعقاب الحرب، تظهر حاجة في الوقت الحالي لمشاركة مجموعة أوسع تتضمن اقتصادات ناشئة، والكثير منها لديه كمية كبيرة من احتياطي النقد الأجنبي وديون أجنبية ونفوذ على الأسواق المالية. وقد وجدت تلك الاقتصادات الناشئة أنها والدول الأكثر تقدما في حاجة إلى بعضهم بعضا. ومن بين العوامل غير المعروفة، حتى الآن على الأقل، هو موقف الرئيس الأميركي القادم، حيث لم يتحدث أي من السيناتور باراك أوباما والسيناتور جون ماكين كثيرا عن رأيهما في القمة، وأعلن البيت الأبيض أنه لا يتوقع أن يشارك الفائز في انتخابات الثلاثاء في القمة. وفي هذه الأثناء، بدا التحفظ على بوش. وقالت المتحدثة الصحافية للبيت الأبيض دانا برينو: «نحتاج إلى تنفيذ ذلك بحذر وعناية مع السرعة المطلوبة». وأضافت «يشعر الرئيس بالقلق من التحرك بسرعة أكبر من اللازم ويريد تلافي أية تبعات غير مقصودة».

وقد لجأ بعض الزعماء إلى المناورة للوصول إلى موقف معين، وسعى الرئيس الفرنسي، خاصة، إلى حشد حلفاء بطريقة منهجية. وقد تمكن من الفوز بموافقة هامة من الصين بخصوص اتخاذ موقف، مع أن هذه الموافقة كتبت بعناية شديدة، وكان ذلك في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث دعت قمة التعاون الاقتصادي الأوربية الآسيوية في بكين لمزيد من التنظيم للأسواق المالية في العالم. وقال ساركوزي في حديثه إلى الصحافيين في مؤتمر صحافي «كل منا قد فهم تماما أنه ليس من الممكن أن نتقابل ]في 15 نوفمبر (تشرين الثاني)[ كي نتكلم وحسب» وقالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل «يشبه ذلك صياغة دستور مالي جديد، لا أكثر ولا أقل».

ودعا ساركوزي أيضا لعقد قمة في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) لرؤساء دول وحكومات أعضاء الاتحاد الأوربي أملا في الحصول على تفويض أوربي بطلب اتخاذ إجراء سريع في واشنطن. وتقديرا منه للاتصالات الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة، دعا ساركوزي رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون لاجتماع يوم الثلاثاء في مدينة فرساي الفرنسية. بيد أنه، ما زالت ثمة وجهات نظر متباينة حول ماذا يعني القول باتخاذ إجراء ملموس. وقد أعرب ساركوزي وبراون عن دعمهما لتشكيل كيان منظم دولي جديد للإشراف على البنوك الكبرى التي لها أنشطة خارج بلادها. ودعا براون إلى تعزيز منتدى الاستقرار المالي، الذي أسس في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينات من القرن الماضي. وقال براون في خطاب له الأسبوع الجاري إن المجموعة التي تضم البنوك المركزية ومسؤولي وزارة المالية وممثلي المؤسسة المالية الدولية قد خلصوا إلى توصيات هامة، ولكنه أضاف: «لم يكن لديها السلطة الكافية.» وتفضل المستشارة الألمانية، التي كانت أكثر حذرا في التعامل مع الأزمة، تعزيز الدور الذي يقوم به صندوق النقد الدولي، وإعطاءه دورا رقابيا في التمويل الدولي وجعله «حارسا» مسؤولا عن الحفاظ على الاستقرار المالي. واقترح براون، أيضا، جعل صندوق النقد الدولي «نظاما للإنذار المبكر» يختص بالمشاكل المالية، ليلفت الانتباه إلى نسب رأس المال المصرفية المنخفضة أو سوء تسعير الأوراق المالية. وقد أخذ مسؤولو صندوق النقد الدولي في تبنى فكرة دور أكبر للصندوق، وربما كجزء من سكرتارية تضم مؤسسات أخرى متعددة الأطراف. ويسعى ساركوزي إلى حشد التأييد لمقترحات للحد من الملاذات الضريبية مع توفير سلطات تحقيق دولية، والمطالبة بشفافية أكبر لاستثمارات صناديق التحوط ذات المخاطر المرتفعة وتنظيم حزم التعويض للمراجعين الماليين بطريقة يمكن أن تفضي إلى تخفيض الحافز للقيام باستثمارات تكتنفها المخاطر. ومع ذلك، يقول محلل فرنسي إن ساركوزي قد يقلل من بعض تلك الطموحات على ضوء المعارضة الأميركية. وأضاف المحلل، الذي طلب عدم ذكر اسمه: «قد يكون تجاوز الحدود شيء ما.» وتحدث رئيس الوزراء الياباني تارو آسو، الذي تولى منصبه قبل خمسة أسابيع، في خطاب ليلة الخميس عما يريده من القمة، وهو تنظيم دولي للمؤسسات المالية لهيئات تقييم الائتمان بالإضافة إلى نظام محاسبة لها معاييرها للأنشطة التجارية والأسواق العالمية. وقال رئيس الوزراء الياباني: «لا يعد النظام الحالي، الذي بموجبه تشرف السلطات في كل دولة على حدة على مؤسساتها المالية، نظاما كافيا». وألقى باللائمة على «القصور الخطير» في تقييم ائتمان الأوراق المالية الخاصة بالرهون العقارية الأكثر عرضة للمخاطر وتساءل ما إذا كانت متطلبات المحاسبة الأميركية بأن تقوم شركات بتقييم الأوراق المالية وفق القيمة السوقية لها فائدتها «على ضوء الاضطراب الذي تشهده أسواق المالي في الوقت الحالي». وقد أشارت الكثير من المؤسسات المالية إلى أن الذعر السوقي قد أدى إلى تقليل قيمة تلك الأوراق المالية بصورة كبيرا للغاية، ويقول خبراء آخرون أن البدائل قد أعطت المؤسسات المالية مهلة كبيرة لصياغة تقييماتها الخاصة، التي عادة ما تكون متضخمة. وقد تكون الصين الدولة الأكثر حذرا في هذا الأمر، ويقول وا شياوكيو، مدير معهد المال والأوراق المالية، إنه يعتقد أن المسؤولين الصينيين، رغم أنهم يشاركون نظراءهم الأوروبيين في الدعوة إلى مراجعة النظم المنظمة في الوقت الحالي، لن يدعموا مقترحا بتكوين منظمة عالمية تكون لها سلطات واسعة. ويضيف: «من المهم أن تكون هناك هيئة لها القدرة على التنسيق بين السوق العالمية والسياسات المختلفة لكل دولة، ولكن لا تعتقد الصين أن فكرة أن تكون هناك هيئة عالمية لإدارة الأوراق المالية حيث يجب أن تمس أي مؤسسة بسيادة الدول».

