خريطة العالم الاقتصادية تتغير.. والعالم الناشئ أصبح نصف الإنتاج العالمي

الهند والصين سادتا 18 قرنا وتحاولان استعادة العـرش.. والشركات العملاقة النامية تعزز مشترياتها بالأسواق الغربية

الدول النامية التي ستنجح على المدى الطويل هي تلك التي تغير ثقافتها الاقتصادية (إ. ب. أ)
TT

يعتقد عدد من كبار الاقتصاديين أن الأزمة الاقتصادية الحالية أتاحت الفرصة أمام الشركات «العملاقة النامية» من الدول الناهضة بقوة مثل الصين والهند والبرازيل، لكي تعزز مواقفها في الاقتصاد الدولي على حساب الشركات الغربية. وحتى قبل أن تبدأ هذه الأزمة كانت الشركات «العملاقة النامية» قد بدأت أصلا تطرق أبواب الأسواق الغربية بصوت عال، ثم جاءت الأزمة لتعجل بدخول المنافسين الجدد إلى عالم لم يكونوا يتوقعون اقتحامه بهذه السرعة. وعلى سبيل المثال فقد اشترت شركة Tata الهندية في العام الماضي شركة Jaguar Land Rover التي تعد تاج صناعة السيارات في بريطانيا، بمبلغ 2.3 مليار دولار. وقبل شهرين فقط أطلقت الشركة الهندية ذاتها سيارة «نانو» Nano التي تعتبر أرخص سيارة في العالم، والتي تتوقع الشركة انتشارها في أوروبا بدءا من عام 2011 ثم في الولايات المتحدة في مرحلة لاحقة. وبالمثل فقد تحولت شركة BYD الصينية لصناعة البطاريات إلى صناعة السيارات الكهربائية الحديثة، وعرضت سيارتها الأولى في معرض «ديترويت» الأميركي للسيارات في يناير (كانون الثاني) الماضي حيث كانت السيارة الكهربائية نجمة المعرض وحديث زواره. كما اشترت مؤخرا شركة Vale البرازيلية العملاقة للمناجم حصة كبيرة في شركة Rio Tinto البريطانية الأسترالية التي أرهقتها الديون. وهناك أنباء عن أن شركتين صينيتين هما Chery و Geely تتنافسان على شراء شركة Volvo الشهيرة للسيارات. وأنباء مماثلة عن مساعي شركة Mahindra الهندية لشراء شركة LDV البريطانية لتصنيع الشاحنات. وأيضا شركة ZTE الصينية العملاقة لتصنيع الهواتف وأدوات الاتصالات على وشك شراء حصة كبيرة في شركة Motorola الأميركية، لكي تحل الشركة الصينية محل Motorola كخامس أكبر شركة اتصالات في العالم. ويرى عدد من الاقتصاديين أن ظهور تكنولوجيا جديدة، كتلك التي في السيارات الكهربائية والهيدروجينية، تزامن صعود الشركات النامية التي تبنت هذه التقنيات الجديدة، فبدت كأنها تضخ دما جديدا في جسد عجوز. وفي المقابل، حرمت أزمة الائتمان الشركات الغربية من الأموال التي تحتاجها لتنمية وتوسيع أعمالها، بينما لا يزال إنتاج الشركات النامية يتوسع بفضل تكلفة العمالة الرخيصة. هذا فضلا عن أن أزمة الائتمان أجبرت كثيرا من الشركات الغربية على بيع حصص منها لتوفير السيولة التي تحتاجها بشدة. ضف إلى ذلك أن كثيرا من المستهلكين، بما في ذلك في الغرب، أصبحوا يميلون إلى المنتجات الأرخص سعرا... أيضا بسبب شح الائتمان وصعوبة الحصول على القروض في الغرب. لذا فقد انتهزت الشركات النامية الفرصة لفرض وجودها في الأسواق الغربية عبر طريقين: شراء حصص في الشركات المتعثرة، وإبهار الغرب بمستوى التقنية والابتكار اللذين تطورا في الدول النامية الطموحة. ورغم أن النمو الاقتصادي في الدول النامية قد انخفض قليلا متأثرا بالأزمة العالمية لكنه لم يختف تماما مثلما هو الحال في العالم الغربي. وعلى سبيل المثال فبينما انكمش سوق السيارات في الغرب تتوقع الصين أن ينمو سوقها هذا العام بنسبة 10%. وبالطبع فإن مثل هذا المناخ يعزز كثيرا موقف الشركات «العملاقة النامية» التي يقول لسان حالها «إن مصائب قوم عند قوم فوائد».

