المخاطر الاقتصادية تواجه 30 عاما من الإصلاح في الصين

انخفاض الصادرات لأول مرة منذ 7 سنوات وعودة 5 ملايين عامل للريف وإغلاق 7 آلاف مصنع

النموذج الاقتصادي الذي تقوده الصادرات والامساك بمقاليد الأمور بقبضة حديدية يواجه تحديات غير مسبوقة (رويترز)
TT

أقام الحزب الشيوعي الحاكم في الصين احتفالا ضخما يوم الخميس الماضي، احتفاءً بالذكرى الثلاثين على بداية عهد الإصلاح الذي حول الصين إلى قوة اقتصادية عالمية غيرت العالم.

وفي احتفال النصر الذي أقيم في قاعة الشعب العظمى في بكين، استشهد هُو جنتاو الرئيس الصيني بكلمات دنغ زياوبنغ الذي تولى السلطة في عام 1978 وبدأ مسيرة «الإصلاح والانفتاح»، وأكد هُو جنتاو على تركيز الحزب على التنمية الاقتصادية، فاقتبس ما قاله دنغ بأن «التنمية الاقتصادية فقط هي الخيار المعقول والوحيد».

بيد أنه على عكس تلك الخطب الرنانة، يواجه هو والقادة الصينيون مرحلة جديدة، يواجه فيها النموذج الاقتصادي لدنغ الذي تقوده الصادرات، والامساك بمقاليد الأمور في البلاد بقبضة حديدية، تحديات غير مسبوقة، حيث تراجع الطلب العالمي على البضائع الصينية، وزادت نسبة القلاقل في المعاقل الصناعية الصينية. وتحاول الصين السعي إلى تشكيل صيغة للحفاظ على الاستقرار وضمان النمو.

والتراجع الاقتصادي آخذ في التزايد بسرعة كبيرة ـ فقد انخفضت الصادرات لأول مرة منذ سبع سنوات ـ لدرجة أن بكين باتت مجبرة على تغيير أولوياتها بصورة مفاجئة. وحتى وقت قريب كان هُو يحاول إعاقة الإسراف الذي يسبب التلوث العشوائي وعدم التساوي في الدخول والتحديات الاجتماعية للتنمية طويلة المدى. والآن فإن تلك الأولويات تبدو خافتة. وعوضا عن ذلك، اعاد القادة خفض الضرائب على المصدرين لخفض قيمة العملة الصينية لتشجيع الصادرات. وفي ذات الوقت يحاولون البحث عن طرق لتحفيز الطلب المحلي وإنهاء اعتماد الاقتصاد الصيني على الأسواق الخارجية الغارقة في الأزمة المالية التي تجتاح العالم. وعلى الجانب السياسي، أبدى القادة الصينيون آمالهم في أن يؤدي الثقل الرمزي للذكرى السنوية وبريق ما بعد الأولمبياد إلى فرض بعض إجراءات الإصلاح السياسي للتعامل مع الفساد الرسمي والمساعدة في القضاء على التوتر الاجتماعي المتنامي.

غير أنه نتيجة لقلق بكين المتنامي بشأن الإضرابات والتسريح الجماعي للعمال حتى في بعض مناطقها الغنية، فقد تضاءلت مسحة التسامح الرسمي الذي تقوم به الحكومة تجاه المعارضين السياسيين. فقد اعتقل هذا الشهر أحد أشهر المعارضين السياسيين لكتابته رسالة مفتوحة يطالب فيها بديمقراطية أوسع، كما تمت إعادة تعيين أحد المحررين في إحدى الصحف القومية الكبرى بعد نشره مقالا اعتبرته السلطات تحريضا سياسيا. وقال هو في خطابه يوم الخميس، بحسب ما نقلته وكالة رويترز «يجب أن نستفيد من الحضارة السياسية للإنسانية، لكننا لن نكون نسخة أخرى من نموذج النظام السياسي الغربي».

تعد مدينة شينزان المنطقة المثلى التي تعد أصدق تعبير عن فترة الإصلاح الصيني، فهي مدينة نتجت عن خيال دنغ التي تعاني الآن من الانكماش الاقتصادي. ويأتي احتفال الخميس كتذكير بالاجتماع السياسي ثيرد بلنيوم في عام 1978 الذين شهد تعيين دنغ زعيما للبلاد وقدم برنامج «الإصلاح والانفتاح»، وبعد عامين حدد دانغ إحدى قرى الصيد الصغيرة على الساحل الجنوبي للصين بالقرب من هونغ كونغ لتكون حاضرة الصين الاقتصادية و«المنطقة الاقتصادية الخاصة» لتجربة الاستثمار الأجنبي وتصدير المصنوعات. أما اليوم فيسكن شينزين أكثر من 10 ملايين نسمة وتضم آلاف المصانع.

