حرب الغاز في لعبة الاقتصاد والسياسة

روسيا تحاول الاستفادة من الأزمة الاقتصادية للحصول على ديونها من أوكرانيا.. وتعاقبها على دعمها لجورجيا

TT

بدءا من عشية رأس السنة، سيرتفع سعر الغاز الى 250 دولارا عن كل الف متر مكعب بدلا من 175 دولارا في العام 2008. هذا ما أبلغته روسيا لأوكرانيا قبل بداية العام الحالي، وقبل أن تبدأ الأزمة بين البلدين إثر قرار موسكو تسكير انابيب الغاز التي تمر عبر اوكرانيا وتصل الى اوروبا. حينها، رفض الوفد الاوكراني قرار موسكو وأعرب عن احتجاجه بقطع المباحثات وعاد الى كييف. ومع بداية سنة جديدة، ورفض اوكرانيا الدفع وفق المبلغ الجديد، هددت روسيا ونفذت. قطعت الغاز عن اوروبا وأغرقت بلدان البلقان واوروبا الشرقية في صقيع وخسائر بشرية لاتزال محدودة حتى الان، وخسائر مادية نتجت عن اغلاق شركات ومؤسسات أبوابها بسبب عدم توفر الغاز لتشغيل المعامل، او عدم توفر تدفئة لتعديل الحرارة المنخفضة التي وصلت في بعض البلدان الى 25 درجة مئوية تحت الصفر.

رئيس الحكومة الروسي فلاديمير بوتين أعلن، خلال لقائه مع ألكسي ميللر رئيس مؤسسة «غاز بروم» الروسية، عن مباركته لقرار قطع الغاز ما دامت اوكرانيا تواصل «سرقة الغاز الروسي المخصص لبلدان القارة الاوروبية». واختار بوتين ان يعلن دعمه للقرار، الذي جاء أشبه بالامر، علانية وامام وسائل الاعلام وبحضور مراقبين من مختلف الاوساط الاوروبية. وكانت موسكو قد سبق واعلنت رسميا مثل هذه التصريحات في اكثر من مناسبة على مدى الاعوام الثلاثة الماضية ردا على محاولات اوكرانيا الرامية الى تصدير خلافاتها السياسية والاقتصادية معها الى اطراف ثالثة سعيا وراء الدعم غير المباشر من جانب بلدان الاتحاد الاوروبي. وجاءت ازمة هذا العام لتؤكد ان الواقع الراهن لعلاقات الجارين السلافيين، ينذر باخرى اكثر حدة، قد تمتد الى التأثير على علاقات روسيا مع العالم الخارجي الذي طالما اعرب عن قلقه تجاه ما اسماه «بمحاولات موسكو استخدام سلاح الطاقة كسلاح يشكل خطرا كبيرا ليس فقط على امن اوروبا وحسب بل وكل منظومة الامن العالمي». ومن هذا المنظور، يمكن تناول التصريحات الرسمية الاخيرة الصادرة عن موسكو. التي قالت انها اضطرت الى اخذ قرار وقف صادرات الغاز الروسي الى اوروبا عبر مساراته الاربعة داخل الاراضي الاوكرانية، بعد ان بلغت سرقات اوكرانيا للغاز المخصص للبلدان الاوروبية ما يقدر بقرابة 15 بالمائة، اضافة الى تزايد هذه النسبة من ساعة لأخرى حسب تصريحات الكسي ميلر رئيس مؤسسة «غاز بروم». وكانت وكالات الانباء قد تناقلت خلال الساعات الاولى من صباح الاربعاء الماضي، تقارير حول انخفاض كميات الغاز الروسي الى كل من المجر بنسبة 65 بالمائة، واليونان بنسبة 81 بالمائة، وبلغاريا بنسبة 90 بالمائة، الى جانب فرنسا التي انخفضت وارداتها من الغاز الروسي بنسبة 70 بالمائة، وايطاليا بنسبة 90 بالمائة. وانقطعت واردات النفط الروسي تماما الى كل من النمسا وصربيا وكرواتيا والبوسنة ومقدونيا وبلدان اوروبية اخرى.