* تاريخ عريق

* وقد ينسى الناس أن الصين والهند كانتا ـ عبر التاريخ (نحو 18 قرنا) ـ أكبر اقتصادين في العالم حتى مجيء الطفرة الصناعية والاقتصادية في أوروبا في عام 1820. وطوال هذه القرون كان البلدان العملاقان ينتجان نحو 80% من إجمالي الإنتاج العالمي، لكن حصتهما تراجعتا إلى أقل من 40% مع مطلع القرن العشرين الذي هيمنت عليه الدول الغربية وظهرت فيه الولايات المتحدة لأول مرة كقوى اقتصادية كبرى. وبعد عقود من التدهور الاقتصادي في الهند والصين فإن تصدرهما للنمو الاقتصادي حاليا، ربما يعني أنهما تحاولان استعادة عرش قديم وليس التربع عليه للمرة الأولى مثلما يظن البعض. فلاشك أن هذه أفضل أوقاتهم منذ أكثر من قرن. كما أن كلا من كوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسنغافورا وتايوان أصبحت الآن تعتبر دولا صناعية حديثة في حسابات البنك الدولي. وهناك ثلاث حقائق مهمة توضح التحول الذي طرأ خلال الأعوام القليلة الماضية على التوازن الاقتصادي بين «العالم الأول» و«العالم الثالث». وحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي فإن الاقتصادات الناشئة (وهذه تسمية أطلقها البنك الدولي قبل 25 عاما) أنتجت في عام 2005 أكثر من نصف إجمالي الإنتاج العالمي، وذلك للمرة الأولى منذ الثورة الصناعية في أوروبا. والحقيقة الثانية أن العالم الناشئ شكل أكثر من نصف الزيادة العالمية في إجمالي الناتج المحلي محسوبا بالدولار الأميركي. والحقيقة الثالثة هي أن أكبر 32 دولة ناشئة شهدت خلال عامي 2004 و2005 نموا اقتصاديا متواصلا، للمرة الأولى خلال 30 عاما. فخلال العقود الثلاثة الماضية كانت دولة واحدة على الأقل (من بين الدول الـ32) تشهد تراجعا في نموها الاقتصادي. ولكن هذه المرة ـ وعلى مدى عامين ـ شهدت الدول الـ 32 نموا جماعيا متواصلا. وبالطبع لا بد أن تتعثر بعض هذه الدول لفترات قصيرة في المستقبل، لكن الظاهرة العامة هي نمو متواصل وأسرع من نمو الدول الصناعية الأوروبية عندما كانت في طور نشأتها. وعلى سبيل المثال فقد استغرقت بريطانيا والولايات المتحدة، إبان تطورهما الصناعي في مراحله الأولى نحو 50 عاما لكي يتضاعف دخل الفرد، بينما استطاعت الصين تحقيق ذلك خلال عقد واحد فقط. ويعود الفضل في ذلك جزئيا إلى كون الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة نمت في ظل اقتصاد عالمي ساده الانفتاح وحرية الحركة بما في ذلك حركة التكنولوجيا الحديثة والنظريات الاقتصادية المجربة، بينما كانت الدول الصناعية الأولى تضطر إلى ابتداع صناعات وتقنيات جديدة باستمرار إذا أرادت لنموها الاقتصادي أن يتواصل. ففي عام 2005 وحده ارتفع إجمالي الناتج المحلي للدول النامية بـ 1.6 تريليون دولار بينما كان الارتفاع في الدول الصناعية المتطورة 1.4 تريليون دولار. وبلغ متوسط النمو الاقتصادي في الدول الناشئة 6% مقارنة بـ 2.4% في الدول الغنية. كما ارتفعت حصة صادرات هذه الدول في العام الماضي إلى 42% بعدما كانت 20% فقط في عام 1970. وفي أسواق العملات فإن الدول الناشئة تملك الآن ثلثي احتياطي العالم من العملات الأجنبية. أما النفط فهي تستهلك 47% من الاستهلاك العالمي. وإذا استمر الحال هكذا فإنه خلال العشرين سنة المقبلة سيصبح إنتاج الدول النامية 66% من جملة الإنتاج الدولي.

