هجرة معاكسة لرؤوس الأموال من كردستان إلى دول أوروبا

أكراد العراق يعودون بأموالهم إلى أوروبا بعد أن تضاعفت.. سعيا للاستفادة من الأزمة العالمية

جوتيار علي بوسكاني، مدير مركز المعلومات والتطوير في غرفة تجارة السليمانية («الشرق الأوسط»)
TT

عندما فرضت الأمم المتحدة الحظر الاقتصادي المحكم على العراق في عام 1990، إثر الاجتياح العسكري العراقي لدولة الكويت، تدهور الاقتصاد العراقي تدريجيا على نحو غير مسبوق، وكان سكان إقليم كردستان العراق هم أول العراقيين الذين بادر الآلاف منهم للهجرة أفرادا وجماعات نحو الدول الأوروبية تحديدا، هربا من الأوضاع الاقتصادية العسيرة التي خيمت على العراق عموما وعلى الإقليم بشكل خاص، كونه خضع لحظر اقتصادي داخلي محكم من جانب السلطات العراقية منذ عام 1991، بسبب تشكيل الإدارة الكردية في المنطقة وطرد المؤسسات التابعة للحكومة العراقية السابقة. وكان معظم الشباب الكردي المهاجر نحو أوروبا يعملون على إرسال مبالغ مالية شهرية بالعملات الأجنبية، وخصوصا الدولار والجنيه الإسترليني والمارك الألماني قبل توحيد العملة الأوروبية، لإعانة عوائلهم على مواجهة مصاعب الحياة، وقد ساعد ارتفاع قيمة الدولار وبعض العملات الأوروبية آنذاك قياسا بالعملة العراقية التي كانت في أدنى مستوياتها الكثير من الشباب المهاجرين على شراء عقارات وأراض في مدن الإقليم الرئيسية، اربيل والسليمانية ودهوك، وبأسعار زهيدة جدا لم تتجاوز (30) ألف دولار للعقار الواحد في مطلق الأحوال، وقد شجع رخص أسعار العقارات في الإقليم وقتذاك الكثير من الكرد المغتربين على استغلال رؤوس أموالهم في مشاريع إنتاجية أو استثمارية محدودة في الداخل، علاوة على شراء العديد من العقارات والأراضي الزراعية والسكنية على حد سواء، وبعد زوال النظام السابق في العراق في عام 2003 انقلبت الأوضاع الاقتصادية في العراق عموما وإقليم كردستان بشكل خاص، رأسا على عقب، وقفز سعر قطعة الأرض السكنية بمساحة 200 متر مربع مثلا من (5 ـ 10 ) آلاف دولار إلى نحو ( 40 ـ 60 ) ألف دولار، لجملة من الأسباب، منها ارتفاع قيمة العملة العراقية الجديدة جراء إلغاء معظم الديون الخارجية المستحقة على العراق، وهجرة مئات الآلاف من العراقيين من وسط وجنوب البلاد إلى إقليم كردستان، هربا من عمليات العنف التي سادت تلك المناطق، مما عزز المنافسة على العقارات والأراضي والوحدات السكنية التي سجلت أسعارها ارتفاعا جنونيا غير مسبوق في تاريخ العراق والمنطقة، مما دفع الكثير من الكرد المغتربين أصحاب الأراضي والعقارات في إقليم كردستان إلى بيع عقاراتهم وأراضيهم بأسعار مرتفعة تكاد تساوي عشرة أضعاف أسعار الشراء، وبذلك تشكلت لدى الكثيرين منهم رؤوس أموال ممتازة دون أي مجهود، في ظل الأوضاع السياسية التي مرت بها البلاد، ومنذ تفجر الأزمة الاقتصادية العالمية أواخر العام، والتي أسفرت عن تدني أسعار السلع والعقارات في معظم أرجاء العالم، وخصوصا في أوروبا، بدأت موجة من الهجرة المعاكسة لرؤوس الأموال من الإقليم نحو الخارج، في وقت تعمل السلطات المحلية من خلال قانون الاستثمار الذي ينطوي على الكثير من العروض الاقتصادية المغرية على جلب الاستثمارات الخارجية بغية تعزيز البنى التحتية للاقتصاد في الإقليم، إذ صار الكرد المغتربون المقيمون في دول أوروبا والذين سبق لهم شراء العقارات في إقليم كردستان بأسعار زهيدة جدا، يبيعون عقاراتهم اليوم بأضعاف أسعارها الأصلية السابقة، ليشتروا بثمنها عقارات أو أراضي أو ينجزوا مشاريع في الدول التي يقيمون فيها، في ظل انهيار الأسعار هناك جراء الأزمة المالية التي تعصف بالعالم حاليا.

