محافظ بنك السودان المركزي: سنتحصن بالنظام المصرفي الإسلامي ضد انعكاسات توقيف البشير

الحسن لـ«الشرق الأوسط»: ازدواجية العمل المصرفي في الشمال والجنوب صعبت مسؤوليتنا

د. صابر الحسن
TT

أوضح الدكتور صابر محمد الحسن محافظ بنك السودان المركزي أن النظام المصرفي في السودان محصن ذاتيا بمقومات نظام المصرفية الإسلامية من أي آثار للأزمة المالية العالمية، مؤكدا أنه لا يوجد أي تخوف من أي حظر مالي أو اقتصادي أميركي وأوروبي قد يفرض على السودان. وبين الحسن أنه ليس لمذكرة أوكامبو أي أثر سلبي مصرفي، لأن السودان ليس له تداخلات مالية كثيرة أو استثمارات مالية كبيرة في الأسواق المالية سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة.

وأقر المحافظ أن ازدواجية العمل المصرفي في السودان الذي فرضته اتفاقية السلام عقدت إدارة القطاع المصرفي وإدارة السياسة النقدية تعقيدا شديدا، كما صعبت مسؤولية البنك المركزي.

وقال في حوار خاص مع «الشرق الأوسط» إبان زيارته الأخيرة للعاصمة السعودية الرياض للمشاركة في مجلس الخدمات المالية الإسلامية، إن المجلس ساهم في تطوير صناعة المصرفية الإسلامية، حيث أصدر 15 معيارا، كما أنه انتقل من مرحلة إصدار هذه المعايير إلى مرحلة المساعدة في تطبيقها، ويتلقى في هذه الأثناء دعما كبيرا من البنك الإسلامي للتنمية وبنوك التنمية الأخرى. وهناك تعاون كبير جدا بين المجلس وبين المؤسسات الشبيهة في النظام التقليدي كلجنة (بازل)، وكذلك الحال مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.. وإلى التفاصيل:

* كيف تنظرون إلى آثار الحصار الاقتصادي المتوقع على خلفية مذكرة توقيف الرئيس عمر البشير بجانب أثر الأزمة المالية العالمية؟

ـ بالنسبة للأزمة المالية العالمية لا توجد دولة في العالم لا تتأثر بها والسودان ليس استثناء نسبة للتشابك الدولي في المصالح، غير أنه لم يتأثر تأثيرا مباشرا ولم تحدث له خسائر مباشرة أو انهيارات لمؤسسات مالية أو خسائر كبيرة كما حدث في كثير من بلاد العالم المتأثرة بهذه الأزمة، كما أؤكد عدم وجود أي آثار مباشرة أو غير مباشرة لمذكرة أوكامبو على نظامنا المصرفي أو الاقتصادي.

* ما سر المناعة التي اكتسبها السودان ضد حمى الأزمة المالية العالمية وآثار مذكرة أوكامبو الاقتصادية؟

ـ السر يعود لطبيعة نظام مؤسساتنا المصرفية، حيث تعمل وفق النظام المصرفي الإسلامي، ومعروف أن للمصرفية الإسلامية مقومات ذاتية تمنحها قدرا كبيرا من الحماية الذاتية من آثار الأزمة المالية العالمية، ذلك لأنها لا تسمح بالاستثمار في أنواع الأصول المالية التي ساهمت في خلق هذه الأزمة المالية، مما يعني أن كثيرا من المنتجات المالية التي تمت فيها استثمارات كبيرة، كالمشتقات والمستقبليات وصناديق التحوط لا تجد طريقها في النظام المصرفي السوداني، إذ هذه الاستثمارات غير مسموح بالتعامل معها في نظام المصرفية الإسلامية أصلا.