وتتفق هذه الارقام مع ما صدر من تصريحات عن فالنتين زيمليانسكي المتحدث الصحافي باسم مؤسسة «نفطوغاز» الاوكرانية والتي تقول «انه مادامت الكميات المخصصة لاوكرانيا من الغاز الروسي تعادل صفرا، فلا بد ان تتساوى نسب البلدان الاوروبية مع هذا الرقم. وعلى موسكو ان تعالج مواقفها مع اوروبا». ولعله من المناسب هنا التوقف لتوضيح بعض ملابسات الخلاف الذي تتراوح اسبابه الحقيقية بين السياسة والاقتصاد ويمتد تاريخه الى سنوات طويلة. يعزو البعض الكثير من جوانب هذا الصراع، الى اندلاع ما يعرفه العالم تحت اسم «الثورة البرتقالية»، واعلان قيادتها عن الرغبة في الانضمام الى حلف الناتو والاتحاد الاوروبي. وكانت موسكو قد حذرت من مغبة محاولات العاصمة الاوكرانية «تسييس القضية»، بحسب تعبير ألكسي ميللر. الا ان الاسباب المباشرة للمشكلة تكمن في عجز اوكرانيا عن سداد الديون المستحقة لروسيا وتبلغ في مجملها ما يقرب من الثلاثة مليارات دولار، وهي قيمة صادراتها من الغاز خلال العامين الأخيرين، الى جانب الخلاف حول اسعار الغاز ورسوم عبور صادرات روسيا من الغاز الى البلدان الاوروبية. غير ان موسكو تدرك ايضا ان اوكرانيا تحاول استفزاز موسكو من اجل وقف صادراتها من الغاز، وهو أمر لا بد ان يسفر عمليا عن فقدان ثقة شركائها الاوروبيين فيها كمُصدر اساسي للطاقة يفي باربعين في المائة من احتياجاتهم ولاسيما في فصل الشتاء. ورغم ان بوتين اعلن ان الاسعار الجديدة التي فرضتها بلاده على أوكرانيا منذ مطلع العام الحالي، تراعي ضمنا اوضاع «المواطن الاوكراني الشقيق»، وانها تقل كثيرا عن اسعار الغاز الروسي الى البلدان الاوروبية المجاورة لاوكرانيا، والتي تبلغ 470 دولارا عن كل الف متر مكعب، فقد سارعت المصادر الاوكرانية الى اعلان رفضها والمطالبة برفع الرسوم المستحقة لاوكرانيا عن عبور صادرات الغاز الروسي الى البلدان الاوروبية من 1,7 دولارا الى دولارين عن كل مائة كم. بالطبع موسكو رفضت الطلب، استنادا الى ان الاتفاقيات الموقعة مع اوكرانيا حددت الاسعار حتى نهاية العام 2010. إزاء هذه المواقف المتشددة من جانب اوكرانيا واستمرارها في ارتكاب «سرقات» الغاز المخصص للبلدان الاوروبية، اعلنت موسكو انها تصر على تحديد 450 دولارا عن كل الف متر مكعب ثمنا لكل الغاز المسروق في اوكرانيا، والذي بلغت كمياته، حسب مصادر «غاز بروم»، ما يقرب الـ 21 مليون متر مكعب. وأعلنت رفع قيمة صادراتها من الغاز الروسي لاوكرانيا الى 450 دولارا (بدلا من 250 دولارا سبق ورفضتها كييف خلال مباحثات «نفطو غاز» الاوكرانية في موسكو)، في اطار التماشي مع اسعار السوق تحسبا لملاحظات الكثير من البلدان الاوروبية المجاورة لاوكرانيا والتي «اعربت عن دهشتها تجاه هذه التفرقة»، بحسب تصريحات رئيس مؤسسة «غازبروم». وقد اعلن الكسندر ميدفيديف نائب رئيس مؤسسة «غاز بروم» خلال زيارته الاخيرة لباريس، عن ضرورة التزام اوكرانيا ايضا بسداد قيمة «سرقاتها» من الغاز المخصص للبلدان الاوروبية بسعر 450 دولارا عن كل الف متر مكعب، في الوقت الذي قال فيه بوتين ان اوكرانيا سرقت هذا الغاز من البلدان الاوروبية وليس من روسيا، في محاولة لتبديد مخاوف الدول الاوروبية وفقدان ثقتها في روسيا كشريك اقتصادي وسياسي. غير ان هناك من يقول ايضا بان موسكو تبحث عن السبل المناسبة لتعويض خسائرها الكبيرة التي لحقت باقتصادها القومي نتيجة تفاقم الازمة الاقتصادية العالمية والانخفاض الحاد لاسعار النفط الذي لا بد ان يلحقه بالتبعية انخفاض اسعار الغاز بما يعني ضمنا ضرورة التوقف عن المجاملات والمضاربات في ما يتعلق باسعار