وتعد منطقة المصانع، فوكياو إنداستريال بارك، التي تقع خارج شينزين صورة للمشكلات الاقتصادية التي تمر بها المنطقة، فقد أغلقت بعض المصانع الصغيرة خلال الأشهر القليلة الماضية، وفي مصنع وانغ جندا إنداستريز تكدست القمامة أمام مدخل المصنع بعد أن قام مالكه بإغلاقه الأسبوع الماضي، وكان عميلان قد وصلا للحصول على شحنة بضائع ليجدا المصنع مغلقا.

وفي هذه الأثناء، تصارع المصانع التي لم تغلق، فأشار العمال في أحد مصانع الطباعة الكبيرة إلى أن صاحب المصنع توقف عن استقدام عمال جدد في سبتمبر (ايلول) الماضي على الرغم من مغادرة العديد من العمال للعمل. وشكا العديد من العمال من انخفاض الأجور بصورة ملحوظة نظرا لأن صاحب المصنع قد خفض من عدد ساعات ورديات العمل، واتهم عدد من العمال مالك المصنع بمحاولة تخفيض الأجور لدفع العمال إلى ترك العمل. وتشكو لين بوازينغ التي تبلغ من العمر 26 عاما التي تعمل محاسبة في أحد المقاصف داخل إنداستريال بارك، من ضعف الإقبال في فترات الغداء من 500 إلى 100 بالقول: «الكل متوجس هنا». وأضافت لين وابنتها الصغيرة التي تبلغ من العمر 3 سنوات تلعب إلى جوارها: «إذا كان الاقتصاد سيئا فكيف يمكنني أن أربي تلك الطفلة».

ولا تزال إمكانية إحصاء عدد المصانع التي أغلقت في شينزن وإقليم غواندونغ، محرك التصدير الرئيسي في البلاد، صعبة. فقد كان الإقليم يحاول القيام بجهد متصل لتعزيز سلسلة قيمة التصنيع في الوقت الذي يعمل فيه ارتفاع تكاليف العمالة والقوانين الحكومة الصارمة على عدم ربحية المصدرين للبضائع الصغيرة والرخيصة. غير أن التراجع الأخير في حجم الصادرات كان له تأثير غير متوقع، فأكثر من 7 الاف مصنع صغير ومتوسط أغلقت أبوابها خلال الشهور الأخيرة. وقال عمدة مدينة شينزين إن 5 الاف شخص فقدوا وظائفهم في المدينة خلال الشهور القليلة الماضية. وتشير الدلائل المتزايدة إلى إمكانية تفاقم المشكلة، بيد أن الاقتصاد الصيني سيواصل توسعه في العام المقبل. ويشير بعض الاقتصاديين إلى أن الاقتصاد الصيني سينمو لكن معدل النمو سينخفض إلى 5 أو 6 في المائة وهو ما يعد أقل بكثير عما حققته الصين خلال الأعوام العديدة المنصرمة.

وأشار الإعلام الرسمي الصيني إلى إن 4.85 مليون عامل مهاجر عادوا إلى الريف قبل احتفالات رأس السنة القمرية التي ستجرى الشهر المقبل. وقد أعلنت بعض المقاطعات الداخلية عن تقديم إعانات بطالة للعائدين، كما أعلنت وكالة الأنباء الرسمية الصينية شنخوا، أن 6.5 مليون عامل مهاجر يمكن أن يفقدوا وظائفهم خلال العام المقبل.

وكانت الصين قد استعادت أخيرا بعض إعانات التصدير التي ألغيت من قبل كجزء من جهود سابقة لإعادة التوازن الاقتصادي باتجاه الطلب الداخلي. وينوه هوانغ ياشنغ أستاذ الإدارة في معهد ماساشوتس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة إلى أن تلك الإعانات خلقت إحساسا سياسيا قصير المدى، بالنظر إلى كم الوظائف التي تقدمها المصانع لكنها لم تتعامل مع التحديات طويلة الأمد التي تواجه الاقتصاد الصيني فقال: «الحقيقة أنهم لا توجد لديهم طرق بديلة للحفاظ على العمالة».

وأشار إلى أن تركيز الحكومة على الصادرات وتوسيع دور الشركات المملوكة للدولة منذ التسعينيات أضاف بصورة قليلة إلى ثروة الدولة التي انتقلت بصورة ضعيفة إلى المواطنين. وأضاف إن دخل الأسر الصينية كان منخفضا مقارنة بالنمو الكلي، وهو ما يعنى أن مئات الملايين من المواطنين العاديين لا يزالون يحظون بنسبة إنفاق بسيطة، وهي مشكلة رئيسية عندما تحاول الحكومة زيادة الاستهلاك المحلي بصورة كبيرة، وقال هوانج مؤلف كتاب «الرأسمالية بملامح صينية» الذي صدر أخيرا: «إنه تحد ضخم».