* كيف نفهم ذلك في ظل ازدواجية العمل المصرفي؛ نظام مصرفي إسلامي في الشمال ونظام مصرفي تقليدي في الجنوب؟ ـ هذا سؤال مهم جدا ومغلق في نفس الوقت. وبالطبع اتفاقية السلام فرضت ازدواجية العمل المصرفي، حيث يطبق النظام المصرفي الإسلامي في الشمال، بينما في الجنوب يطبق نظام مصرفي تقليدي، وهذه النظام حقيقة يعقد إدارة القطاع المصرفي وإدارة السياسة النقدية تعقيدا شديدا، كما يصعب مسؤولية البنك المركزي، ولكن لأن ذلك كان نتاجا لاتفاق سياسي، لم يكن أمامه إلا أن ينفذ هذا الاتفاق ويطبقه.

والتعقيدات التي تنتج من تطبيق النظام المزدوج تطرح باستمرار الكثير من الأسئلة الملحة التي تحتاج لإجابات شافية، ومنها كيف سيكون حجم تأثر المصارف السودانية بالأزمة المالية العالمية، وما مدى تأثر كل نظام على حدة، بمعنى كيف سيكون تأثر البنوك الإسلامية والبنوك التقليدية كل على حدة جراء هذه الأزمة، هذه أسئلة الإجابة عليها نظريا صعبة جدا، وذلك لأن الأمر يتطلب أولا تقييم النتيجة على الأرض، ومن ثم الوصول بعد ذلك إلى خلاصة حاسمة. ولكن للتاريخ حتى الآن النظام المصرفي التقليدي في الجنوب لم يكتمل للأسف الشديد مع التأكيد بأن البنك المركزي قام بكامل مسؤولياته، حيث قام بتأسيس بنك جنوب السودان وهو الفرع الرئيسي لبنك السودان المركزي بالجنوب، ومنحه صلاحيات وتطبيقات النظام المصرفي التقليدي، كما قام البنك المركزي بوضع الأسس والضوابط والرخص لقيام البنوك التقليدية مع أسس الرقابة والمتابعة.

* ولكن، لماذا لم يكتمل النظام المصرفي التقليدي بالجنوب طالما قام البنك المركزي بكامل مسؤولياته تجاهه؟

ـ النشاط الاقتصادي في جنوب السودان نفسه ما زال في بداياته الأولى، بالإضافة إلى أنه لا يوجد إقبال كبير من الناس لفتح وتأسيس بنوك تقليدية بالجنوب، سواء كان ذلك من الجنوبيين أنفسهم أو الشماليين، أو حتى من المستثمرين والبنوك الأجنبية.

أما عدد البنوك التقليدية القائمة حتى الآن بالجنوب فقط فهما بنكان تقليديان، أحدهما فرع لبنك كيني (بنك كينيا التجاري) والآخر أسسه مالكون جنوبيون واسمه (بنك النيل). ولذلك فإن النظام المصرفي التقليدي في الجنوب لم يقم كما أسلفت، وحتى الآن جراء هذا الواقع لا نستطيع تحديد حجم ومدى التعقيد الذي لازم ويلازم قيام النظام المصرفي المزدوج بالنسبة لمسؤوليات بنك السودان المركزي.

* قام وفد أوغندي بزيارة السودان مؤخرا بغرض مساعدته في تأسيس بنك إسلامي بأوغندا، كيف تنظر إلى هذا التوجه الأفريقي والدور السوداني فيه؟

ـ الزيارة هي الثالثة التي قام بها وفد من مسلمي أوغندا، بغرض الاستفادة من تجربة السودان في تحقيق رغبته في تأسيس بنك إسلامي، بإيعاز من البنك الإسلامي للتنمية المعروف باهتمامه بصناعة المصرفية الإسلامية، والاهتمام بالأقليات والجاليات المسلمة في البلدان الأفريقية وغيرها، حيث المسؤولون فيه نصحوا الأوغنديين، الذين اتصلوا بهم لهذا الغرض بأن يطلعوا على التجربة السودانية في المصرفية الإسلامية ويتلقوا المساعدة الفنية اللازمة في هذا الصدد. وكان بنك التنمية أخطرنا بذلك، فأبدينا استعدادنا على الفور لتقديم المساعدة الفنية، وأعددنا لهم عدة اجتماعات مع عدد من المصارف السودانية، لتزويدهم بالمطلوب. وتضمنت المساعدات الفنية التي قدمها السودان للوفد الأوغندي لتأسيس بنك إسلامي، كيفية تخطيط وتنفيذ هيكل البنك والمعاملات المصرفية الإسلامية، بالإضافة إلى طبيعة وشكل العقود الخاصة بالتمويل الإسلامي وغيرها، ومن ثم وضع النظم والتعامل وخاصة نظم صيغ التمويل، بجانب تدريب كوادرهم، وانتداب خبراء مصرفيين سودانيين لهم للوقوف على تأسيس البنك.

