تأثير الأزمة الاقتصادية يمتد إلى شركات المحاماة الأميركية الكبرى

تراجع الطلب على الخدمات القانونية 10% في الربع الأول من العام الحالي

هيو فيريير رئيس «وايت آند كيس» في مكتبه في نيويورك (نيويورك تايمز)
TT

بعد عدة شهور من التخطيط والقلق، حانت أخيرا اللحظة التي يضغط فيها هيو فيريير على زر الإرسال.

على امتداد عامين تولى خلالهما منصب رئيس «وايت آند كيس»، شركة المحاماة العريقة في وول ستريت، اتخذ فيريير بالفعل قرارات بتسريح 70 محاميا شابا، وإغلاق مكاتب الشركة في بانكوك، ودريسدن، وميلانو. وقد عاصر فيريير خلال فترة عمله فرار بعض كبار الشركاء إلى أحضان المنافسين، وعانى من حفلة إجازة كئيبة في عام 2008 أقيمت في مطعم «تشيبرياني»، بلغت تكلفتها نصف تكلفة حفل العام السابق، التي وصلت إلى 500.000 دولار، وتضمنت ألعابا نارية، وفرقة موسيقية. والآن، جلس فيريير، الذي عمل طيلة حياته المهنية داخل الشركة، التي يرجع تاريخ إنشائها إلى قرن مضى، بعد تخرجه في كلية الحقوق بجامعة هارفارد عام 1982، في مكتبه الكائن ببناية شاهقة تطل على 44 ستريت وأفنيو أوف أميركاس، ووجَّه كل تركيزه إلى رسالة البريد الإليكتروني التي كان على وشك إرسالها. تضمنت الرسالة إعلانا بأن الشركة ستتخلى عن 200 محام آخرين، ما يعادل نسبة 1 لكل 10 داخل الشركة ككل. ولا يشمل الإجراء المساعدين الصغار فحسب، بل يمتد إلى المحامين أمثاله ممن يتقاضون عدة ملايين من الدولارات سنويا، ويرتبطون برهون عقارية مزدوجة، ولهم أبناء في مدارس خاصة، ويفتقرون إلى وجود خطة بديلة يستندون إليها في وقت كهذا. وأكد فيريير في رسالته «آسف بشدة لإقدامي على اتخاذ مثل هذه الإجراءات». وفي تبريره للإجراءات، ألمح فيريير إلى «تردي الاقتصاد العالمي»، والحاجة إلى تقليص النفقات خلال هذه الفترة التي يسودها الركود، ثم طرح مفاجأة من العيار الثقيل بقوله «يتوافق تقليص عدد شركائنا مع الاحتياجات الحالية والمتوقعة». وجاء رد الفعل سريعا وعصبيا، حيث سارع الشركاء المستمرون مع الشركة إلى حماية الموظفين المفضلين لديهم، في الوقت الذي سارع الموظفون لتنقيح وثائق السير الذاتية الخاصة بهم، وإرسالها إلى مكاتب التوظيف. وفي غضون تسع ساعات على إرسال رسالة البريد الإليكتروني سالفة الذكر بتاريخ 9 مارس (آذار)، اجتذبت الرسالة 231 تعليقا ـ صدر الكثير منها، على ما يبدو، من داخل الشركة ذاتها ـ على مدونة المحامين الشهيرة abovethelaw.com. وتنوعت التعليقات ما بين التعبير عن كارثة كبرى، والشماتة «أليس هناك من يقدم بعض المنشفات لوقف حمام الدم هذا؟»