كما أنه لا بد من الاعتراف بأن الجزء الأكبر من الفضل في نمو اقتصادات الدول الناشئة حديثا يعود أيضا إلى حسن إدارتها للسياسات الاقتصادية (خصوصا المالية) وتبنيها لأساليب السوق الحر والانفتاح ونقل التجربة والتكنولوجيا ومحاربة عدم الكفاءة والفساد. ولكن على الرغم من أن الدول النامية أصبحت الآن تنتج أكثر من نصف الإنتاج العالمي فإن عدد سكانها يمثل 83% من سكان العالم، لذا فإن دخل الفرد في هذه الدول لا يزال أقل كثيرا من نظيره في الدول الغنية.

* صعود الصين والهند يفيد الغرب

* من جهة أخرى فإن مخاوف الغرب من نهضة العملاقين الآسيويين (الصين والهند) ليس لها ما يبررها لأنها تتوهم نظرية قديمة تقول إن ثراء بلد ما أو شخص ما لا بد أن يكون على حساب شخص آخر. فالحقيقة هي أنه كلما نمت دولة ما زادت صادراتها ومن ثم ثروتها التي ستستخدمها في الاستيراد من دول منتجة أخرى. وباختصار، فإن الدولة الفقيرة لا تملك أن تنفع الآخرين لأنها لا تنتج ولا تستورد، وعلى العكس فإن الدولة الغنية تزيد بقية الأغنياء ثراء. فلولا النمو السريع للدول الناشئة لما كان معدل النمو الدولي قد ارتفع. وتأكيدا لهذه الحقيقة فإن التبادل التجاري بين الدول الغنية والعالم النامي قد تضاعف في سرعته مقارنة بالتبادل التجاري بين الدول الغنية فيما بينها. كما أن أكثر من نصف صادرات أميركا واليابان أصبحت تذهب إلى الدول النامية، وكذلك صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الدول النامية أصبحت ضعفي صادراته إلى أميركا واليابان مجتمعتين.

غير أن بعض الاقتصاديين يحذر من تغير بعض العوامل الاقتصادية التي تساعد حاليا في صعود الدول الناشئة. ومن هذه العوامل مثلا، انخفاض أسعار الفائدة دوليا، الأمر الذي خفف عبء الديون وقلل كلفة الاستدانة. لكن هذه الأسعار لا بد أن تصعد في المستقبل. كذلك، فقد استفادت الدول النامية من ارتفاع أسعار كثير من السلع الخام في الأسواق الدولية، وهذا بالطبع زاد من إيرادات تلك الدول. وأخيرا ارتفاع الطلب الأميركي، مما يعني مزيدا من الاستيراد من الدول النامية. ويقول أصحاب هذا الرأي إن هذه العوامل الثلاثة تعتبر عوامل متغيرة ولا بد من الانتباه لها. فهي في الوقت الحالي جميعها تعمل لصالح الدول النامية، لكنها بطبيعتها عوامل متقلبة ولا يمكن الاعتماد عليها في التنمية على المدى البعيد.

أما الدول النامية التي ستنجح على المدى الطويل فهي تلك التي تغير «ثقافتها الاقتصادية» وتعيد بناء اقتصادها على الأسس السليمة التي تتمثل في أبجديات الاقتصاد، كموازنة الإنفاق العام مع الدخل، والسيطرة على التضخم، وتقليل استدانة الخزانة، وضبط السياسة المالية والمصرفية، ووضع الأولويات في مكانها الصحيح، وتشجيع الاستثمار عبر خلق المناخ السليم والمستقر له، رفع القيود وتقليل البيروقراطية، وبالطبع محاربة الفساد.

وأخيرا، يشار إلى أن أسواق الأسهم في الدول النامية تستقطب 14% فقط من رأس المال المستثمر عالميا في أسواق الأوراق المالية. وحسب إحصاءات معهد التمويل الدولي فإن صافي رأس المال الخاص الذي تدفق على الأسواق الناشئة في عام 2005 بلغ رقما قياسيا 358 مليار دولار. والأهم من ذلك أن الحكومات لم تحتج لهذه المبالغ لسد عجز الحساب الجاري. فلأول مرة منذ زمن طويل تحقق غالبية هذه الدول فائضا في حساباتها الجارية، وذلك لأن انتعاشها الاقتصادي ـ على عكس المرات السابقة ـ اعتمد هذه المرة على تمويل داخلي وليس على الديون الخارجية. وبالفعل فقد انخفض متوسط معدل الديون الخارجية بالنسبة للصادرات من 174% في عام 1998 إلى 82% في عام 2005، مما وفر فائضا للتنمية الخالية من فوائد الديون.