انخفاض تحويلات المهاجرين إلى دول أميركا اللاتينية

الأزمة الاقتصادية تمتد إلى جماعات المهاجرين في أميركا

تداعيات الأزمة المالية أدت الى تغييرات في ثقافة المهاجرين بصور طفيفة (أ.ف.ب)
TT

في الوقت الذي تخلف فيه حالة الاضطراب الاقتصادي الراهنة وضعا مأسويا في مختلف أرجاء واشنطن، جاءت ضرباتها قاسية وسريعة بصورة خاصة ضد الجاليات المهاجرة التي تتسم بالترابط الشديد بين أبنائها. ومن الواضح أن الاعتماد المتبادل بين أبناء هذه الجاليات على بعضهم بعضا الذي سبق أن أسهم بدرجة كبيرة في نجاحهم الاقتصادي، خلق الآن سلسلة تأثيرات متعاقبة، بحيث باتت المصاعب الاقتصادية التي يعانيها قطاع ما من المجموعة يؤثر بصورة تكاد تكون فورية على الباقين. وعلى سبيل المثال، نجد أن سائقي سيارات الأجرة من الإثيوبيين، الذين عانوا من تراجع حاد في أعداد عملائهم، قلصوا بدرجة كبيرة من الوجبات التي يتناولونها في المطاعم الإثيوبية في واشنطن، الأمر الذي أضر بهذه المطاعم بشدة وأصبحت تواجه صعوبة بالغة في الوقت الحالي كي تضمن استمرار عملها. وبالمثل، يجابه مقاولو البناء والمستثمرون بمجال العقارات من الكوريين، الذين تضرروا من أزمة الإسكان، صعوبة في توفير مصاريف تعليم أبنائهم بالمدارس الخاصة الكورية التي عادة ما يُرسل الآباء الكوريون اولادهم إليها. وقد أغلقت واحدة على الأقل من هذه المدارس أبوابها، بينما خفضت أخرى، وتدعى بيست أكاديمي، ولها فروع بمناطق سبرينجفيلد وسترلينج وإليكوت سيتي، مصاريف الالتحاق بها بنسبة تقارب 40 في المائة. بل وتمتد التداعيات إلى ما وراء الصعيد المالي مما أدى إلى تغيير في ثقافة المهاجرين بصور طفيفة، لكن مهمة. ويرجع ذلك إلى أن الضغوط الاقتصادية فرضت قيوداً على إمكانية ممارسة بعض العادات، في الوقت الذي عززت من أخرى. كما لجأ بعض المهاجرين إلى الخروج من النطاق المحدود للمجتمعات المهاجرة التي ينتمون إليها والمشاركة في الاقتصاد الأوسع. وتتجلى هذه التحولات بصورة خاصة بين المئات من سائقي سيارات الأجرة من الإثيوبيين في واشنطن، الذين تفاقمت المصاعب التي يجابهونها جراء تقلص أعداد عملائهم بعد اعتماد المدينة لنظام العدادات، مما جعل أصحاب التاكسيات يقولون إن الأجرة باتت الأدنى على مستوى البلاد. ومن جهته، أشار نجاسي جوجسا، الذي يعمل سائقاً لسيارة أجرة منذ حصوله على اللجوء السياسي للولايات المتحدة منذ عشر سنوات، إلى أن الأوضاع الاقتصادية سيئة لدرجة أن اتحاد المحاربين القدماء في القوات الجوية الإثيوبية، التي يحظى بعضويتها، خفضت رسومها الشهرية من 20 دولارا إلى 10 دولارات. وأوضح أن هذه الأموال تُستغل بصورة رئيسة في مساعدة الإثيوبيين الذين يصلون إلى البلاد على مواجهة حياتهم الجديدة، وتُعد جزءا من تقليد يشكل واجباً اجتماعياً يرتبط بجوهر الهوية الإثيوبية. وقال، خلال حديث أجريناه معه في فترة استراحته من عمله الثاني كميكانيكي في شمال شرق واشنطن، «عندما أتيت إلى هنا، قاموا بدفع أجرة مسكني لثلاثة شهور وكافة مصاريف طعامي... لم أملك حينها أي أموال، لذا كانت الأوضاع ستكون شاقة للغاية بالنسبة لي بدون مساعدتهم. والتزمت دوماً بالقيام بالمثل مع الشخص التالي، وأشعر بحزن بالغ لعدم تمكننا من القيام بذلك الآن».

