لبنان: المصارف ترفض خوض السجالات السياسية.. وتؤكد دورها في منع انهيار «مالية الدولة»

حماوة المعركة الانتخابية تفتح سجلات القطاع المصرفي

مصرف لبنان المركزي («الشرق الأوسط»)
TT

أبدت مراجع سياسية واقتصادية خشيتها من توريط القطاع المصرفي اللبناني في السجالات السياسية الداخلية تحت وطأة حماوة استحقاق الانتخابات النيابية التي تكسر عادة القواعد المألوفة للخطابات المتقابلة بين الأطراف المتنازعة.

ولوحظ أن توجيه الاتهامات من قبل موقع سياسي فاعل في المعارضة، هو الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، إلى المصارف وتحميلها جزءا من مسؤولية تفاقم الدين العام من خلال الفوائد العالية التي تتقاضاها لقاء تمويلها لحاجات الدولة التمويلية، والتلويح بمحاسبتها لاحقا، أحدث ما يشبه الصدمة في الأوساط السياسية والاقتصادية التي سارعت إلى حصر الموضوع في خانة الكلام الانتخابي، وأنه لا يشكل، بالتالي، توجها مشتركا للفريق السياسي المعني.

لكن لم يشأ أركان القطاع المصرفي أن تمر الاتهامات من دون رد يضع الأمور في نصابها الصحيح، مع الحرص الشديد على محاذرة الدخول في ميدان السجالات السياسية. وهي القاعدة المعتمدة لدى المصرفيين عموما، نظراً لحساسية المهنة وما تفرضه من قواعد سلوك ترتكز أساسا على التحفظ والتكتم في إدارة الأعمال والعمليات.

ووفق مسؤول مصرفي كبير، فإن الرد المسهب الذي صدر أول من أمس عن رئيس جمعية المصارف الدكتور فرنسوا باسيل لا يقع في باب السجال مع أحد، إنما يستهدف منع تعميم المغالطات وتصنيفها كحقائق تضر بالقطاع وسمعته، فيما الحقيقة مغايرة تماما حيث لعبت المصارف، ولا تزال، أدوارا حاسمة في منع انهيار المالية العامة للدولة وتأمين حاجاتها التمويلية في أصعب الظروف التي وصلت في مراحل معروفة إلى نفاد سيولتها لتأمين الرواتب والأجور والنفقات العادية من دون أي استغلال لهذا السوق المالي الطارد للتمويل أو يتطلب أقله تكاليف عالية.

وفي تحديد أدق، يؤكد المصرفي أن تمويل الدولة يتم كأي تمويل آخر، فالدولة مصنفة كعميل، مع الأخذ في الاعتبار معيار الحجم كأكبر عميل على لائحة الملفات الائتمانية.كما راعت المصارف باستمرار تخفيف ثقل احتدام الصراعات السياسية وارتداداتها الأمنية أحيانا التي تدفع، بشكل أساسي، إلى خفض التصنيف السيادي وتسد، بالتالي، الأبواب أمام انسياب التمويل وفق القواعد السوقية المعروفة في العالم. كما تشكل مصدر ضرر تصنيفيا للمصارف، كونها مدرجة تحت سقف التصنيف السيادي، من جهة، وكونها حاملة لجزء كبير من دين الدولة، من جهة مقابلة، مما يفرض عليها بذل جهود مضاعفة لتأمين الانسجام مع المعايير الدولية المصرفية والاستثمارية، وخصوصا منها المتطلبات الجديدة للجنة «بازل».

وحول مقولة إن الدولة تقترض من أجل دفع فوائد الدين العام، أوضح باسيل أنه في المالية العامة للدولة، هناك مبدأ معروف يسمى وحدة الموازنة. وبموجب هذا المبدأ تلجأ الدولة إلى الاستدانة حين تزيد نفقاتها الإجمالية عن إيراداتها الإجمالية. وانطلاقا من هذا المبدأ، فإن الدولة اللبنانية التي تعاني موازنتها من عجوزات سنوية متتالية منذ مدة طويلة، تقترض ليس فقط لسداد فوائد الدين العام، إنما أيضا لدفع رواتب موظفيها وتغطية الفاتورة الصحية والتعليمية للفقراء وذوي المداخيل المحدودة من اللبنانيين، كما للمساهمة بربع الفاتورة الصحية لصندوق الضمان الاجتماعي الذي يشمل بعطاءاته ما يزيد على مليون لبناني ومن أجل تنفيذ وصيانة مشاريع البنى التحتية في مختلف أنحاء البلاد وفي خدمة الاقتصاد الوطني. وحول مقولة إن الفوائد على الدين العام تذهب لمصلحة 6 أو 7 مصارف فقط، قال باسيل إن المنطق البديهي أن فوائد الدين العام تدفع لجميع دائني الدولة، كل بحسب حصته وهم بالتسلسل: المصارف ومصرف لبنان والمؤسسات العامة الموظفة في سندات الخزينة (مثل مؤسسة ضمان الودائع والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) والجهات الإقليمية والدولية المقرضة وأخيرا، حاملو سندات الخزينة من المدخرين اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين، وتناهز حصة المصارف من إجمالي الدين العام 50%. أما عدد المصارف الموظفة في سندات الخزينة فيفوق 60 مصرفا أي مجموع المصارف العاملة. وأشار إلى أنه تم تمويل سندات الخزينة بالليرة بعوائد معينة يوميا من قبل البنك المركزي ووزارة المال. وهي متدنية وفق المعدلات السائدة في أسواق مشابهة. أما إقراض الدولة بالعملات الأجنبية (سندات اليوروبوندز) فيتم بفائدة أدنى من متوسط فائدة إقراضها بالليرة، وبمعدل يناهز 7.2%. وكلفة الإقراض هذه هي أدنى بكثير مما تدفعه دول أخرى ذات تصنيف مخاطر أفضل من تصنيف لبنان كتركيا (14%) ومصر (12%)، فلو أراد لبنان الاقتراض من الأسواق العالمية بدلا من مصارفه المحلية لوصلت كلفة اقتراضه إلى ما لا يقل عن 15% نظرا إلى درجة مخاطره السيادية وللعجز المسجل في مدفوعاته الجارية. وأفاد أنه في مجال تدعيم الوضع المالي الصعب، ساهمت المصارف على هامش قرارات «باريس ـ 2» بما يعادل 4 مليارات دولار بفائدة صفر في المائة.

أما بالنسبة إلى مقررات «باريس ـ 3»، فان إجمالي المساعدات المقدمة للبنان في إطاره لم يتجاوز 1.5 مليار دولار حتى الآن، جاءت لدعم خزينة الدولة في إنفاقها الاجتماعي والتوزيعي، ولم يدخل أي فلس منها إلى المصارف. وفي خلاصة الأمر، يلفت الرد المصرفي إلى الظروف الإقليمية والدولية القائمة، حيث تهاوت وتتهاوى يوميا مصارف عالمية كبرى وعريقة في أميركا وأوروبا ومعظم الدول الناشئة، كما تقوم الحكومات بضخ السيولة إلى مصارفها ومؤسساتها المالية وبشراء الأصول المصرفية المسمومة وبإعادة تمويل المصارف من أموال دافعي الضرائب حفاظا على الاستقرار المصرفي لديها، فيما القطاع المصرفي اللبناني يشكل الدعامة الأولى للاقتصاد الوطني وتشيد به كل دول العالم ووسائل الإعلام العالمية، مثنية على حسن أدائه وعلى بقائه بمنأى عن مضاعفات الأزمة المالية العالمية.