ما هو مستقبل الدولار في ظل منافسة اليورو و«وحدة حقوق السحب الخاصة»؟

مطالبة الصين بالتخلي عن العملة الأميركية هزت مكانتها في الأسواق

TT

جددت الصين قبل أيام قليلة دعوتها «الجادة» بأن يبحث العالم عن عملة بديلة للدولار، لكي تصبح عملة الاحتياطي النقدي العالمي. ومع هذه الدعوة انخفض سعر صرف الدولار، منهيا بذلك موجة ارتفاع بدأت مع بداية العام، وزادت من قيمته بأكثر من 2 في المائة مقابل غالبية العملات الرئيسية. وبالطبع كان الدولار قد شهد انخفاضا كبيرا خلال عامي 2007 و2008. لكن العملة الأميركية عادت وانتعشت (الخميس) بعد أن قال نائب وزير الخارجية الصيني، خه يافي، إنه لم يسمع بأن حكومته طالبت بعقد مناقشات بشأن العملات الاحتياطية خلال قمة مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، المزمع عقدها الأسبوع القادم في إيطاليا. وتسببت تعليقات يافي، في انتعاش الدولار قليلا بعد فترة من القلق بسبب التصريحات الصينية، التي طالبت بتنويع محافظ عملاتها الاحتياطية بعيدا عن الدولار، الأمر الذي لا بد أن يلحق ضررا بالغا بالعملة الأميركية. وبعد ساعات قليلة من تصريح نائب وزير الخارجية الصيني، ارتفع سعر الدولار بنسبة 0.4 مقابل اليورو، الذي أصبح يعادل 1.4100 دولار منخفضا من 1.4202 دولار في اليوم السابق.

كما ارتفع مؤشر الدولار ـ الذي يقيس أداء العملة الأميركية أمام سلة من ست عملات رئيسية ـ بنسبة 0.4 في المائة ليصل إلى 79.983 رغم أنه ظل قريبا من أدنى مستوى له منذ ثلاثة أسابيع بفعل التصريحات الصينية. وكان البنك المركزي الصيني قد كرر الأسبوع الماضي الدعوة لإحلال عملة عالمية بديلة عن الدولار الأميركي. وقال البنك في بيان له، «إن سيطرة عملة وحيدة على النظام النقدي العالمي يؤدي إلى زيادة مخاطر توسع انتشار الأزمات المالية». وبالطبع تأثر الدولار في تعاملات الأسواق المالية سلبا بهذه الأنباء، إذ تراجع أمام اليورو بنسبة واحد في المائة، كما تراجع أمام الجنيه الإسترليني بنسبة أقل.

وكان رئيس البنك المركزي الصيني قد أثار زوبعة في وقت مبكر من هذا العام، عندما أعلن أن الدولار قد يتم التخلي عنه كعملة احتياطية، ويستبدل بـ«وحدة حقوق السحب الخاصة» المعتمدة من قبل صندوق النقد الدولي منذ عام 1969. وأضاف أنه لا يجب الاكتفاء باعتماد «وحدة حقوق السحب الخاصة» بل يجب تكليف الصندوق بإدارة جزء من احتياطات الدول من العملة الصعبة.

وأشار إلى أن اعتماد «وحدة حقوق السحب الخاصة» يجنب العالم مساوئ اعتماد عملة وطنية مثل الدولار كعملة للاحتياطي النقدي العالمي، وتحافظ على قيمتها على المدى الطويل.

وانتقد البنك المركزي الصيني السياسة التي تتبعها الحكومة الأميركية حاليا، بهدف تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تواجهها، قائلا «إنه من الصعب إيجاد التوازن المطلوب بين السياسات المحلية الأميركية وبين ما يتطلبه الدولار كعملة أساسية للاحتياطات النقدية العالمية».