، والقلق «آه!». وبعد مرور بضعة أشهر، خيم الهدوء على أروقة «وايت آند كيس»، حيث حل الحزن محل ضجيج العمل الذي كان يملأ أرجاء المكان. وأُغلق الكثير من أبواب المكاتب، ليس بسبب الاجتماعات، وإنما كي لا يتمكن «الرجل الذي يحمل الفأس» من الوصول إلى أصحاب المكتب، حسب وصف أحد المساعدين. وفجأة، أصبح كبار الشركاء، الذين كانوا لا يفارقون أجهزة «بلاكبيري» الخاصة بهم قط، قادرين على قضاء بعض الوقت مع زوجاتهم وأطفالهم، في الوقت التي طالت الأوقات التي يقضيها صغار المحامين في استراحة الغداء. من ناحيته، أكد أحد كبار الشركاء في الشركة، الذي، مثلما هو الحال مع الكثير من المحامين الحاليين والسابقين، اشترط عدم الكشف عن هويته، خوفا من الانتقام، أن «الناس يغلب عليهم شعور بالصدمة. إذا كانوا قد نجوا من الموجتين الأوليين، فإنهم سعداء بأنه لا يزال لديهم وظيفة، لكن لا يزالون متوترين للغاية. وإذا لم يرن جرس الهاتف، وإذا لم تعد زحمة العمل بقوة، يخشون من أن حياتهم المهنية لن تطول». ومع ترك الانهيارات الكبرى داخل وول ستريت أصداء على الاقتصاد بصورة أوسع، بدأت الأخطار تتزايد في مواجهة الأسس التي تقوم عليها شركات المحاماة في نيويورك، والتي كانت تتمتع في وقت من الأوقات بقوة هائلة. وتهدد هذه الأخطار بتحويل هذا القطاع، ومعها بعض أبرز الشخصيات على مستوى المدينة، إلى كائنات مهددة بالانقراض. جدير بالذكر أن بعض كبريات مكاتب المحامين، مثل «ثاتشر»، و«بروفيت آند وود»، التي تأسست قبل الحرب الأهلية، انهارت وجرفها الطوفان بالفعل. وقد امتدت مذبحة إجراءات التسريح حتى إلى الأسماء اللامعة، مثل بروسكاور روز، وديوي آند ليبويف، وكليفورد تشانس. خلال الربع الأول من عام 2009، تراجع الطلب على الخدمات القانونية داخل نيويورك بنسبة تقارب 10 في المائة عما كانت عليه في عام 2008، طبقا لما ورد عن «هيلدبراندت إنترناشونال بير مونيتور إندكس». وحتى الآن، خسر 10.000 موظف على الأقل وظائفهم بشركات كبرى بمختلف أرجاء البلاد هذا العام، طبقا للمعلومات الواردة على مدونة تدعى lawshucks.com. من ناحيتهم، يرى الخبراء القانونيون أن أزمة الاعتمادات تحتل مكانة جوهرية في المصاعب التي تعانيها شركات المحاماة، حيث قضت على الحاجة إلى المجالات التقليدية لممارسة المحاماة، مثل التمويل المهيكل، وعمليات الاندماج والاستحواذ، والأسهم الخاصة. وقد ظل التراجع مستمرا بقوة. وبطبيعة الحال، يعني تضاؤل الصفقات داخل وول ستريت انحسار الحاجة إلى المحامين. وفي الوقت الذي تناضل الصناعة القانونية في مواجهة الخطر الذي يهدد وجود صناعة الصحف، تجابه شركات المحاماة ـ خاصة داخل البيئة التنافسية في نيويورك ـ تحولا جوهريا محتملا بنفس الحدة التي ضربت المصارف الاستثمارية وصناعة السيارات. ويبدو أن هذه الشركات في طريقها نحو فقدان أهميتها وأفول نجمها. فعلى سبيل المثال، توصل «هيلدبراندت إنترناشونال بير مونيتور إندكس» إلى أن متوسط الأرباح بالنسبة للشريك والعائدات بالنسبة للمحامي تراجع خلال الربع الأول من عام 2009، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1991، في