الغاز. وليس سرا ما يتردد اليوم في مختلف الاروقة السياسية والاقتصادية الاوكرانية والروسية، حول ان موسكو يجب ان تسارع باستغلال الظروف الراهنة لتحقيق اكبر قدر من المكاسب السياسية في هذا البلد المجاور الذي يحمل اهمية استراتيجية كبيرة، في الوقت الذي تغرق فيه صفوته السياسية في صراعها حول السلطة قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام المقبل. ومن هذا المنظور يمكن تناول قرار رئيسة الحكومة الاوكرانية يوليا تيموشينكو، حول الغاء زيارة لها كانت مقررة لموسكو في ظل احتدام مشكلة الغاز في نهاية العام الماضي. غير ان ملامح الموقف الراهن تقول ان هناك ما يجعله مختلفا بعض الشيء عن تلك الازمة التي احتدمت بين البلدين في العام 2006 في اعقاب نجاح «الثورة البرتقالية» التي رفعت شعارات العداء لروسيا، واعلنت عن تبنيها لكل توجهات الدوائر الغربية المناهضة لسياسات بوتين ومحاولاته الرامية الى الحد من هيمنة القطب الواحد. واذا كانت وقائع الازمة الماضية جرت في اطار اقرب الى السياسة منه الى الاقتصاد، فان الاحداث الجارية تقول ان ملابسات المشكلة اليوم تتسم بطابع اقتصادي في معظمه تحت وطأة احتدام الازمة الاقتصادية العالمية وانخفاض اسعار النفط، العماد الرئيسي للاقتصاد القومي الروسي. واضافة الى ذلك، هناك انخفاض قيمة اسهم مؤسسة «غاز بروم» بما يقدر بـ 74 بالمائة، ما يجعلها في امس الحاجة الى تحصيل مستحقاتها من الجانب الاوكراني. اما في الجانب السياسي، فهناك وقوف كييف الى جانب جورجيا في حربها الاخيرة مع روسيا، وامدادها لها بمنظومات الدفاع الجوي التي اسقطت اربعا من افضل المقاتلات الروسية. وتدرك موسكو جيدا في الوقت ذاته ابعاد السيناريو الاوكراني الذي تعتمده كييف في ادارة الازمة الراهنة، ويكمن جوهره في انها تحاول المماطلة اعتمادا على ما تملكه من احتياطيات الغاز الى جانب ما تستطيع «سرقته» من مخصصات اوروبا من الغاز الروسي الى حين انخفاض الاسعار العالمية للغاز. وعلى ضوء تفاقم المشكلة الراهنة، عادت مؤسسة «غاز بروم» الى التفكير في تعويض القصور الراهن من خلال استخدام الخطوط البديلة لنقل الغاز عبر اراضي بيلاروسيا. وكانت موسكو قد استوعبت الكثير من دروس ازمة الغاز بينها وبين اوكرانيا في العام 2006، ما جعلها تقدم على الاتفاق حول انشاء خط انابيب «التيار الشمالي» لنقل الغاز عبر قاع بحر البلطيق الى المانيا، وهو المشروع الذي اتفق حوله في حينه فلاديمير بوتين مع المستشار الالماني السابق جيرهارد شرويدر الذي يتولى اليوم منصب رئيس مجلس ادارة المشروع. وقد التقى شرويدر مؤخرا مع صديقه القديم بوتين في موسكو، ليبلغه بان المشروع الذي وافقت كل بلدان الاتحاد الاوروبي على المساهمة فيه، سيبدأ العمل به اعتبارا من اكتوبر (تشرين الاول) العام 2011. وابلغ شرويدر رئيس الحكومة الروسية بوتين بقرار المستشارة الالمانية انجيلا ميركل حول ايفاد مراقبين من المانيا لمتابعة الاوضاع على «حدود الغاز» بين روسيا واوكرانيا. ولما كانت الخلافات بين القيادتين السياسيتين في البلدين بلغت ما هو اقرب الى الطريق المسدود، فقد استقر رأي العاصمتين عند ضرورة اللجوء الى اوروبا كطرف ثالث وسيط، في الوقت الذي قام فيه موفدا الجانبين بزيارات لكل من بروكسل ولندن وباريس وبراغ - عاصمة الدورة الحالية للاتحاد الاوروبي. وقد توجه الكسي ميللر رئيس «غاز بروم» الى بروكسل في احدى محاولاته الاخيرة لانقاذ ما يمكن انقاذه بتكليف شخصي من رئيس الحكومة الروسية الذي يبدو شديد الحرص على الحيلولة دون نجاح اوكرانيا في افساد علاقات روسيا مع شركائها الاوروبيين.