وقد أثارت التصريحات الصينية تساؤلات قديمة، ظل بعض الاقتصاديين يرددها، حول ما إذا كان الدولار قد بدأ يفقد وضعه كعملة الاحتياط النقدي الأولى في العالم. غير أن هذه التساؤلات عادة ما تصاحب الفترات التي يفقد فيها الدولار قدرا ملحوظا من قيمته. وخلال الثلاثين عاما الماضية تعرض الدولار إلى 4 انخفاضات كبيرة، آخرها هو الانخفاض الذي ساد خلال العامين الماضيين، وخسر خلاله الدولار نحو 31 في المائة من قيمته مقابل اليورو، و19 في المائة مقابل سلة من العملات المختلفة، كما تعدى الإسترليني في أواخر العام الماضي حاجز الدولارين. وفي الواقع فإن العالم قد غير عملته مرة واحدة في التاريخ الحديث، وهي عندما كان الجنيه الإسترليني يتربع على العرش إبان العصر الذي كان فيه الذهب مقياسا للعملة. ولكن خلال سنوات الحرب العالمية الأولى تحولت بريطانيا من دولة دائنة إلى دولة مستدينة. وبعد الحرب مباشرة، نحو عام 1920، برز الدولار الأميركي بوصفه العملة الوحيدة التي يمكن استبدالها بالذهب دون مخاطر، رغم أن الجنيه الإسترليني كان لا يزال قريبا منه. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتوجه ضربة ثانية للإسترليني، الذي أضطر إلى تخفيض قيمته مرتين خلال تلك السنوات، ليصبح بعدها الدولار سيد الموقف دون منازع، كعملة الملاذ الأولى في العالم، أي العملة التي تفضل البنوك المركزية حول العالم الاحتفاظ باحتياطياتها النقدية بها.

ولكن رغم خسائر الدولار خلال العامين الماضيين، فإن الأرقام التي يصدرها صندوق النقد الدولي توضح أن نسبة 66 في المائة من جملة احتياطيات العملات الأجنبية في دول العالم ما تزال محفوظة بالدولار، وذلك مقارنة بـ25 في المائة باليورو، و4 في المائة بالين الياباني، و3 في المائة بالجنيه الإسترليني. وحتى بعد صدور هذه الأرقام، فهناك المتشككون الذين يعتقدون أن الدولار هذه المرة بدأ فعلا يهتز إن لم نقل يفقد عرشه تدريجيا. ويستدل هؤلاء على حجتهم بمجموعة من المؤشرات الهامة، من بينها أن عددا من البنوك المركزية حول العالم قد خفض بالفعل مشترياته من سندات الخزانة الأميركية، بحيث انخفضت قيمة هذه المشتريات خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2007 (بداية الأزمة المالية في الولايات المتحدة) بملياري دولار فقط، بينما كانت قد ارتفعت في العام قبله بـ295 مليار دولار. كما أن عجز الحساب الجاري الأميركي بلغ مع بداية الأزمة 6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهي أعلى نسبة يصلها في تاريخه على الإطلاق. وبالمثل، فقد بلغت الالتزامات الخارجية (أشبه بالديون) للولايات المتحدة 22 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهو أيضا رقم قياسي. ويعتقد أصحاب هذه النظرية أن هذه الأرقام لو تكررت في السنوات المقبلة فلا شك أن بعض العملات الأخرى ستبدأ تنازع الدولار في هيمنته على العالم. وبصرف النظر عما قاله الصينيون بشأن «وحدة حقوق السحب الخاصة» المعتمدة من قبل صندوق النقد الدولي منذ عام 1969، فإن العملة المرجحة لمنافسة الدولار هي اليورو. فالعملة التي يلجأ لها العالم للاحتفاظ باحتياطيه النقدي يجب أن تكون مستندة إلى اقتصاد كبير، وله حصة معتبرة من إجمالي الناتج التجاري والمالي في العالم. وبهذا المقياس فالاقتصاد الأميركي لا يزال مسيطرا. لكن منطقة اليورو ـ المتوسعة باستمرار ـ أصبحت قريبة جدا منه من حيث الحجم، بل إن حجم التجارة الأوروبية تعادل تقريبا مع نظيره الأميركي. وأصبحت أوروبا تكمل نصف تعاملاتها التجارية بعملتها الجديدة، اليورو. بالإضافة إلى ذلك فإن اليورو ليس عملة دولة بعينها، كما هو الحال بالنسبة للدولار. وقد يوفي ذلك بأحد الشروط الصينية. غير أن عملة العالم للاحتياط النقدي يجب أيضا أن تستند إلى سوق مالي كبير ومتطور. وبهذا المقياس فإن البورصة الأميركية متفوقة كثيرا على البورصات الأوروبية، ربما لأنها بورصة واحدة، بينما تتعدد البورصات الأوروبية بعدد بلدان الاتحاد الأوروبي. لذا فقد كان لقيام عملة موحدة في أوروبا (اليورو) أثر ضخم في توحيد الاقتصادات الأوروبية ـ أو تقريبها إلى بعضها بعضا. وهذه هي البداية فقط، فقيام العملة الموحدة تحت إمرة بنك مركزي واحد يتحكم في سعر الفائدة سيسهم دون شك في تطور سوق مالية موحدة، تطرح فيها أسهم جميع الشركات الأوروبية العامة. أضف إلى ذلك التوسع الجغرافي للاتحاد الأوروبي الذي ساهم أيضا في تحويل أوروبا إلى منطقة تجارية ضخمة، بعدما كانت في الماضي أشبه بناد صغير لبضع دول متفرقة.ويقول باري إتشينغرين، المحاضر في جامعة كاليفورنيا، في دراسة صغيرة، إن سيطرة أي عملة على العالم تتطلب أيضا ثقة المستهلكين في قيمة تلك العملة. ويضيف أن احتفاظ الدولار بموقعه كعملة الاحتياط النقدي عالميا سيتوقف على السياسات المالية، التي ستتبعها الولايات المتحدة. فإذا استمر عجز الحساب الجاري مرتفعا لفترة من الزمن، وإذا ظلت الالتزامات الخارجية تتصاعد، فإن الدول الأخرى ستصبح غير راغبة في حفظ احتياطاتها النقدية بالدولار، ومن ثم فستنخفض قيمة الدولار، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى ضغوط تضخمية مما سيزيد من نفور الدول عن العملة الأميركية. فهذه هي الدائرة الخبيثة التي قد تفقد الدولار عرشه، ولن يجدي وقتها رفع أسعار الفائدة لجذب المستثمرين.

