الركود الاقتصادي العالمي يمتد إلى العراق

مع تهاوي مبيعات السيارات وتضرر سوق العقارات

التباطؤ الاقتصادي في العراق بدأ يوثر على القدرة الشرائية للمواطنين («الشرق الأوسط»)
TT

تسللت الأزمة المالية التي أدت إلى ترنح الاقتصادات في العالم أخيرا إلى العراق، مما ينذر باحتمالية حدوث تبعات وعواقب خطيرة تؤثر بدورها على استقرار البلاد.

فقد تهاوت مبيعات السيارات، وترنحت سوق العقارات التي كانت مزدهرة في يوم من الأيام، حتى الأجهزة الكهربائية التي كانت سرعان ما يتم أخذها من أرفف المتاجر قبل بضعة شهور ماضية، باتت باقية عليها دون أدنى تغيير. علاوة على هذا كله، أضحى أكثر من ربع الشباب من الرجال المتراوحة أعمارهم ما بين 18 ـ 29 عاما في عداد البطالة.

لقد استغرقت الأزمة الاقتصادية وقتا لكي تصل إلى هنا في العراق، وهذا مرده جزئيا إلى أن العراق تلقّى قدرا مهولا من عوائد أسعار البترول المرتفعة على مدار العام الماضي، كما كان قطاعه البنكي غير المعقد أقل عرضة للعالم الخارجي. إلا أن صحة توقعات شهر فبراير (شباط) المتفائلة، التي تشير إلى أن العراق سيظل في معزل وحصينا من الركود الاقتصادي العالمي ثبت فداحة خطئها.

وقال باسم جميل أنطون، الاقتصادي وعضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات العراقية: «أفاد بعض الأفراد بأن العراق لن يتأثر، وكانوا جميعا أغبياء». ومن السهل للغاية معرفة لماذا لم ينجُ العراق من تبعات هذه الأزمة العالمية، فقد أدى تهاوي أسعار النفط من ذروتها بمقدار 147 دولارا الصيف الماضي لتصل في يومنا هذا إلى 50 دولارا فقط إلى انخفاض عوائد الدولة التي تعتمد على النفط في إيراداتها بنسبة 90%. كما توقفت تمويلات إعادة الإعمار الأميركية، وليست هناك أدنى احتمالية وشيكة من إدارة أوباما بتقديم أي موارد جديدة، في الوقت الذي تعلن فيه الإدارة صراحة أنها بصدد نفض يديها عن العراق. ويقول مسؤول أميركي بارز في العراق لم يرغب في الكشف عن اسمه إن الفوائض المالية الباقية من العام الماضي سوف تحمي العراق خلال عام 2009، إلا أنه مع حلول العام المقبل ستلوح خطورة حقيقية تتجلى في أن الحكومة ستكون رهن موقف «ستنفد فيه أموالها بصورة رئيسة».

ومع اضطرار الحكومة إلى تقليص الإنفاق نظرا إلى عجز الموازنة لهذا العام والبالغ قوامه 18 مليار دولار على الأقل، بدأ العراق في تدشين حملة كبرى لجذب الاستثمارات الأجنبية. إلا أن مستثمري القطاع الخاص أظهروا رغبة ضئيلة للغاية في إيداع مواردهم في دولة ما زالت عمليات التفجير وإطلاق النار فيها تظهر بصورة منتظمة، رغم أنها قلت إلى حد كبير.

وأعلن بيان جبر وزير المالية في مقابلة أُجريت معه، مشيرا إلى الزيادة الحادة في التفجيرات شديدة الخطورة خلال شهر إبريل (نيسان)، أن «السبب رقم 1 يتمثل في الأمن». ولطالما رسم المسؤولون العراقيون والأميركيون خطا بين الحاجة إلى التنمية الاقتصادية واحتمالية أن يحمل العراقيون السلاح في وجه حكومتهم.

وفي الشهر الماضي قال نوري المالكي ـ رئيس الوزراء العراقي ـ في مؤتمر استثماري في لندن، إن «الرفاهية الأمنية والاقتصادية مترابطتان، ولا يمكننا التحدث عن أمن مستقر دون تقدم اقتصادي». وقريبا، أجبر انخفاض العوائد الحكومة على تجميد عمليات التعيين الجديدة لديها، إذ تم تعليق التعاقدات المخطط لها مع 30,000 فرد جديد لقوات الشرطة والجيش. ومن شأن انخفاض العائدات الحكومية أيضا أن يضع الوظائف الحكومية الجديدة لنحو 90,000 من أبناء العراق في مهب الريح، الأمر الذي يحمل بين طياته احتمالية حدوث تبعات باعثة على القلق بشأن دعمهم إلى الحكومة. ومن المعروف أن هؤلاء المقاتلين السنة من القوات شبه النظامية ـ ممن حولوا اتجاهاتهم، وحاربوا المتمردين إلى جانب الحكومة ـ كان لهم دور رئيسي ومساعد في قلب دفة الحرب، إلا أنه ما زال من غير الواضح كيف سيتم استيعابهم من جديد وإدماجهم في مجتمع ما بعد الحرب.

وبصورة عامة، يحتاج العراق إلى إيجاد المزيد من الوظائف للبطالة المتفشية في البلاد، والمقدرة بنحو 28% بين الشباب من الرجال، علاوة على 825,000 ملتحق جديد بسوق العمل مع حلول كل عام جديد، هذا إذا كان عازما فعليا على منعهم من العودة مجددا إلى المقاومة سعيا وراء المال الذي يمكنهم به عول عائلاتهم.

