الأزمة المالية العالمية قد تقود إلى نمط جديد في أسلوب إدارة الشركات

ظهور مبدأ «تفكيك مجالات عمل المؤسسة» نتيجة للأزمة الاقتصادية

عقب الكساد العظيم في أميركا الثلاثينات من القرن الماضي، ساهم مد خطوط السكك الحديدية في تنشيط الاقتصاد («نيويرك تايمز»)
TT

منذ أن بلغت الأزمة المالية أشدها خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، والتاريخ يهتم بالإلهامات التي تعتمد على نفاذ البصيرة. الكساد الكبير، والذعر الذي ساد في عام 1907، وعقد اليابان الضائع خلال التسعينات، والأزمة المصرفية في السويد نهاية التسعينات، وهكذا. في كل مرة، تتحول بؤرة التركيز على الدروس التي يجب أن تستفيد منها السياسات والنظريات الاقتصادية. إذن، فلنجرب عدسات من طراز مختلف. كيف شكلت الأزمة الماضية التفكير والإستراتيجية الإدارية؟ من المعلوم أن الابتكار في الإدارة يعني القدرة على التكيف مع المتغيرات. فالإدارة ليست علما يشبه الفيزياء، حيث تكون هناك قوانين غير قابلة للتغير، ونظريات يمكن اختبارها. ولكن الإدارة ـ في أفضل صورها ـ هي استجابة ذكية للقوى الخارجية، وغالبا ما تثير هذه القوى الاضطرابات.

ويقول خبراء الإدارة: إن أوقات التهديدات الاقتصادية الشديدة يمكن أن تسارع الاتجاهات المطبقة فعلا. كما يضيفون أن الكساد الكبير والآثار الفورية التي ترتبت عليه كانت محفزا للقوى الموجودة فعلا. ويشيرون إلى أن التطور الرئيسي كان ظهور المؤسسة التجارية ذات الأقسام المتعددة، مثل «جنرال إليكتريك» و«دوبونت» و«جنرال موتورز». وكان ذلك ممكنا بسبب نضج تقنيات المواصلات والاتصالات، مثل خطوط السكك الحديد والتلفون والتلغراف. وقد ساعدت التقنيات على مراقبة وتنسيق العمليات التجارية، بصورة لم تحدث من قبل. وفرضت فترة الكساد الكبير على المديرين أن يحققوا اقتصادات ذات كفاءة على نطاق كبير تصل إلى الأسواق الوطنية، وهو ما يضمن بقاء المؤسسات وسط التراجع الكبير في إجمالي الطلب. ويحتمل أن يكون هناك نموذجا حديثا من هذا النوع من التغير، الذي تساعد عليه التقنية في الممارسات الإدارية وتنظيم العمل المؤسسي، حسب ما يقوله جون هاغل، المدير المشارك لـ«دلويت سنتر فور إدج إنوفيشن»، وهو الكيان المسؤول عن الأبحاث بشركة الاستشارات. وقد أضاف أن التراجع الحاد سوف يدفع الشركات كي تتجاوز عملية تقليل بسيط في التكاليف لتراجع اقتصادات الأنشطة التجارية التابعة لها. ويضيف أن معظم الشركات لديها مجموعة من ثلاثة أنواع من العمليات المختلفة: إدارة البنية التحتية وتطوير الخدمات والمنتجات والاتجار والعلاقات مع العملاء. ويقول هاغل: إن الأزمة الراهنة تفتح الباب إلى «تفكيك مجالات عمل المؤسسة» لتحقيق مقدار أكبر من الكفاءة والربحية. ويشير إلى أن هذا الاتجاه تطبقه الشركات المتخصصة، حيث تركز على مجالات معينة في البنية التحتية. ويوكل الكثير من الشركات الأعمال الروتينية التقليدية إلى «فيدرال إكسبرس» و«يو بي إس»، وفي مجال مراكز الاتصال تتجه الشركات إلى «كونفرجيز» وفي مجال صناعة العقود إلى «فلكسترونكز». ومن بين المجالات التجارية الثلاثة، فإن تطوير المنتج الجديد هو المجال الذي يعتمد على فرق صغيرة ابتكارية، وهذا هو الأكثر صعوبة بالنسبة للمؤسسات الكبرى. ويسوق هاغل «بروكتر آند غامبل» كمثال على شركة كبرى تدرك المنافع الموجودة في عملية التفكيك. فلدى الشركة هدف، وهو الحصول على نصف ابتكارات المنتج الجديد من خارج الشركة، عن طريق الترخيص والتعاون مع الشركاء. ويقول هاغل: إن الشركة ضخت استثمارات كبيرة في تقنية الويب، وفي برامج ذكية لتحليل علاقات العملاء. وبالنسبة له، فإن هذه التطورات تشبه إعادة إدارة في عصر الإنترنت للتحول المؤسساتي خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. ويقول: «نواجه احتمالية أن يحدث ذلك من جديد، ولكن في هذه المرة توجد بنية تحتية رقمية تساعد الشركات على تنظيم وإدارة نشاطاتها في طرق جديدة». ويذكر أن التغيرات الاقتصادية لها أثر كبير على الابتكارات في عمليات التصنيع وأنماط التوزيع. ويشير خبراء في الإدارة إلى أن نظام التصنيع بالقدر المطلوب والمحدود في اليابان، كان تكيفا مع الفقر في الفترة التي أعقبت الحرب، والنقص في رأس المال، وقلة الأرض التي تحتاجها المصانع، فيما فتحت السياسات المؤيدة للسوق في الصين والهند الباب أمام العولمة. وربما يكون هناك نمط مختلف من الإنتاج والتوزيع العالمي عندما ينهض الاقتصاد العالمي من الأزمة الحالية، حسب ما يقوله جورج ستاك، وهو مستشار بارز لمجموعة «بوسطن» للاستشارات. بافتراض أن أسعار البترول على المدى الطويل سوف تبلغ في المتوسط 80 دولارا للبرميل أو نحو ذلك، وأن الطرق والموانئ والمطارات ستبقى مزدحمة، فإن المصانع الأصغر القريبة ربما تكون أكثر اقتصادا ومرونة مقارنة بتلك الموجودة في آسيا. ويقول السيد ستاك: «لن تكون الصين هي المصدر المفضل للكثير من البضائع».

ويكون لأوقات الاضطرابات أثرها على الاتجاهات المجتمعية والسياسية، التي تؤثر بالتبعية على ممارسات الإدارة الجديدة. فعلى سبيل المثال، ظهرت النقابات العمالية في المقدمة خلال فترة الكساد الكبير. وجلبت النقابات للشركات الكبرى جرعة من الاستقرار الصناعي كانت تحتاج لها، في الوقت الذي تراجعت فيه الحروب الأيديولوجية السابقة بين العمال ورأس المال. لو كان العمال أقل راديكالية، لكانت أيام الملاك الأقطاب ـ اللصوص في أفول أيضا. كتب ألفرد تشاندلر، في كتابه الفائز بجائزة بوليتزر: «الثورة الإدارية في الأنشطة التجارية الأميركية» (هارفارد، 1977): حل محل قوتهم «نوع فرعي جديد من الرجل الاقتصادي: المدير الذي يتقاضى راتبا». وصف تشاندلر النمط بـ«الرأسمالية الإدارية»، وكان دور الإدارة هو تحقيق توازن بين مصالح مجموعة متنوعة من حملة الحصص، تتضمن العمال والحكومة وحملة الأسهم. استمر هذا النمط حتى الثمانينات من القرن الماضي، عندما تسبب ركود النمو الاقتصادي والأرباح المؤسسية في السبعينات في تركيز ضيق على عوائد سوق الأسهم كمقياس رئيس للأداء الإداري. وفي عالم السياسية، قالت ثورة ريغان، إن الحكومة كانت المشكلة وليست الحل. وفي الوقت الحالي، فإن البندول يعود إلى نموذج ينظر فيه للمؤسسات بدرجة أكبر على أنها هيئات اجتماعية، تتعدى التزاماتها وول ستريت، حسب ما يقوله راكش كورانا، الأستاذ بكلية هارفارد للأعمال. ويضيف إنه خلال سعي الشركات المصنعة للسيارات للحصول على مساعدات حكومية، صورت هذه الشركات نفسها على أنها «أعمدة مجتمعاتهم وأعمدة التصنيع الأميركي، وليس مجرد كيانات اقتصادية». ويلاحظ أن «الكلام عن أميركا المؤسسات قد تغير، لا ينظر إلى الحكومة على أنها في موقف مضاد للشركة، ولكنها شريك لها. ويبدو أن هذه التأرجحات نمط تاريخي. «إذا كانت هناك أيديولوجية للإدارة، فإنها البراغماتية».

* خدمة «نيويورك تايمز»