تحولات في وول ستريت بفعل الأزمة المالية.. ومخاوف من نزوح جماعي لـخبرائها «الموهوبين»

أكبر البنوك تواجه «استنزافا لعقولها» مع تشدد واشنطن في مسألة المكافآت

بسبب الإجراءات الصارمة التي تتخذها واشنطن ضد المكافآت بدأت وول ستريت تتعرض لاستنزاف للعقول
TT

جاءت نقطة التحول الكبرى في حياة ستيفان جنغ، في فبراير(شباط) الماضي. باعتباره أحد المسؤولين المحنكين في يو بي إس، وهو أحد المصارف العديدة التي تضررت من الأزمة المالية. وقد أدرك جنغ أن عالم وول ستريت القديم يتداعى، ولن يستعيد سابق عهده على المدى القريب. وعليه، حان الوقت للتحرك في اتجاه جديد.

وفي هذا السياق، قال جنغ، 42 عاماً، إنه: «بعد 10 سنوات، لم أر أمامي مستقبلا ينتظرني». وبالفعل، استقال جنغ من عمله ليراهن بخبرته في مجال المبيعات من خلال تقلده وظيفة لدى «ألادين كابيتال»، وهي شركة استثمارية صغيرة نجمها في صعود يتولى إدارتها آخرون تخلوا عن وظائف ببعض أبرز المؤسسات بالمجال المالي. وفي الواقع، تلوح في أفق وول ستريت مؤشرات توحي بحركة نزوح جماعي لا تقتصر على الذين فقدوا وظائفهم فحسب. ومع الإجراءات الصارمة التي تتخذها واشنطن ضد المكافآت في وول ستريت، وتشديدها التنظيمات المعنية بالمصارف، بدأت وول ستريت تتعرض لاستنزاف للعقول داخل بعض أكبر مؤسساتها. وبعض هذه المؤسسات هي ذاتها التي تعرضت للوم باعتبارها المتسببة في أسوأ موجة تردٍ اقتصادي منذ الكساد الكبير. وشرع كبار المصرفيين في الرحيل عن غولدمان ساشز ومورغان ستانلي وسيتي غروب وغيرها من المؤسسات العريقة بأعداد متزايدة، كي ينضموا إلى مصارف لا تتعرض لتنظيمات صارمة، بما في ذلك مصارف أجنبية، أو شركات ناشئة تسعى بجد لبناء نفسها كي تتحول في المستقبل إلى محرك مالي رئيسي على مستوى البلاد. على الجانب الآخر، يرحل البعض بسبب ثقافة الصدام السائدة بالشركات المندمجة، بانك أوف أميركا وميريل لنتش. وهناك فريق آخر تقتصر رغبته على التقاعد في سن مبكرة. ومن المؤكد أن هذا الأمر يثير قلق المصارف التي تتعرض لخسارة أفضل عناصرها. إلا أن عدداً من الخبراء الماليين يرون أن هذه الظاهرة بداية لعملية ضرورية أوسع نطاقاً لإعادة هيكلة وول ستريت، التي ظلت خاضعة لفترة طويلة للغاية لهيمنة حفنة من العناصر الكبرى التي ساعدت في إشعال الأزمة المالية. ويعتقد هؤلاء الخبراء أن الاقتصاد ربما يتحسن حال تقليص الطابع المركزي داخل الصناعة المصرفية. من جهته، أعرب ماثيو ريتشاردسون، بروفسير التمويل بمدرسة سترن للتجارة بجامعة نيويورك، عن اعتقاده بأنه: «حال انتشار توجهات الإقدام على المخاطر لتمتد إلى المؤسسات الأصغر، لن يصبح ذلك خطراً منظماً. كما أن روح الابتكار آخذة في الانتشار هي الأخرى. وهذا أمر جيد». خلال فترات التراجع الاقتصادي الماضية، عانت المؤسسات الكبرى من مصاعب، لكنها استعادت نشاطها مع استعادة الاقتصاد عافيته. لكن هذه المرة، ربما يطول أمد معاناة هذه المؤسسات بالنظر إلى عمق الأزمة القائمة والجهود الحكومية لكبح جماح ممارسات وول ستريت في إطار مساعي الحكومة لإحداث تحول بمسار الاقتصاد، وهي عملية قد تستغرق سنوات عدة. ورغبة منها في ردع الأفراد الذي تعتبرهم مسؤولين عن وقوع الأزمة، تشن الحكومة حملة إجراءات صارمة ضد وول ستريت. ومن ناحيتهم، تولد لدى المصرفيين المهرة شعوراً بتحول مسار الأحداث داخل وول ستريت، مما خلق بداخلهم خوفا من تردي مستقبلهم داخل المصارف