ويقول نهرو محمد 32 عاما، والمقيم في سويسرا منذ عشر سنوات: «في البداية عندما غادرت الإقليم نحو ألمانيا عام 1999 كنت أرسل إلى عائلتي نحو ألف دولار شهريا لمساعدة أهلي على مواجهة مصاعب الحياة الاقتصادية، ومع تحسن أوضاعهم تدريجيا فكرت في شراء دار سكنية في مدينة السليمانية بقيمة 150 ألف دينار عراقي من العملة التي كانت متداولة في الإقليم وقتذاك، أي ما يعادل 7500 دولار فقط، وبعد ذلك بعام واحد اشتريت بيتا آخر بقيمة 9000 دولار، وعرضت البيت الأول للإيجار بنحو 400 دولار شهريا، الآن صار هذا البيت يساوي 110 آلاف دولار أميركي، أي أكثر من عشرة أضعاف سعره الأصلي، لذلك قررت العودة إلى الإقليم بغية بيع البيت بذلك السعر ونقل المبلغ إلى سويسرا، حيث تدور في مخيلتي أفكار عدة مشاريع أنوي إنجازها هناك، لا سيما وأنني لا أرغب في العودة والاستقرار في الإقليم نهائيا».

أما سرجل كريم، 45 عاما، فيقول: «هاجرت إلى ألمانيا لاجئا في عام 1994، حيث كان الدولار الأميركي الواحد حينها يساوي أكثر من ألف دينار عراقي، ومارست هناك شتى الأعمال والمهن في العديد من المدن الألمانية، وكنت أحول كل المبالغ التي أحصل عليها شهريا إلى أهلي في بلدة كلار بإقليم كردستان، وأوصيهم بشراء العقارات والبيوت والأراضي في السليمانية وكلار، وفعلا اشتريت خلال عشرة أعوام ثلاثة بيوت كبيرة في السليمانية بقيمة 40 ـ 50 ألف دولار لكل عقار، واشتريت قطعتي أرض إحداهما زراعية بقيمة 10 آلاف دولار وبمساحة 2500 متر مربع، والأخرى سكنية بقيمة 12 ألف دولار في كلار، ولكنني فضلت الاستقرار في بلدتي بعد عودتي من ألمانيا عام 2005، بعد أن بعت البيوت الثلاثة في السليمانية بـ350 ألف دولار، واستثمرت المبلغ في تأسيس شركة محلية للمقاولات. ولن أفكر في العودة إلى ألمانيا رغم حصولي على الإقامة فيها، إلا إذا تدهور الوضع الاقتصادي في الإقليم لا سمح الله».

أما جوتيار علي بوسكاني، 43 عاما، مدير مركز المعلومات والتطوير في غرفة التجارة بمحافظة السليمانية، والذي كان مقيما في بريطانيا حتى عام 2006، فقد أوضح أن رؤوس الأموال تغادر إقليم كردستان بأساليب عديدة، أبرزها من خلال عملية استيراد السيارات بمختلف أشكالها، والتي يقبل على شرائها التجار بالجملة مستفيدين من تدني أسعارها في دول المنشأ بسبب الأزمة الحالية، التي أسفرت عن تلاشي السيولة المالية في معظم دول العالم.

وأضاف بوسكاني في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن عملية استيراد السيارات وبهذه الأعداد الكبيرة هي أيضا بمثابة هجرة لرؤوس الأموال، وما يشجع على ذلك هو الإقبال الكبير لسكان الإقليم على اقتناء السيارات بسبب رخص أسعارها، قياسا بالفترات الماضية. إضافة إلى ذلك هناك الكثير من الكرد المغتربين الذين كانوا قد اشتروا عقارات بأسعار زهيدة جدا خلال التسعينات، صاروا يبيعون عقاراتهم في كردستان بأسعار مضاعفة ويشترون بتلك الأموال العديد من العقارات في البلدان التي يقيمون فيها بغية تعزيز إقامتهم هناك، فضلا عن أنهم يتوقعون ارتفاعا لأسعار العقارات في أوروبا خلال الفترات القادمة، الأمر الذي سيعود عليهم بفوائد مضاعفة إذا حدث ارتفاع في الأسعار بعد الأزمة الراهنة.

ويقدر بوسكاني عدد السيارات المستوردة إلى الإقليم بنحو 15 ألف سيارة شهريا، ويوضح بأن سعر الواحدة منها لو قدر بنحو 10 آلاف دولار فهذا يعني خروج 3 ملايين دولار من الإقليم شهريا، هذا في مجال شراء السيارات، ناهيك عن المبالغ التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات في المجالات الاقتصادية الأخرى.

ويؤكد بوسكاني أن المعلومات المتوفرة لدى مركزه بأن الأشخاص الذين يحولون أموالهم إلى أوروبا هم في الغالب من الكرد المقيمين هناك، أما الذين عادوا إلى كردستان وبدأوا يزاولون أنشطة اقتصادية فيها فلا يرغبون في العودة إلى أوروبا ثانية، ومن من بينهم هو شخصيا.