ديون الشركات والبنوك في روسيا بلغت 128 مليار دولار هذا العام

الأيام الأخيرة لطبقة الصفوة

تراجعت الحكومة الروسية عن سياسة الخصخصة متحججة بالتخلف عن سداد الضرائب (إ.ب.أ)
TT

إنهم أكثر من شخصيات عامة في بلادهم وخارجها، إذ يعتقد هؤلاء الرجال أنهم شخصيات من العظماء في روسيا بقدر كارنغي وروكفلر. إنهم تلك الطغمة من الرجال الذين يعرفون بطبقة الصفوة، الذين قد تلقي بهم الأزمة الاقتصادية إلى مزبلة التاريخ.

تلك الثلة من الشباب الثري الأحمق الذين شهدتهم روسيا خلال فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي الذين نجوا من التأميم ـ ولنقل من السجن أو النفي ـ في ظل حكم فلاديمير بوتين كونوا ثروات أكبر في ظل ازدهار تجارة السلع في السنوات الأخيرة، لكن القليلين منهم سقطوا بصورة مدوية في الشهور الأخيرة.

كان العديد من أثرياء روسيا معرضين لمواجهة أزمة مالية وكانوا غير قادرين على طلب القروض من البنوك الغربية، فقام الكرملين بمساعدتهم عبر قروض قصيرة الأمد العام الماضي، إذ لم يكن يرغب في أن تسقط الأصول الروسية في أيدي أجنبية. تلك الديون التي قدمتها الدولة سيأتي ميعاد استحقاقها في نهاية هذا العام بالإضافة إلى القروض الخارجية.

ويقول البنك إن جبل الديون من الضخامة بمكان ـ يقدر البنك المركزي الروسي ديون الشركات والبنوك في روسيا بدفع 128 مليار دولار هذا العام بمفردها ـ بحيث يجعل من العديد من هؤلاء النخبة غير قادرين على تسديدها. ويأتي جزء من هذا الدين حوالي 7 مليار في صورة سندات شركات أما الباقي فهو قروض بنكية للشركات التي تملكها طبقة الصفوة أو الدولة.

وتقول أولجا كريستيانوفيسكايا عالمة الاجتماع التي تدرس الصفوة الروسية في الأكاديمية الوطنية للعلوم «إن من تبقى منهم سوف تسحقه الأزمة. ويمتلك الكرملين جميع الأدوات، وإذا ما رغب في المساعدة فإنه سيقدم يد العون، وإن لم يرغب في تقديمها فسيقولون إننا نتحرر الآن وعلاقات السوق هي التي ستحدد من الذي سيستمر».

ويعاني بعض هؤلاء من طبقة الصفوة من الإحباط لدرجة أن مجموعة من المديرين التنفيذيين لشركات المعادن قاموا بزيارة إلى الكرملين في يناير (كانون الثاني) الماضي لتقديم مقترح لم يكن غير وارد من قبل. فقد اقترحوا في لقائهم مع الرئيس ديمتري ميدفيديف دمج أصولهم التي تضم بعض أضخم مناجم روسيا ومصانعها في شركة مشتركة تديرها الدولة، مقابل قيام الدولة بإعادة تمويل المليارات في ديون البنوك الغربية.

وبعبارة أخرى، اقترحوا طواعية عكس مبدأ خصخصة الحصص مقابل القروض المثيرة للجدل والتي أفرزت هذه الطبقة في أواسط التسعينات.

ويقول روب إدواردز، المحلل في قطاع المعادن في معهد رنيسانس كابيتال في موسكو كانوا يتسابقون للفوز بإجراء صفقات مع الحكومة، وكان الوصول إلى احتياطات العملة الصعبة الروسية عبر طبقة الصفوة «بطاقة الحرية للخروج من السجن».

لسوء حظ الكثيرين من أبناء طبقة الصفوة والبنوك الغربية التي أقرضتهم فإن تلك الورقة لم يعد لها تأثير يذكر، ففي تناقض واضح تبدي الحكومة، التي دعمت تأميم صناعة النفط والصناعات الأخرى وتسعى للحصول على تمويلات لدعم الروبل والميزانية قلقها من الاستثمار في الصناعات المضطربة.