التي حصلت على إعانات مالية من أموال دافعي الضرائب. وعليه، شرعوا في الهجرة إلى شركات صغيرة جديدة مثل ألادين، والتي تبدي عزمها على إثبات خطأ منتقديها من خلال تحقيق أرباح ومعدلات نمو سريعة على أمل أن تتحول في يوم ما إلى جهة منافسة للحرس القديم داخل وول ستريت. ومن ناحيتها، أجرت «نيويورك تايمز» مسحاً لاثنتي عشرة شركة صغيرة جديدة وتوصلت على أن عدة مئات من المصرفيين انتقلوا للعمل بها منذ صيف عام 2007 في أعقاب إجراءات التسريح التي تعرضوا لها أو اجتذابهم من جانب شركات أصغر مثل برودبوينت وباينتم كابيتال وبي تي آي جي. وفي هذا الصدد، أكد لي فنسترستوك، الرئيس التنفيذي في برودبوينت، وهي شركة تتخذ من مانهاتن مقراً لها وعينت ما يزيد على 240 شخصاً منذ خريف عام 2007، عندما بدأت نذر الأزمة المالية تلوح في الأفق، أن: «أمامنا الفرصة كي نحل محل بير ستيرنز أو ليمان برزرز. لم نكن لنحظى بهذه الفرصة قط منذ خمس سنوات ماضية، لكن الآن يبدو وكأن وول ستريت بأكملها انقلبت رأساً على عقب، وقد أفرزت كل هؤلاء الأفراد». وجدير بالذكر أن مايكل أوهاري الذي تولى إدارة عمليات الاتجار في الأسهم داخل جيه بي مورغان تشيس، يعكف حالياً على بناء قسم جديد للمبيعات والاتجار بشركة لابرانش فايننشال سيرفسز، والتي شرعت في الاضطلاع بنشاط تجاري كان حكراً على المصارف الاستثمارية. وقال أوهاري: «إننا نجتذب أفرادا من ميريل وجيه بي مورغان وبير. ولا أتحدث هنا عن المستوى الثاني من المسؤولين، وإنما عن القيادات البارزة». وتتمثل أحد أبرز المصارف الجديدة في موليس آند كمباني، وهو مؤسسة استشارية لها مكاتب في نيويورك ولوس أنجليس ولندن، علاوة على مراكز حضرية أخرى. تأسس المصرف عام 2007 على يد كين موليس، الرئيس السابق لشؤون الاستثمار المصرفي لدى يو بي إس. وعين موليس بمصرفه ما يزيد على 100 مصرفي، بينهم 17 من يو بي إس، و9 من بير ستيرنز، و3 من مورغان ستانلي و3 من غودمان ساشز. والملاحظ أن هذا النمط من الشركات الناشئة اندمج مع بعضه بعضا في مراحل مبكرة، وبقي الكثير منها ضئيل الحجم وغير محدد المعالم. وفي الوقت ذاته، تحول بعضها إلى خصوم لدودين. عام 2006، كون مصرفيون بارزون من غولدمان ومورغان ستانلي شركة بيريلا وينبرغ. أما روغر سي. ألتمان، المصرفي السابق في ليمان برزرز، فأنشأ شركة إيفركور، أحد أفضل الشركات العاملة حالياً، منذ عقد مضى. واليوم، تسعى الشركات الناشئة لتحقيق الإنجاز ذاته من خلال الاستعانة بخبرات وول ستريت، وفي بعض الحالات، محاولة تكرار النموذج المصرفي الاستثماري الذي تعرض في الجزء الأكبر منه للتقويض بعد انهيار ليمان برزرز الخريف الماضي. في الوقت ذاته، تنتقل بعض العناصر إلى المؤسسات الأجنبية المنافسة. طبقاً لمصادر مصرفية وتنفيذية، فإن مئات المصرفيين شرعوا في التدفق على دويتش بانك وكرديت سويس، اللذين لم يحصل أي منهما على إعانة مالية حكومية. وترى هذه المؤسسات أن أمامها فرصة فريدة لتحديث المواهب والمهارات المتوافرة لديها وتعزيز مكانتها داخل وول ستريت ـ وعالمياً ـ من خلال اجتذاب عقول فذة لم تكن تفكر في الرحيل عن وظائفها بمؤسسات مرموقة مثل غولدمان ساشز أو مورغان ستانلي في أوقات الازدهار. والآن، مع اضطرار منافسيها لقبول فرض قيود على المكافآت المقدمة لمسؤوليها وغيرها من القيود المصاحبة لاستخدام أموال دافعي الضرائب، تشهد المصارف الأجنبية إقبالا أكبر على العمل بها.