كما تضمن المساعدات السودانية محاولة دخول بنوك سودانية في المساهمة في رأس مال البنك الإسلامي الأوغندي والمشاركة في تأسيسه.

* شارك بنك السودان المركزي في مؤتمر مجلس الخدمات المصرفية الإسلامية الذي عقد مؤخرا بالرياض، ما نوع وشكل الخدمة التي تتطلع لها البنوك المركزية المشاركة من هذا المجلس؟

ـ مجلس الخدمات المصرفية الإسلامية أسسته في الأصل البنوك المركزية في الدول الإسلامية منذ أكثر من 6 سنوات، ليساهم في تطوير صناعة المصرفية الإسلامية وصناعة الخدمات المالية الإسلامية، وذلك بوضع أسس وضوابط تمكن هذه الصناعة من القيام على أسس متينة، حتى تحميها من التعرض لهزات مستقبلية، مع وضع أسس للرقابة المصرفية وأسس لكيفية تمكين الخدمات المصرفية من التطور دون التعرض لمخاطر كثيرة.

* ما التحديات التي تواجهها صناعة المصرفية الإسلامية في ظل المتغيرات الأخيرة؟

ـ أعتقد أن أهم التحديات هو كيفية استطاعة هذه الصناعة أن يكون لها أثر وحضور قوي في إعادة بناء النظام المالي الدولي الذي يتهاوى الآن، إذ إن الأزمة المالية العالمية أثبتت فشل النظام المالي العالمي، وهناك مشاورات لإعادة بناء هذا النظام، وإن كانت حوله اختلافات، ففي الوقت الذي يرى فيه بعضهم أن هذا النظام جيد، ولكنه يحتاج إلى عمليات (ترميم) ومعالجات.

* بالعودة ثانية لآثار الأزمة المالية العالمية، هل هناك تأثيرات غير مباشرة؟

ـ بالطبع كما ذكرت لك سابقا، هناك آثار غير مباشرة للأزمة المالية العالمية على الاقتصاد السوداني، وأكبر هذه الآثار غير المباشرة ناتج عن طريق أسعار السلع الأولية، أي الانهيار الذي حصل في أسعار السلع الأولية نتيجة لتباطؤ الاقتصاد بصفة عامة وانخفاض أسعار البترول بصفة خاصة.

* هذا يعني أن هبوط أسعار البترول أحدث تراجعا في الاقتصاد السوداني؟

ـ بالتأكيد، حيث إن الانهيار الذي حدث في أسعار البترول أثر في السودان اقتصاديا، وميزانية الدولة وخلف فجوة الإيرادات، كما أثر ذلك في تدفقات النقد الأجنبي، وهذا يؤثر بالطبع على ميزان المدفوعات، ويؤثر على الاستيراد وموقف الاحتياطيات للبلاد. إذن هناك أثر للأزمة المالية سالب على السودان وبالتالي كان لا بد للدولة من اتخاذ إجراءات لمعالجة هذا الوضع، غير أن لكل دولة إجراءات تتخذها لحماية اقتصادها بطريقة مختلفة.