ويبدو أن طبقة الصفوة الذين كانوا من القوة بحيث لا يقهرون من قبل باتوا معرضين للغاية لسيطرة الحكومة، فسواء ساعدتهم الدولة أم لم تساعدهم فمن المرجح أن تحصل الحكومة على المزيد من السيطرة على عملياتهم، وإذا لم يحظوا بالمساعدة فإن الكثيرين منهم سيواجهون الإفلاس مع تأميم شركاتهم بصورة أو بأخرى. وأي خطة إنقاذ جديدة ستعني حصصا كبرى للحكومة في أسهم تلك الشركات.

ويقول العاملون في مجال البنوك، إن الأزمة أثرت على أسلوب حياة أصحاب اليخوت والطائرات النفاثة والعيش المترف في بريطانيا وفرنسا.

وقال أليشر عثمانوف، أحد أباطرة صناعة الحديد والصلب وأحد الحضور في اجتماع الكرملين في مقابلة معه: «الأزمة التي نشهدها اليوم بالغة الأثر على منتجي المواد الخام، وسوف تستنزف منا ما جمعناه بالأمس».

وخلصت قناة بلومبيرغ الإخبارية إلى أنه خلال التدهور الأولي للبورصة الروسية الذي حدث في الفترة بين مايو (آيار) وأكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، فقد 25 من أثرياء روسيا الذين كانوا من بين قائمة فوربس لأثرياء روسيا 230 مليار دولار، كان البعض منهم غير قادر على الفوز بمساعدة الدولة المخصصة للحفاظ على الطائرات واليخوت والمنازل في كوت دي آزور كمكمل للقروض، وذلك بحسب قول أوليج فيوجين مدير بنك إم دي إم.

هناك العديد من أباطرة الأعمال زبائن لدى فيوجين، لكنه رفض مناقشة أية تفاصيل خاصة عما زعمه مؤخرا لكنه قال إنه يلتقي كثيرا مع هؤلاء الأثرياء لتوقيع هذه الاتفاقات، ويفسر ذلك بالقول: «إن الأصول الصناعية لم تعد تساوي الكثير في هذه الأيام».

غير أن أكثر هذه المجموعة التي نعمت بالثروة في أعقاب الاتحاد السوفياتي لا تزال على المحك، فيوضح اجتماع الكرملين أن الملكية المستقبلية لصناعة المعادن والتعدين العالمية، التي تحتاج إلى استعادة الإمدادات في أي انتعاشة اقتصادية، معرضة للخطر.

وإلى جانب عثمانوف، كان من بين طبقة الصفوة الآخرين الحاضرين الاجتماع أوليج ديريباسكا الفيزيائي النووي الذي تحول بعد العهد السوفياتي إلى صاحب شركة، وميخائيل بروخوروف مستثمر المعادن المعروف بالملياردير الأعزب، وفلاديمير بوتانين رجل الصناعة وأول من خاض تجربة الخصخصة، وفيكتور فيكسيلبيرج أحد أقطاب صناعة النفط الذي تبرع في الآونة الأخيرة بمجموعة من بيض فابريجيه تقدر بنحو 100 مليون دولار (اشترى بعضها من عائلة مالكوم فوربس) إلى المتحف الروسي.

ويشكل هؤلاء جميعا أضخم منتجي العالم للألمنيوم والنيكل، ومنذ الوهلة الأولى بدا مقترح طبقة الصفوة مشابها لما تدرسه الحكومات على مستوى العالم، وهو الحصول على حصص من الشركات المنهارة، لكن روسيا مختلفة حتى قبل الأزمة فقد كانت الحكومة تعمل على تعزيز الصناعة في يد الدولة، والاستحواذ على الشركات، هنا في وسط الأزمة سيبدو كسياسة إجرائية من أجل توسيع دور الحكومة في مجال الأعمال.

وتجري محادثات الآن على نفس النمط الروسي المبهم: فالذين يملكون المال والقوة يناورون في أروقة القصر. وتقول ماشا ليبمان الباحثة في مركز كارنجي في موسكو «ما يهم في روسيا هو الشخصيات».

تحديد شخصيات الصناعيين الكبار الذين سيصعدون أو يهبطون بالنسبة لرجال البنوك الغربيين أصبحت مبهمة في عصر ما بعد الاتحاد السوفياتي بالنسبة لعلم الكرملين، فاللاعبون الصناعيون أبدوا انزعاجهم عندما علموا أن ديريباسكا، الذي يعتبر شخصية صناعية من الطراز الأول ظل منتظرا في الرواق خارج مكتب أحد الوزراء، وذلك حسب ما رواه أحد مستشاريي صناعة المعادن الذي لم يرغب في أن يناقش أمر الصناعة بصورة علنية وقال: «لم يعد الوزراء راغبين في لقائه».