الرد الصيني الفوري سيكون عبر برنامج تحفيز يركز على البنية التحتية مثل الطرق والموانئ، كما أمرت البنوك المملوكة للدولة بتسهيل عمليات الائتمان، وتم إلغاء ضرائب الأعمال على بيع العقارات الأسبوع الماضي. تعد تلك الخطوات أساسية في دعم الاقتصاد الصيني ومنع زيادة حدة الكساد العالمي. غير أن بعض المسؤولين الصينيين يبدون قلقين من الأثر المحتمل لفترة أخرى من التنمية الصناعية التي تقودها الدولة. والبرنامج التحفيزي الذي تديره الدولة قد تم سنه لمواجهة الأزمة المالية الآسيوية عامي 1997 و1998 والذي مكّن الصين من تجنب الكساد الذي عانت منه الدول المجاورة. غير أن ذلك جذب استثمارات عدة في الصناعات الثقيلة مما كان سببا رئيسيا في كون الصين أكبر دول العالم الملوثة للهواء. وقد ألقى بان يو نائب وزير البيئة الصيني في مقال افتتاحي في صحيفة «الشعب» اليومية التي تصدر على الإنترنت، باللوم على إفراط الدول الغربية في الأزمة العالمية وحذر من أن الصين ستواجه الدمار إذا ما تبعت النموذج الصناعي الغربي.

وكتب بو «المكاسب التي حققها الإصلاح الصيني والانفتاح خلال فترة 30 عاما أكثر مما حققه الاقتصاد الغربي في 100 عام، غير أن 100 عام من التلوث البيئي تجسدت عبر 30 عاما في الصين. إن الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية تظهر ان انتهاج الصين للأسلوب القديم للحضارة الصناعية الغربية لن يؤدي إلا إلى دمار الصين».

تعد الصين مكانا أكثر انفتاحا وديناميكية عن الدولة التي أطلقها دنغ منذ ثلاثة عقود مضت، وقد جاء هذا التغيير من خلال المواطنين البسطاء الذين ناضلوا ليحظوا بفرصة في هذا المجتمع، في الوقت الذي جاء فيه معظم النجاح الاقتصادي للصين من طاقة المخاطرة والعمل الجاد لقوتها العاملة. غير أن قادتها السياسيين كانوا حذرين في تحجيم القوة السياسية فظلت الاتحادات المستقلة والمعارضة السياسية غير مستقلة. وكان من الواضح أن قادة شينزين كانوا مصممين، في أوائل العام الحالي، على وضع المدينة كرائد للإصلاح السياسي، فنشر المسؤولون في شينزين خطة إصلاح تدافع عن بعض الانتخابات المحلية ومساحة أكبر للتشريعات المحلية والمحاكم لاتخاذ القرارات، لكن بعض الخطط التي دعمها القادة الإقليميين، تبدو وكأنها خرجت عن الخط لأن المسؤولين ركزوا على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.

ويؤكد بعض المسؤولين الصينيين المقربين من دوائر صنع القرار على ضرورة القيام بالمزيد، فيقول يو كبنج، الأستاذ بمعهد أبحاث الحزب الشيوعي الذي يقدم المشورة لكبار قادة الصين، والذي نشر مقالاً هذا الأسبوع في إحدى الجرائد واسعة الانتشار في الصين حول الحاجة إلى مزيد من الديمقراطية للقضاء على الفساد.

ودعا يو في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «نيويورك تايمز» إلى «إصلاح كبير»، لكنه أشار أيضا إلى أن التغيير لابد و أن يأتي تدريجيا، نظرا للحاجة إلى الاستقرار الاجتماعي، مع التأكيد على الحكم الجيد وسيادة القانون فقال: «نحن بحاجة إلى تعزيز الديمقراطية في الصين» وأضاف «من ناحية أخرى علينا تعزيز الاستقرار الاجتماعي، وإذا ما أجريت انتخابات الآن لربما انتهينا إلى ما انتهت إليه تايلاند».

حقيقة الأمر أن التحرك المحدود باتجاه التغيير السياسي المتواضع يمكن أن تعززه المشكلات الاقتصادية فيقول بعض الخبراء ومن بينهم جوزيف فيوسميث الأستاذ بجامعة بوسطن الاميركية، الذي يدرس السياسة الصينية «إن أهم التساؤلات يكمن في كيفية تأثير التردي الاقتصادي على أشكال الإصلاح السياسي». وأشار إلى أن السياسيين قد يحدون من جهودهم في تنفيذ قانون إصلاح الأراضي الريفية الجديد الذي تمت الموافقة عليه هذا الخريف لمنح الفلاحين القدرة على نقل حقوق ملكيتهم. ويضيف فيوسميث «سيسير الأشخاص القلقون بشأن الاستقرار الاجتماعي ببطء شديد».

* شارك زانغ جينغ وهوانغ يانشي في هذا التقرير

* خدمة «نيويورك تايمز»