إطار دراسة حول أعلى 20 شركة محاماة من حيث صافي الإيرادات على مستوى البلاد. يذكر أن 12 من بين هذه الشركات مقرها نيويورك. في الإطار ذاته، أشار إصدار «آم لو ديلي» الخاص بموقع «ذي أميركان لوير»على الشبكة، إلى أن متوسط الأرباح بالنسبة للشريك داخل «وايت آند كيس» بلغ العام الماضي 1.6 مليون دولار، بتراجع عن 1.7 مليون دولار في العام السابق. وقد أعلنت الشركة، التي تحتل المرتبة السادسة على قائمة مؤشر «هيلدبراندت»، حدوث زيادة بنسبة 7.7 في المائة في الأرباح العام الماضي، لتصل إلى 1.4 مليار دولار، إلا أن الشركة كانت على رأس الشركات التي اتخذت إجراءات تقليص قوية للعمالة، حيث استغنت حتى الآن عن قرابة 600 شخص، بينهم 279 محاميا ـ يضمون سبعة من بين 73 شريكا في لندن ـ وذلك في إطار عملية وصفها فيريير خلال مقابلة نادرة أجريت معه بأنها «تخلع الفؤاد». وأضاف «إنه أمر مؤلم للغاية. ومن المؤلم كذلك قراءة الانتقادات الموجهة إلى الشركة، والشركاء، بينما لا تعدو الشركة كونها مؤسسة عظيمة مضطرة تحت وطأة ضغوط اقتصادية للتكيف مع وضع جديد». من جهته، قال جيري كوالسكي، المستشار القانوني الذي يتعقب تطورات سوق نيويورك، إن «الحالة المزاجية داخل وايت آند كيس ـ وكذلك ربما داخل ما يتراوح بين 15 أو 20 شركة أخرى في نيويورك ـ أشبه بالوقوف إلى جانب أحد المقربين وهو يحتضر. إن الأمر أشبه بوقوفك داخل حجرة العناية المركزة بجانب مريض، وأنت تدرك أن حالته ميئوس منها». جدير بالذكر أن «وايت آند كيس» تأسست في عام 1901 على يد كل من جستين دي. وايت، خريج جامعة كورنيل الذي تزوج سيدة بالغة الثراء من أصحاب المصارف، وجورج بي. كيس. وكانت «وايت آند كيس» نموذجا للشركة المملوكة لرجل من النبلاء. واعتمدت الشركة على رأس مال وفره مؤسساها بلغ 500 دولار، وكذلك على علاقتهما الوثيقة بهنري بي. دافيسون، البلوتوقراط ورجل البر الذي ساعد في إنشاء مصرف الاحتياطي الفيدرالي.

كان أول إنجاز كبير تحققه الشركة هو فوزها بالاضطلاع بالأعمال القانونية الخاصة بـ«بانكرز ترست كمباني»عام 1903. وتولت الشركة المتنامية إدارة توريدات فرنسية وبريطانية في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى. وعلى مر السنوات، توسعت دائرة عملائها لتضم أسماء عملاقة، كيانات محورية مثل أوغست بيلمونت و«الشركة الأميركية للصلب»، و«جنرال إليكتريك». وعمل رودولف دبليو. غيلياني في الشركة لفترة وجيزة في الثمانينات، (وتعرض لانتقادات لاضطلاع الشركة بأعمال بالنيابة عن الجنرال مانويل نورييغا في بنما). في الوقت الحاضر، تشير العناوين الرئيسية إلى توماس لوريا، رئيس مجموعة إعادة الهيكلة المالية بالشركة، الذي يمثل معارضي إفلاس «كرايسلر» داخل المحكمة الفيدرالية. ومنذ عام 1980 حتى 2000، تولى جيمس هرلوك، الأستاذ الجامعي الذي اتسم بشخصية سلطوية ذات رؤية ثاقبة، وزاد عدد المحامين العاملين بالشركة في ظل رئاسته بمقدار ثلاثة أضعاف، وتوسعت الشركة إلى داخل أسواق متنوعة، مثل هلسنكي وهانوي. وخلف هرلوك دوان وول، الذي أعاد تركيز اهتمام الشركة على نيويورك. وعندما تولى فيريير رئاسة الشركة عام 2007، أثارت مكاتب الشركة في الخارج، مثل مكتب لندن، الشكوك حول استحقاقه لهذا المنصب. ويرجع جزء من السبب وراء هذا الموقف إلى استعانته من قبل بشركة «مكنسي آند كمباني» الاستشارية التي أشارت إلى أن أعداد العاملين في «وايت آند كيس» تفوق الحاجة. من ناحيته، نفى فيريير أن تكون «مكنسي آند كمباني» قد أقنعته بالحاجة إلى اتخاذ إجراءات تسريح للعمالة، وألمح إلى أنه لا يزال هناك «دور حيوي لشركة المحاماة العالمية»، رغم اعترافه بوجود ميل متزايد لدى العملاء بالسعي للاستعانة بشركات إقليمية في بعض الأعمال المحددة. وتساءل فيريير أثناء جلوسه في حجرة الاجتماعات في الطابق الأربعين من بناية شاهقة تطل على تايمز سكوير «هل هناك تحول في النموذج العام؟. لا أعتقد أن أي شخص يملك القدرة على احتكار ما يحمله المستقبل». وربما تكون هذه الفكرة هي لب القضية برمتها، ذلك أنه مثلما الحال مع «ميريل لينش»، و«جنرال موتورز»، تجابه شركات مثل «وايت آند كيس»، التي لا يزال يعمل لديها أكثر من ألفي محام في 34 مكتبا داخل 23 دولة حول العالم، أوقاتا عصيبة في فترة تحظى خلالها بأعداد ضخمة من المساعدين، بينما تنحسر القضايا، ويتراجع طلب العملاء. من جهته، قال كوالسكي «أستمع إلى قصص طيلة الوقت. ويوجه محامو العقارات الجزء الأكبر من مهاراتهم إلى لعب الورق. أما المحامون الأصغر سنا، فيقضون اليوم بأكمله في تناول أطراف الحديث، ومحاولة التفوق على بعضهم البعض. وقد أخبرني رئيس أحد الأقسام بشركة كبرى للتو أنه لم يتم إنجاز أي عمل طيلة الأسبوعين الماضيين».

من ناحية أخرى، قال بيتر زوهاوزر، المعني بوضع الاستراتيجيات القانونية، ويعمل في كاليفورنيا، إنه «على امتداد ربع قرن، كانت هناك حالة ازدهار قوي في النشاط التجاري، الأمر الذي يرجع في معظمه إلى توسع أسواق رأس المال، واستمرت الشركات الكبرى في تعيين أفراد، كما لو كانت فترة الازدهار ستستمر إلى الأبد. والآن، تعاني غالبية الشركات الكبرى من اختلال تام في توازنها، مع وقوف الكثير من المساعدين الشباب عقبة في الطريق. والمعروف أن أجور المساعدين تعد الشريحة الأكبر للنفقات العامة لشركات المحاماة. وعندما انهارت «ليمان برزرز» في 15 سبتمبر (أيلول)، ارتطم كل شيء بالجدار». وكان هذا الجدار صلدا على نحو خاص، نظرا إلى أن الكثير من شركات المحاماة الكبرى تعمل ـ مثلما الحال مع بائعي المثلجات ـ على أساس الدفع نقدا، مع عدم توافر احتياطيات كافية لديها تكفل لها المرور بسلام من فترات الركود.