أما بالنسبة لأباطرة الصناعة الذين قارنوا نمو ثرواتهم وتوسعهم المستمر في التسعينات ببارونات الرأسمالية الأميركية في نهاية القرن الماضي، فإن التأميم أو الإفلاس ليس مانعا للمعونة وميراث العائلة.

وقد يلجأ الروس إلى إدارة شركاتهم كجزء من إدارة قطاعات الدولة، لكن الأكثر غموضا ربما يكون النفي أو السجن الذي أصبح من بين التقاليد الروسية في الآونة الأخيرة. فمنذ بداية التسعينات واجه الكثير من رجال الأعمال مشكلات مع بوتين مثل بوريس بريزوفسكي الذي عرف من قبل بأنه كاردينال الكرملين وفلاديمير غوسنكسي المصرفي ورجل الإعلام واللذين اختارا النفي الاختياري.

خلال الأسبوع الماضي، تمت إعادة محاكمة ميخائيل كودوركوفسكي، الرئيس السابق لشركة يوكوس الذي قضى ستة أعوام في السجن بتهمة التهرب من الضرائب والاحتيال، مرة أخرى بتهم تبييض الأموال والاختلاس. وقال مناصروه إن المحاكمة الأولى كانت مناورة من الرئيس بوتين للقضاء على المنافسة السياسة المحتملة ومن الممكن أن تضيف المحاكمة الجديدة 22 عاما إلى عقوبته.

أما ديريباسكا المتزوج من حفيدة رئيس روسيا الأسبق بوريس يلتسن لم يعد ينظر إليه كأغنى رجل في روسيا، قد أوردت مجلة فينانس للأعمال هبوطه إلى المركز الثامن بعد انخفاض أصوله بنحو 90% لتصل إلى 4.9 مليار دولار خلال انهيار السوق الذي شهدته روسيا في الربيع الماضي. ووضعت المجلة بروخوروف كأغنى رجل في روسيا بثروة تقدر بـ 14.9 مليار دولار.

ربما يكون بروخوروف من أكثر الناس استفادة من سوء حظ الآخرين: عندما أجبره فريق بوتين على بيع أسهمه في شركة نوريسك نيكل إلى ديريباسكا في أبريل الماضي بالقرب من ذروة السوق، والآن يملك بروخوروف المال بينما ترك ديريباسكا يعاني ديونا بالمليارات.

وقد تهاوى الآخرون بذات الطريقة، فإمبراطور العقارات والنفط شالفا تشيجيرنيسكي وعد حاملي الأسهم في شركاته ببيع طائرة ومنازل في فرنسا وبريطانيا لتسديد الديون.

بينما كان سيرجي بولونسكي شديد الثقة في رهاناته على المجالات التي تشهد رواجا كبيرا في موسكو حيث سمى ابنه، ميراكس، باسم الشركة، ميركس غروب كوربوراشن، العام الماضي. وقد أقام بولونسكي في الآونة الأخيرة مؤتمرا صحافيا فند فيه الشائعات التي أثيرت حول إفلاس الشركة.

وكان ميخائيل فريدمان الملياردير ذو الوجه الطفولي قد أجبر على أن يطلب من دوستشي بنك في الخريف الماضي اتفاق ثقة بعدم رهن أحد أصوله الثمينة، وهي نسبة 44% من فيمبل كوم وهي شركة هواتف خلوية. وبعد المحادثة تمكن فريدمان من تأمين 2 مليار دولار من خطة الإنقاذ التي طبقها الكرملين ليتمكن من التسديد لبنك دوستشي. وقد حاول طبقة الصفوة الآخرين اتباع نهج فريدمان في التحول إلى الحكومة.

قامت حكومة بوتين قبيل انهيار البورصة بعكس سياسة الخصخصة التي تبنتها الحكومة بعد العهد السوفياتي في قطاع النفط والشركات الأخرى متحججة في ذلك بالتخلف عن سداد الضرائب، فقامت الدولة بالاستحواذ وتفكيك شركة يوكوس بداية منذ عام 2003، وفي عام 2006 أجبرت شركة شل على بيع نصف حصتها من تطوير حقل سخالين 2 إلى غازبروم، وتحولت شركات صناعة الطائرات والسيارات والصناعات الأخرى إلى شركات ضخمة تابعة للدولة، لم يكن ذلك بصورة اختيارية على الدوام.