وفي نفس السياق، تحتاج الحكومة إلى توفير المياه، والكهرباء، والسكن، إذا أرادت أن يظل العراقيون يولون ثقتهم في قادتهم الذين انتخبوهم. وبدلا من توسيع نفقات مشروعات إيجاد فرص العمل، اتجه العراق إلى تخفيض المبلغ الذي سينفقه هذا العام على مشروعات إعادة الإعمار من 18 مليار دولار إلى 12 مليار دولار فقط. ولن تغطي عوائد النفط المرتقبة والمقدرة بـ36.5 مليار دولار حتى النفقات الحكومية اليومية، والتي تصل إلى 46 مليار دولار. ويتألف أغلبها من الرواتب، والمتضخمة بصورة كبيرة من الزيادة البالغ حجمها 75%، والممنوحة العام الماضي لموظفي البلاد البالغ عددهم 2.5 مليون بعد ارتفاع أسعار البترول.

ويقول وزير المالية جبر إن هناك احتمالية أيضا بعدم الوفاء بهذا الحد من العوائد، وذلك على أساس أن الصادرات البترولية قلّت عما هو متوقع لهذا العام حتى الآن، إذ يتوقع أن يصل عجز الموازنة إلى 25 مليار دولار أو أكثر. وكان الوزير يوجه حديثه إلى صندوق النقد الدولي والمؤسسات العالمية الأخرى للحصول على قروض يمكنها جسر هذه الهوة.

ويعد هذا الوضع الراهن بعيدا كل البعد عن الموقف المتصور عام 2003، عندما توقعت إدارة بوش بثقة بالغة أن عوائد النفط سوف توفي بكل احتياجات إعادة الإعمار الخاصة بالعراق. وبدلا من ذلك أضحت البنية التحتية النفطية العراقية المدمرة غير قادرة على الوصول إلى مستويات الإنتاج التي كانت عليها قبل الحرب، والبالغة 3 ملايين برميل يوميا، واستمر الإنتاج في الهبوط. وينتج العراق حاليا 1.8 مليون برميل يوميا، أي أقل من مستوى مليونَي برميل، الذي ارتكزت عليه موازنة عام 2009.

ويوضح جبر أنه مع ذلك لا يبدو المشهد كئيبا في مجمله، حيث تجدر الإشارة إلى أن هناك ثمة دلالات تشير إلى أن التعافي الاقتصادي في الولايات المتحدة وأماكن أخرى يلوح في الأفق، وبالتالي فإن ثمة احتمالية أن يعزز هذا من أسعار النفط، ويساعد العراق في العودة إلى زيادة إنتاج النفط من جديد. وتدفع الحاجة إلى الاستثمار الحكومة إلى التحرر من الروتين الحكومي المقيّد، والذي أعاق بدوره الكثير من الشركات الأجنبية. كما أن الغياب المستمر لقانون يتعلق بالنفط أعاق من جانبه قدرا كبيرا من الاستثمار المطلوب في القطاع النفطي. من ناحية أخرى يهدف القانون الاستثماري الجديد والمنتظر الموافقة البرلمانية عليه إلى تيسير الإجراءات في الحقول الأخرى.

واستطرد جبر أن الاقتصاد مستقر بصورة أساسية، ووجه اللوم إلى السيكولوجية في ما يتعلق بالهبوط المفاجئ في الإنفاق الاستهلاكي على مدار الشهرين الماضيين. ويتوقع صندوق النقد الدولي نموا قدره 6.8% هذا العام، بانخفاض عن توقع عام 2008، والبالغ 10% تقريبا، إلا أنه مع ذلك في تقدم نشط. وأوضحت تجربة الولايات المتحدة أن أزمة الثقة في سوقٍ ما، يمكن أن يكون لها أثر على الأسواق الأخرى. وفي هذا الصدد يقول بائع السيارات حسن يوسف نجم ـ المالك لمعرض سيارات في حي المنصور ببغداد ـ إنه باع 32 سيارة في شهر فبراير (شباط)، في الفترة التي كانت فيها تجارته في ازدهار. إلا أنه لم يبيع أكثر من 4 سيارات فقط في شهر أبريل (نيسان). أما الوكيل العقاري ماهر جمال فلديه أكثر من 300 عقار مسجل في سجلاته، إلا أنه لم يبع أيا منها على مدار الشهرين الماضيين، وهو ما يعتبر مؤشرا للمشكلات الجسيمة التي طالت السوق العقارية، على حد قوله، وأشار إلى أن البائعين خفضوا الأسعار ما بين 20 و25%، «ولكن حتى مع هذه الأسعار الضئيلة، لا أحد يشتري». وأوضح الاقتصادي أنطون أن الاقتصاد في أسوأ صورة له أكثر من مدى إدراك الحكومة. وأن قدرا كبيرا مما تم احتسابه على أنه نمو في العام الماضي كان نابعا من إسراف الإنفاق الاستهلاكي على الواردات المدعومة بضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد والتي جاءت في شكل الزيادات التي تم تقديمها إلى العاملين الحكوميين. أما الآن، فبات واضحا أن المصانع والصناعات في البلاد في حالة من الخمول، والزراعة على شفا أن تعتلها الندرة الشديدة والجفاف، فضلا عن أن الانخفاض الحادث في الاستثمار الحكومي يقلل من حجم السيولة المتداولة في السوق. ويخالج أنطون شعور قوي باحتمالية توجه الاقتصاد إلى مرحلة الركود هذا العام، حيث يقول رافعا يديه متضرعا: «إذا حققنا نموا يصل (حتى) إلى مستوى الصفر، فسأقول حمدا لله».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»