وبالنسبة لبعض رؤساء الدول، فإن الأزمة المالية تتيح فرصة سياسية في وقت يشعر فيه المواطنون في الدول المختلفة بالكثير من القلق إزاء المستقبل، ويواجه كل من براون وميركل وساركوزي تراجعا حسبما تفيد به التقييمات داخل دولهم. ويقول ديفيز، مدير مدرسة الاقتصاد بلندن: «أعتقد أن الحكومات تستوعب وتشعر بالقلق من أن لديها ناخبين قلقين للغاية، والنقطة الأولى هي إظهار أنه بطريقة ما هناك أجندة يمكن أن تشعر المواطنين بأن كل شيء تحت السيطرة، ويعلم البعض مثل براون وساركوزي، على وجه الخصوص، أن مستقبلهما يعتمد على هذا، ولذا فهما يتعاملان بالصورة المناسبة مع الأزمة».

ومع ذلك، تظهر بعض المخاطر، حيث تقول الكثير من القيادات التجارية، لاسيما في لندن، إن الضغط الذي سوف يظهر مع اتخاذ إجراء قوي يمكن أن يؤدي إلى قواعد ونظم حاكمة بصورة مفرطة، حيث تلعب الخدمات المالية دورا مهما في الاقتصاد. ويعرب ويلم بويتر، أستاذ بكلية الاقتصاد بلندن والمسؤول البارز سابقا في بنك انجلترا (البنك المركزي الإنجليزي) عن خشيته من «أننا سوف... يكون لدينا في النهاية نظم تغل الأيادي بالصورة التي تجعل الكثير من المؤسسات المالية لا تستطيع الدفاع عن نفسها أو لا تحقق أرباحا وسنقضي العقد المقبل في التخلص من الإفراط في القواعد المنظمة».

وتعد الفُرْقة خطرا آخر يلوح في الأفق، فإذا فشل الرؤساء في التنسيق فيما بينهم، يمكن أن يفضي ذلك إلى نتائج خطيرة، فاستجاباتهم التي يشوبها الارتباك إزاء الأزمة المالية في سبتمبر (أيلول) أدت إلى تهافت على سحب الودائع من البنوك وتذبذبات في سعر العملات، حيث أخذت الأموال تلوذ بأي دولة تعرض ضمانات أكثر. ويقول ديميتريوس تسوموكوس، أستاذ اقتصاديات المال في جامعة أوكسفورد ومستشار «بنك انجلترا»: «إذا حرمنا الكحول في حانتين فقط، سيذهب الجميع إلى الحانات الأخرى.» وأضاف الخطة التنظيمية في دولة ما لا يجب أن تكون أكثر جاذبية للأنشطة التجارية من تلك الموجودة في دولة أخرى. ويقول مايكل ميستر، وهو برلماني عن «الديمقراطيون المسيحيون» الذي تتزعمه ميركل: «مع الأزمة الحالية، أعتقد أن الفرصة قد أصبحت أكثر قربا من الوصول إلى إجماع عالمي، آمل أن تقدم الأزمة فرصة لتحقيق إصلاح حقيقي... فكلما مر المزيد من الوقت، تكون عملية تغيير القواعد أكثر صعوبة لأنه بمجرد انقضاء الظرف الملح، يظهر التردد في اتخاذ الإجراءات».

ويشير روبرت هورماتس، نائب رئيس «غولدمان ساكس»، إن قمة نوفمبر (تشرين الثاني) ستكون لها قيمتها إذا ما كانت الأولى في سلسلة من اجتماعات مجموعة العشرين، لتوسيع التنسيق الاقتصادي. ويضيف: «نحن في مرحلة تبين خلالها أن دور الاقتصادات الناشئة قد أصبح جليا، وفيه لم تعد لمجموعة السبع القدرة في نظر الكثير من المواطنين في العالم لحل هذه المشكلة وحدها».

ويقول ديفيس: «تعلمنا من هذه الأزمة أنه لا يمكن أن نتصور مستقبلا أن النظام المالي العالمي يمكن أن يدار من خلال مكالمات هاتفية من حين لآخر بين مجلس الاحتياطي وبنك انجلترا وهيئة تداول الأوراق المالية وهيئة الخدمات المالية، فلن يفلح هذا فيما بعد».

وقال براون في كلمة له أمام القيادات التجارية في لندن الأسبوع الجاري «علينا أن... نشرك الصين والهند وكل الاقتصادات الناشئة لأن الاقتصاد العالمي يتغير أمام أعيننا والنظام الذي بني في أوروبا وأميركا لن يقوى على تحمل تجارب الزمن».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الاوسط»