وفي ظل حالة الانهيار التي تعانيها وول ستريت، اكتشفت شركات المحاماة فجأة أنه من غير اللائق، بل والمستحيل، أن تدفع لمحامين شباب لم يمض على تخرجهم في كلية الحقوق أكثر من ستة أشهر 160.000 دولار سنويا فقط كي يحدقوا في وجوه بعضهم البعض. (جدير بالذكر أنه في أعقاب عرضها وظائف على العشرات من طلاب الصف الثالث بكلية الحقوق في الخريف الماضي، أخبرت «وايت آند كيس» 60 في المائة منهم أن عليهم الانتظار لمدة عام قبل أن يشرعوا في العمل فعليا). من جهته، أكد فيريير أنه لاحظ اقتراب الأزمة في أعقاب توليه مسؤولية إدارة الشركة في عام 2007 بفترة قصيرة، الأمر الذي دفعه إلى دراسة ثلاثة اختيارات، بالتشاور مع عدد من كبار الشركاء: الامتناع عن اتخاذ أي إجراء، ما يحمل تهديدا لقدرة الشركة على الاستمرار، أو تنفيذ إجراءات تسريح للعمالة باعتبارها قرارات مترتبة على مستوى الأداء الرديء، أو الاعتراف بوجود أزمة؛ والاستغناء عن أعداد كبيرة من المحامين. وعقد فيريير رأيه على مواجهة الموقف بصورة مباشرة. ورغم أن القرار لاقى إشادة من قبل الكثير من أعضاء فريق العمل، إلا أنه حمل مخاطرة ظهور الشركة بمظهر ضعف، أو تحولها إلى رمز لأفول نجم الصناعة بأسرها، لكن فيريير رأى في هذا الموقف محاولة لتمهيد الطريق أمام «وايت آند كيس» لإعادة صياغة نفسها. وفي حديثه عن العاملين الذين تم الاستغناء عنهم، أوضح فيريير أنه «في بعض الأحيان، وقع الاختيار على الأشخاص الذين انضموا حديثا إلى الشركة، لكن في أحايين أخرى، كان يتم الاستغناء عن عاملين أقدم بكثير في قرار بدا أنه نقطة فاصلة في حياتهم المهنية». واعترف فيريير أنه «كانت هناك حاجة لاتخاذ قرارات صعبة»، مضيفا أنه بذل أقصى ما في استطاعته للحفاظ على ثقافة الشركة، وحمل أسلوب تنفيذ عمليات تسريح العاملين أهمية لا تقل عن تلك المرتبطة بالسبب وراء هذه الإجراءات. وعلى ما يبدو، فإنه بمرور الوقت تتحول مهنة النبلاء، حسبما توصف المحاماة، إلى مجرد أثر من آثار الماضي، لا صلة له بالحاضر الجديد. على سبيل المثال، نجد أن فيليب كيه. هوارد، أحد كبار الشركاء في «كفنغتون آند بيرلنغ»، وهي شركة أخرى متعددة الجنسيات، قد يكون أقرب الشخصيات إلى نموذج المحامي النبيل الذي من المحتمل أن يلقاه المرء هذه الأيام. يتميز هوارد بالكياسة وعقله المتمدن وشعره الفضي، إضافة إلى حاجبيه الأرستقراطيين. وفي الوقت الذي رفض هوارد الحديث مباشرة عن «وايت آند كيس»، مبررا ذلك بقوله «لست مهتما بالشؤون القانونية»، فإنه مس بحديثه المصاعب التي تعانيها الشركة حاليا من خلال الإلماح إلى أنه مع تنامي أهمية النفقات المالية، يتراجع الدور التقليدي للمحامي كمستشار مؤتمن. وأضاف أنه «مع إثارة المحامين لذات المشكلات واحدا تلو الآخر، والتعامل معهم باعتبارهم عوامل في الإنتاج يمكن الاستغناء عنها أو التمسك بها، حسب قوى السوق أو انحسار هامش الربح، بدأ الالتزام العاطفي والمهني المصاحب لكون المرء مستشارا ومعنيا بتسوية المشكلات في الانكماش». وقد تجلى هذا التركيز على