(وقد قام احد العالمين ببواطن الأمور والأوليغاركي السابق الذي كان مقربا من بوتين وهو رومان إبراموفيتش ببيع شركته سيبنفت أويل إلى شركة غازبروم في عام 2005 بمبلغ 13 مليار دولار وترك روسيا واتجه للعيش في لندن).

نشأت العشرات من هذه الشراكات والتي كانت تدار من قبل رفقاء بوتين السابقين في جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق كي جي بي، ونظر إلى تلك الشركات ومديريها من العملاء السريين السابقين على أنهم الجيل الجديد من طبقة الصفوة الذين نشأوا في ظل بوتين والذين هم في مأمن من المثول أمام القضاء.

وفي إشارة إلى أن صناعة المعادن ربما تكون متوجهة نحو الاندماج الإجباري، تم تعيين فلاديمير ستراخلكوفسكي، الذي خدم في جهاز استخبارات الاتحاد السوفياتي السابق كي جي بي في لينغراد في الثمانينات مديرا تنفيذيا لنورليسك نيكل، وهي الشركة التي كانت لب الاندماج المقترح الصيف الماضي.

غير أنه خلال اجتماع الكرملين في يناير (كانون الثاني) رفض الرئيس ميدفيديف التعهد بصورة محددة وطلب من أباطرة الصناعة الموافقة فيما بينهم والعودة بخطة اندماج يقبلها الجميع وهو ما لم يكن أمرا سهلا.

وفي 26 فبراير التقى بوتين وديريباسكا بالرئيس ميدفيديف مرة ثانية وقال الرئيس إن نورليسك لن تدخل ضمن خطة الاندماج، وبات هدف الدولة الرئيس السيطرة على الصناعة الصغيرة، خلال الأزمة ينظر إليه بنوع من الشك من قبل الكرملين.

غير أن فكرة الاندماج مع شركات الدولة لم تمت، فقال عثمانوف إنه سيسعى لدمج شركته أورال مونتاين أيون أور آند كول كمباني مع شركة رشان يكنولوجيز، المتخصصة في تصنيع الأسلحة التي يديرها رجل الـ كي جي بي السابق سيرجي كيميزوف والذي خدم مع بوتين في ديرسدين في ألمانيا الشرقية السابقة في الثمانينات.

في هذه الأثناء قلل ديريباسكا من حاجته إلى مساعدة إضافية من الدولة بعد تلقيه 4.5 مليار دولار الخريف الماضي لتسديد قروض من البنوك الغربية منها ميريل لينش ورويال بنك أوف اسكوتلند وبي إن بي باريبا. وقبل تحول السياسة هذا العام أنفق الكرملين 11.8 مليار دولار من أصل 50 مليارا نحاها جانبا من الخطة الأولية لإعادة تمويل القروض الخارجية.

وقال ديريباسكا في مقابلة مع تلفزيون فيستي روسيا في 28 فبراير (شباط) : «لسنا في حاجة إلى معونات مالية من الدولة، ونحن نحاول أن نعمل على تسديد هذه القروض بأسرع ما يمكن». لكن على الرغم من ذلك توشك البنوك الغربية على الانهيار، ومن بين تلك البنوك التي يعلمها ديريباسكا بنك رايفيسن في النمسا الذي أعاد تمويل قرض لبنك دوستشي بمبلغ 500 مليون يورو في الخريف الماضي لإنقاذ ديريباسكا من طلب تغطية أعمال الإنشاءات الخاصة به، والآن يقول ديريباسكا إنه يسعى لوقف الدفعات إلى الدائنين، ويوم الجمعة الماضي قالت شركته للألمنيوم إن الدائنين وافقوا على إرجاء المطالبة لمدة شهرين، في الوقت الذي يتم فيه التفاوض على اتفاقية طويلة الأمد لإعادة هيكلة الدين.

وقال عثمانوف إن شركات التعدين الروسية ستكون بحاجة إلى دعم الدولة.

ويقول إن ما تبقى هو التفاوض على نموذج قابل للتطبيق للدولة لاستعادة دورها مرة أخرى في مجال التعدين وعلم استخراج المعادن التي أسسها الاتحاد السوفياتي، وقال «لقد فرضت الأزمة هذا الموقف وأنا لا أرى ما يخجل في ذلك».

* خدمة «نيويورك تايمز»