* ما هي هذه الإجراءات التي اتخذها السودان في هذا الصدد؟

ـ لما كان الأثر المباشر حصل في ميزانية الدولة، قامت وزارة المالية باتخاذ تدابير ضرورية لتجفيف هذا الأثر السالب وأسبابه من خلال ترشيد وتخفيض الإنفاق الحكومي وبالذات في المجالات التي تعتبر أقل أهمية، كذلك عملت الوزارة على زيادة الإيرادات غير البترولية دون اللجوء لفرض ضرائب إضافية مباشرة. وساعدت هذه الإجراءات في تضييق الفجوة بين الإيرادات والمنصرفات.

* أشيع أن مذكرة أوكامبو لتوقيف البشير كانت وراء هبوط سعر صرف الجنيه السوداني، ما حقيقة ذلك؟

ـ بالطبع هناك تشابك وتداخل بين السياسة والاقتصاد، ومن الصعوبة بمكان فصل أحدهما عن الآخر، ولكن الشيء غير الواضح لكثير من الناس حول الوضع في السودان، هو أن السودان يتعرض لحظر اقتصادي ومالي أميركي منذ 12 عاما، وبالرغم من ذلك فقد استطاع الاقتصاد السوداني أن يكيف نفسه وينمو ويتطور خلال العقد الأخير بمعدلات نمو تعد من أكبر معدلات النمو في العالم، حيث قفز معدل النمو في السودان فوق الـ8 في المائة في ناتجه الإجمالي المحلي. ولذلك الواقع يقول إن مذكرة أوكامبو لتوقيف الرئيس البشير بجانب الحظر الاقتصادي الذي لازمنا طيلة الفترة الماضية، لم ولن يكون لهما أي أثر على اقتصادنا.

* ولكن بدأ الجنيه يرتفع بشكل قد يعود به إلى مربعه الأول، كيف تفسر ذلك؟

ـ مرة أخرى أطمئنك وأطمئن إخوتنا في دول المهجر، أن هذه التغيرات في سعر الصرف الحالية طبيعية جدا وهي نتيجة للأزمة المالية، حيث ارتفع سعر صرف الجنيه من 2 إلى 2.20 إلى 2.30 إلى 2.40، ولكن كل هذا يحدث في حدود الهامش أو الممر المسموح به من قبل بنك السودان المركزي، وفق ما يناسب اقتصادنا وحركته واتجاهه. ولذلك نحن نعتبر أن هذا النظام جيد جدا بالنسبة لنا في السودان وخدم الأغراض الاقتصادية المطلوبة، ولذلك نحن مستمرون فيه لمرونته واستقراره في نفس الوقت.

* في ظل تذبذب العلاقات مع الولايات المتحدة هل هناك توجه للتعامل مع سلة عملات صعبة وتجاهل الدولار الأميركي وفك ارتباط الجنيه السوداني عنه؟

ـ بعد إلغاء نظام ما يسمى (قاعدة الذهب) في أوائل السبعينات الميلادية بطلب من الولايات المتحدة، أصبحت بعض العملات الأخرى هي التي تمثل عملات الاحتياطيات الدولية. وأهم هذه العملات هو الدولار، حيث أصبح العملة الرئيسية العالمية لاحتياطيات معظم دول العالم النقدية، ولذلك كان السودان يتعامل على هذا الأساس، إذ كانت معظم الدفعات الخارجية تتم بالدولار، وكان هذا الوضع الطبيعي الذي كان سائدا في السودان وغيره من دول العالم الأخرى.

وبجانب الدولار هناك عملات أخرى تمثل جزءا من احتياطياتنا، ومنها اليورو والجنيه الإسترليني. وبعد الخط الاقتصادي الذي فرضته أميركا على السودان، أصبح التعامل مع الدولار تشوبه كثير من المخاطر، ومن أهمها أن مكتب إدارة الأصول الخارجية في الولايات المتحدة (أوفاك) كان يراقب الحركات المالية العالمية، وهو المسؤول عن تطبيق قرار الحظر الأميركي على الدول ومنها السودان، ولذلك كان مكتب (أوفاك) يتدخل ويصادر التحويلات، حيث كان معلوما أن أي دفعيات عالمية بالدولار.