وبصورة مجملة، تقلصت المبالغ التي تتقاضاها القيادات داخل أكبر 12 مصرفا استثماريا عالميا، في المتوسط، بمقدار قرابة الخمس عام 2008، طبقاً للبيانات التي جمعتها أوليفر ويمان، وهي شركة استشارية. ومن ناحيتها، أعلنت شركات الخدمات المالية عن تسريحها ما يزيد على 400.000 من العاملين لديها داخل الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين، بينهم 148.000 في الربع الأخير من عام 2008 فقط، عندما بلغت الأزمة المالية ذروتها، حسبما قال مارك زاندي، الخبير الاقتصادي البارز بموقع Economy.com الإلكتروني التابع لشركة مودي. ولا شك أن هذا التحول يحمل دلالات مثيرة للقلق بالنسبة لرؤساء سيتي غروب وجيه بي مورغان تشيس والمصارف الأميركية الأخرى التي تلقت إعانات مالية حكومية، رغم أن الكثير من عامليهم ما زالوا متمسكين بوظائفهم. على سبيل المثال، اعترف فيكرام إس. بانديت، من سيتي غروب، وجامي ديمون، من جيه بي مورغان، من أن التخلص من الاعتماد على أموال دافعي الضرائب سيزداد صعوبة إذا ما رحلت أكثر العناصر القادرة على توجيه المصارف التي تعمل بها نحو التعافي من الأزمة الراهنة. وبطبيعة الحال، يتمتع منافسو هذه المصارف بقدر أكبر من المرونة يتيح لهم اجتذاب المهارات من خلال عرض هياكل لتحديد الأجور تتسم بدرجة أكبر من الابتكار. وفي ضوء موجة الانتقادات العامة القوية بسبب المكافآت التي صرفتها وول ستريت، تعمد بعض الشركات الجديدة إلى عرض مكافآت ضخمة. وتشير الإحصاءات المتوافرة إلى أن المصارف دفعت مكافآت لعامليها العام الماضي بقيمة تقارب 18 مليار دولار، بانخفاض بنسبة 44% عن العام السابق. ونظر الكثير من العاملين إلى هذه المكافآت بازدراء. على الجانب الآخر، أعرب بعض المشرعين وممثلي الرأي العام عن غضبهم البالغ حيال دفع مكافآت بقيمة عدة مليارات من الدولارات، وألمحوا إلى أن معظم المضاربين والمصرفيين لن يتمكنوا من العثور على وظائف أفضل بأماكن أخرى في وقت قريب، مما يجعل من تقديم مثل هذه المكافآت أمراً غير ضروري. ومن ناحيته، اعتبر بريان مكجف، 36 عاماً، نفسه متمرداً عندما غادر مورغان ستانلي مطلع عام 2008 للمساعدة في بناء شركة بحثية مستقلة، ريسرتش إدج، في نيو هافن.

* خدمة « نيويورك تايمز»