أثناء حديث جوجسا، أومأ عبد الرازق أبو بكر، وهو إثيوبي يعمل سائق سيارة أجرة، برأسه مبدياً اتفاقه في الرأي مع زميله، وقال إنه في العام السابق، كان باستطاعته كسب ما يصل إلى 200 دولار بعد عشر ساعات من العمل. أما الآن، فيعتبر نفسه محظوظاً إذا تمكن من الحصول على 100 دولار بعد عمل 16 ساعة. ثم ركب أبو بكر، 42 عاماً، سيارته الأجرة وشرع في التوجه نحو شمال غربي واشنطن. وكان المطر يتساقط، وهو طقس يدفع الكثير من المشاة للسعي لركوب سيارة أجرة. ومع ذلك، بعد مسيرة ساعة كاملة بالسيارة، لم يحصل أبو بكر على أي راكب. وبدأ الهاتف الجوال لأبو بكر في الاهتزاز، منبئاً بمكالمة جديدة. كان المتصل شركة الرهن العقاري ترغب في الاستفسار عن آخر دفعة لم يف بها أبو بكر. وسارع أبو بكر بالضغط على زر تشغيل الرسائل الصوتية، ثم أعاد الهاتف لجيب سترته. قرابة الساعة الثانية عشر والنصف بعد الظهر، توجه أبو بكر إلى جناح ممتد من نينث ستريت (الشارع التاسع)، حيث تنتمي جميع المحال تقريباً لفئة المطاعم الإثيوبية. وأشار أبو بكر إلى أنه منذ عام مضى، كان هذا القطاع في مثل هذا الوقت يكتظ بسيارات الأجرة التي ينال سائقوها قسطا من الراحة لتناول الغذاء. وأضاف كان يتوقف دائماً عند مطعم حبشة، الذي كان يعلم أصحابه ما سيطلبه قبل أن يتفوه به، والذي لم يكن يخرج بين أمرين: إما وجبة كفتو، وهو نوع من اللحم البقري المطهو مع حب الهال وتوابل أخرى، أو لحم حمل مقلي مع البصل والفلفل. وبالنسبة لرجل يقضي الجزء الأكبر من يومه في توصيل غرباء، فإن تناول وجبة يومية مع زملائه السائقين تعني أكثر من مجرد فرصة للتواصل مع الأصدقاء والحديث عن القضايا السياسية، حسبما أوضح أبو بكر، الذي شرح أن هذه اللقاءات تعد وسيلة لاستعادة جزء من الحياة التي خلفها خلفه في إثيوبيا، حيث يعتبر التجمع أثناء تناول الطعام عنصراً محورياً في الثقافة، مع قيام الأشخاص بتناول الطعام من قطعة خبز كبيرة واحدة تدعى إنجيرا. وعلق أبو بكر على الأمر بقوله «إننا ننتمي إلى أسر كبيرة العدد. لذا نحن نبقى معاً».

إلا أنه مع وصول سعر الوجبة الواحدة إلى 10 دولارات، أصبح تناول الطعام بالخارج رفاهية. بعد الواحدة بعد الظهر بوقت قصير، فتح أبو بكر سيارته ليكشف عن عادته الجديدة في تناول الغذاء، متمثلة في حاوية بلاستيكية صغيرة ملأتها زوجته بالحمص وقطع صغيرة من إنجيرا. ولجأ سائقو أجرة آخرون لنفس الأسلوب، حسبما أكد أحد الشركاء في مطعم حبشة، ياريد مامو. وأضاف أن ما يقرب من 70 في المائة من عملائه كانوا من سائقي سيارات الأجرة. وقال «الوضع جد خطير. لقد انكمشت مكاسبنا بنسبة تتراوح بين 20 في المائة و30 في المائة. وحتى عندما يأتي إلينا سائقو سيارات الأجرة الآن، فإن الحال ينتهي بتشارك كل شخصين أو ثلاثة، بل وربما أربعة، في طبق واحد».