وتوضح دراسة أخرى، أعدها جيفري فرانكيل، الأستاذ في جامعة هارفارد، أن هناك عاملا إضافيا يلعب دورا في تحديد عملة الاحتياط الدولية، وهو ما أسماه «التأثير والتأثر» أي أن السلطات النقدية في بلدان كثيرة تختار العملة المعينة فقط لأن بقية العالم تختارها أيضا، وبذلك يسهل على الجميع التعامل عبرها. ويقول فرانكيل، إن اليورو يمكن أن يحل محل الدولار ولكن ليس قريبا، مذكرا بأن الدولار نفسه استغرق بضعة عقود لكي يحل محل الجنيه الإسترليني. ويحاول الكاتب وضع تصورين (سيناريوهين) خلال العشرين سنة المقبلة ـ الأول لانتصار اليورو، والثاني لبقاء الدولار. فالأول يفترض أن تستمر العملة الأميركية في خسارة نحو 3.6 في المائة من قيمتها كل عام، مقابل سلة من العملات، في حين يستمر اليورو في الصعود بمعدل 4.6 في المائة سنويا مقابل السلة نفسها من العملات. وهذه الأرقام لم يخترها الكاتب اعتباطا، بل هي الأرقام الحقيقية التي ظلت سائدة بين عامي 2001 و2004. غير أن هناك سيناريو ثالثا يطرحه باري إتشينغرين، من جامعة كاليفورنيا، وهو أن تصبح العملتان ـ الدولار واليورو ـ متعادلتين في اجتذابهما لاحتياطات العالم من النقد. فمع مرور الوقت وتمكن اليورو من إثبات قيمته، قد يتخلى العالم عن فكرة «العملة المسيطرة»، ويقرر الكثيرون الاحتفاظ باحتياطيهم النقدي بعملات أخرى، يثقون في أنها ستحفظ لهم قيمة ثروتهم. وفي واقع الأمر فإن هذا الوضع ماثل حاليا، إذ إن الدولار ينال 66 في المائة من احتياطات العالم، بينما ينال اليورو 25 في المائة منها. فالمطلوب هو أن تقترب النسبتان من بعضهما بعضا ليتحقق السيناريو الثالث، وهو اقتسام العرش.