النفقات المالية خلال اجتماع أخير عقدته لجنة المحامين في المرحلة الانتقالية التابعة لنقابة المحامين بولاية نيويورك. وقد خيمت الكآبة على الاجتماع، الذي عكف خلاله عشرات المحامين الذين تم تسريحهم من أعمالهم على تبادل بطاقات التعارف وتناول الطعام داخل إحدى الشركات بوسط المدينة، في الوقت الذي شاركهم بضعة مئات آخرين عبر شبكة الإنترنت. ودار الحديث حول «الخسائر المؤسفة»، و«ترتيبات تقليص ساعات العمل». في الواقع، يعد النموذج التقليدي لشركة المحاماة داخل نيويورك أشبه بنظام بيئي متطور تعيش به كائنات حية محددة، تنتمي في الأصل إليه، منها الشريك العدواني المندفع الذي صعد سلم المال والنفوذ من الدرجات السفلى، بما يجعله أشبه بمخلوق مر بعملية التطور والارتقاء التي تحدث عنها داروين. ويضم النظام كذلك المساعد الطموح الذي يقضي طيلة الليل يضطلع بالأعمال التافهة، على أمل أن يصل إلى منصب كبير في يوم ما، إلا أن هذا النظام الطبيعي تعرض لتهديد بالغ جراء الأزمة الاقتصادية واحتمالات اختفاء عناصر ثابتة، مثل النظام الهرمي (الذي تبعا له، يجري تخصيص أعداد كبيرة من المساعدين للتعامل مع قضية ما، الأمر الذي يزيد التكاليف بدرجة كبيرة)، وحساب الأجر بالساعة، الذي بدأ يحل محله تحديد أجور ثابتة. والواضح أن الأسس التي تقوم عليها شركات المحاماة بدأت في التحول على نحو مثير للقلق، ما خلق قدرا كبيرا من المخاوف والغموض. من ناحيته، ذكر أحد الشركاء في شركة مقاضاة كبيرة في نيويورك قائلا «اعتدنا الشعور بحدة في الحركة داخل المكتب. وعندما كان العاملون يسيرون نحو دورة المياه، كانوا في حقيقة الأمر يهرولون. والآن، بات الأمر أشبه بالتجول».

واستطرد موضحاً أنه «للمرة الأولى في حياتهم، يشعر هؤلاء الأفراد بأنهم بلا جدوى. وفجأة أصبح باستطاعتهم قضاء ساعتين وأكثر في تناول الغداء، دون أن يفوتهم أمر مهم. لقد تلقوا صفعة على كبريائهم. إننا نتحدث هنا عن أشخاص لم يعرفوا قط من قبل معنى الفشل». داخل «وايت آند كيس»، تفاقمت التوترات على نحو بالغ، لدرجة أن بعض العاملين باتوا يخشون من البقاء في منازلهم، حتى لو كانوا مرضى. وأكد شريك بارز بالشركة أن قوى السوق حلت محل «العقد الاجتماعي»، ولم تعد أواصر الصداقة قوية، لأن «الناس ينتابهم خوف شديد». وأضاف «عندما تدخل في شراكة، تدخل إلى حجرة ما وبداخلك عدد من الافتراضات المحددة، مثل أن هؤلاء الأشخاص يعون ما يفعلون، ويتمتعون بالذكاء والقوة. ورغم أن هذا الحال ما يزال قائما بصورة رئيسية، فإنه بعد أن كان الدفء يسود المكان في المرة الأولى التي دخلته فيها، بات الآن أكثر برودة». واستطرد موضحا أنه «لم يعد هناك شعور بالوفاء من قبل المؤسسة تجاه عامليها، والعكس صحيح، وهي بيئة مختلفة عما اعتاده معظمنا. لقد بات الأمر أقرب إلى الشؤون التجارية المحضة، بينما تضاءلت فكرة الشراكة الصادقة، لكن المشكلة أنه من المفترض أن نجابه جميعا هذا الأمر معا، لكن عند نقطة ما، تقف قليلا وتفكر أن هذا ربما لا يكون صحيحا».

* خدمة «نيويورك تايمز»