وقد أغلق أحد المطاعم بالحي أبوابه، بينما توقف آخر عن تقديم وجبات الغذاء. أما مامو، فقد نوه بأنه يفكر في تغيير قائمة الطعام التي يقدمها بحيث تروق بدرجة أكبر لغير الأفارقة. وعلى الجانب الآخر، هناك مؤشرات على أن أصحاب النشاطات التجارية من الكوريين الذين سبق أن قصروا اهتمامهم على العملاء من أبناء مجتمعهم، يحاولون أيضاً التوسع إلى خارج حدود هذا المجتمع. على سبيل المثال، قال سانغ كي. لي، الذي يملك حمام عمومي على النسق الكوري يحمل اسم سبا وورلد في سنترفيل، إنه يحاول تعويض تراجع أعداد عملائه الكوريين مؤخراً من خلال الإعلان في إصدارات تخدم مهاجرين من بلدان مثل روسيا وتركيا التي تنتشر بها عادة استخدام الحمامات العامة. واستطرد موضحاً أن: «في البداية كان الأمر صعباً بسبب عائق اللغة. لكنني عثرت على مترجم، والآن يسير الحال على نحو جيد. هذا مثير. لقد بدأت في التعرف على الكثير من الروس». بيد أنه في الوقت الذي يعدل المهاجرون من بعض ممارساتهم، فإنهم يعززون من البعض الآخر. وعلى سبيل المثال، نجد أن المهاجرين الذين ينتمون إلى دول أميركا اللاتينية ويتسمون بانخفاض دخولهم، الذين اعتادوا تغطية جزءا من نفقات الرهن العقاري من خلال تأجير غرف بمنازلهم، شرعوا في تطبيق هذه الممارسات بصورة جديدة. من جهته، كان فرانسيسكو راميريز، السلفادوري الذي كان يعمل بمجال الصرف الصحي قبل تسريحه من عمله منذ شهرين، يؤجر غرفتين بمنزله في هرندون لأقارب. والآن، قرر تأجير غرف لشقيقته وابنة أخيه أيضاً. وبمجيء السكان الجدد، يرتفع عدد قاطني المنزل إلى تسعة أشخاص، ولكن مع مواجهته ضرورة سداد قسط رهن عقاري تتجاوز 3000 دولار شهرياً وتحمله مصاريف نجل له في مرحلة المراهقة، يؤكد راميريز أن «هذا هو الخيار الوحيد».

ونظراً لتركز عمل المهاجرين من أصول لاتينية بشدة داخل قطاع الإنشاء والبناء، يبدو أنهم كانوا من أشد الفئات تضرراً من أزمة الرهن العقاري وتدني أسعار المنازل التي أعقبتها. وتكشف الإحصاءات أنه خلال الربع الأول من عام 2008، بلغ معدل البطالة بينهم 7.5 في المائة على المستوى الوطني. ورغم تراجعه إلى 6.4 في المائة بحلول الربع الثالث من العام، فإنه يبقى أعلى من نسبة الـ5.8 في المائة بين سكان الولايات المتحدة من غير اللاتينيين ومن الأميركيين بالمولد.

ومن ناحيتها، قالت باتي سانتاماريا، التي تدير شركة لخدمة طرود البريد في تودوس سوبر ماركت بمنطقة وودبريدج، إن معدلات البطالة الآخذة في الارتفاع تركت تأثيراً هائلاً على واحدة من العادات التي يتبعها المهاجرون من دول أميركا الوسطى، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، يقبل الآباء والأمهات على المراكز التجارية لشراء هدايا الكريسماس لأبنائهم الذين تركوهم في بلدانهم الأصلية، ثم يضعونها في صناديق كبيرة لإرسالها إليهم بالبريد مع قرب عيد رأس السنة. وقالت سانتاماريا: «في العام السابق، امتد طابور الأشخاص المحملين بطرود يودون إرسالها للخارج كبيراً للغاية وامتد حتى الكافيتريا»، مشيرة إلى ساحة تناول الطعام على بعد عدة ياردات. وأضافت: «لكننا اليوم لم نرسل طرداً واحداً... ولم نرسل سوى عشرة فقط طوال الشهر الحالي». واستطردت موضحة أن الحوالات المالية من المهاجرين إلى الأقارب في أوطانهم تراجعت هي الأخرى بشكل ملحوظ، فمثلاً، حققت التحويلات النقدية إلى دول أميركا اللاتينية أبطأ معدل نمو لها على الإطلاق. لكن راميريز أكد أنه ليست كل التغييرات كانت سلبية، فمثلاً، أشار إلى أن النساء بمنزله كن يتوجهن إلى ذات محل البقالة كل سبت للتسوق، وأنه بالكاد كان يعرف الطرق الأخرى القريبة من المحال المألوفة له. لكن في إطار سعيه لتوفير أكبر قدر ممكن من المال، اكتشف مؤخراً وجود محل يبيع بأسعار منخفضة. وقال إنه ينوي الاستمرار في التسوق من المحل الجديد حتى بعد عثوره على عمل. وقال «من السخف أن تهدر الأموال بلا ضرورة. ربما أسهمت الأمة التي تعرضت لها في تلقيني درساً جديداً».

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الاوسط»