أعين وآذان السلطات الأميركية على السوق المالية في الطابق التاسع بأحد مباني وول ستريت

أول الموظفين يحضر في الرابعة صباحا لمتابعة آسيا وأوروبا.. والبعض ينتقدهم لقربهم من المؤسسات المالية

تسلط المعلومات، التي جرى جمعها داخل مصرف نيويورك للاحتياطي الفيدرالي، الضوء على خبايا العالم المالي بالنسبة لكبار صانعي السياسات (أ.ب)
TT

في الطابق التاسع من مبنى يقع على بعد ثلاثة مباني من وول ستريت، يحدق عدد من العاملين الشباب في أرقام مضيئة على شاشات مسطحة لحواسب آلية، إلى جانب استخدام الهاتف باستمرار، سعيا لرصد جميع التطورات التي تطرأ على الأسواق المالية بمختلف أرجاء العالم. يمكن أن يجري هذا المشهد داخل أي مصرف استثماري أو صندوق تحوط. بدلا من ذلك، يشكل هؤلاء الشباب المجموعة المعنية بالأسواق داخل مصرف الاحتياطي الفيدرالي لمدينة نيويورك، الذي جاء في طليعة الهيئات المعنية بتنفيذ الاستجابة الحكومية للأزمة المالية. جدير بالذكر أن مسؤولي مصرف الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة يتخذون القرارات الكبرى، بينما يضطلع المسؤولون التنفيذيون بمصرف الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك بمهمة تنفيذها. وتسلط المعلومات، التي جرى جمعها داخل مصرف نيويورك للاحتياطي الفيدرالي، الضوء على خبايا العالم المالي بالنسبة لكبار صانعي السياسات. إلا أن المصرف يتسم بقربه الشديد من وول ستريت ـ من حيث الموقع والثقافة والفكر ـ بدرجة أثارت القلق في نفوس بعض الخبراء الاقتصاديين حيال تغليب مصرف الاحتياطي الفيدرالي لمدينة نيويورك مصالح الصناعة المالية على مصالح الأميركيين العاديين. في هذا الصدد، قال سيمون جونسون، الخبير الاقتصادي لدى «إم آي تي»: «يبدو مصرف الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك ليس كهيئة قريبة للغاية من وول ستريت فحسب، وإنما أيضا من أقوى الشخصيات هناك. يساورني القلق من أنهم يبدون تبجيلا بالغا إزاء الخبرة والحكمة المفترض وجودهما في قطاع تردى في فوضى عارمة». حتى بعض المصادر المطلعة السابقة داخل مصرف الاحتياطي الفيدرالي أشارت إلى أن المصرف لا يولي اهتماما كافيا لأوجه القصور الجوهرية في النظام المالي بالبلاد، أو إلى المخاطر المرتبطة بتقديم إعانات لإنقاذ المؤسسات المالية ـ على سبيل المثال ـ احتمالية أن يشجع الوضع الراهن المصارف على خوض مزيد من المغامرات المتهورة. ويشعر هؤلاء الخبراء بالقلق حيال إقرار مصرف الاحتياطي الفيدرالي لمدينة نيويورك نمط التفكير السائد داخل صالة التداول، حيث بات مسايرا للتحولات الطفيفة التي تطرأ على الأسواق المالية، لكن ليس للتوجهات والأخطار طويلة المدى. على سبيل المثال، أبدى المضاربون في السندات في وول ستريت رغبتهم في أن يرفع المصرف المركزي مستوى شراءه سندات وزارة الخزانة، ما من شأنه مساعدة المضاربين عبر دفع الأسعار للارتفاع. إلا أن مسؤولي المصرف الفيدرالي في واشنطن وبمختلف أرجاء البلاد خلصوا إلى نتيجة مفادها، إن مثل هذه الخطوة ستؤتي بنتائج سلبية على المدى البعيد، على النقيض مما رآه بعض العاملين بمصرف نيويورك للاحتياطي الفيدرالي، الذين عكست وجهات نظرهم تلك السائدة في وول ستريت. في هذا السياق، أعرب ويليام بول، الرئيس السابق لمصرف الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس، الذي يعمل حاليا بـ«معهد كاتو»، عن اعتقاده بأن موظفي المصرف الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك «يضطلعون بدور قيم للغاية على امتداد فترة طويلة، مع تمتعهم بصلات وثيقة مع المؤسسات المالية الكبرى. أما العنصر المفقود، من وجهة نظري، فيتمثل في إتباع توجه بعيد الأمد. في الواقع، إنهم يميلون لرؤية القضايا عبر منظور قصير الأمد، الأمر الذي ينطبق على الكثير من المؤسسات المالية. إن المضاربين يتحركون في إطار بضعة ساعات أو بضعة أسابيع، على أقصى تقدير». من ناحية أخرى، يبدو مقر مصرف الاحتياطي الفيدرالي لمدينة نيويورك أشبه بالحصن، مع وجود قضبان حديدية لتأمين نوافذ المبنى في الأدوار السفلى. أما الردهة الرئيسة بالمبنى فتبدو أشبه بكاتدرائية قوطية، حيث يسوده الهدوء والعتمة وبعض الجدران الحجرية، كما لو كان تصميمه يرمي لبث الخوف والرهبة في نفوس الزائرين. مثلما الحال مع مصارف الاحتياطي الفيدرالي الأحد عشر الإقليمية الأخرى، يشكل مصرف الاحتياطي الفيدرالي لمدينة نيويورك مزيجا مثيرا بين القطاعين العام والخاص، ويعد جزءا من نظام أنشأه الكونغرس عام 1913 لتجنب تركيز السلطة في أي من واشنطن أو نيويورك وحدها. ويتألف مجلس إدارة المصرف من مصرفيين ورجال أعمال وقادة على الصعيد الاجتماعي، الذين يقومون بدورهم بانتخاب رئيس للمصرف بموافقة محافظي المصرف الفيدرالي في واشنطن. وتتشارك مصارف في نيويورك وكونيكتيكت وأجزاء من نيوجيرسي في مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، رغم أن أرباحه تعاد إلى وزارة الخزانة الأميركية. يتولى رئاسة المصرف خبير اقتصادي حلو اللسان يدعى ويليام سي. ددلي، الذي تقلد منصبه في يناير (كانون الثاني)، ليحل محل تيموثي إف. غيتنر، الذي أصبح وزيرا للخزانة. بالنظر إلى ميله للأنماط المتحررة في اختيار الملبس، لا يبدو ددلي متوافقا مع الصورة التقليدية للمسؤولين التنفيذيين في وول ستريت. والواضح أن ددلي تمكن من كسب إعجاب الكثيرين عبر مختلف أرجاء نظام الاحتياطي الفيدرالي بأسلوب عمله القائم على التعاون، وموهبته في تفسير القضايا المعقدة على الصعيد المالي وصياغة حلول لها. لكن سيرته الذاتية هي التي تثير قلق بعض النقاد، حيث يرونها مثالا على نمط علاقة ينطوي على قدر مفرط من الحميمية بين المؤسسات المالية والجهة التنظيمية الأولى المعنية بها. كان ددلي واحدا من كثير من المسؤولين المصرفيين، الذين سبق لهم العمل في القطاع الخاص، حيث عمل في «غولدمان ساشز» على امتداد عقدين، بينها عشر سنوات كخبير اقتصادي بارز، قبل الانتقال إلى مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك عام 2007. يضم مجلس إدارة المصرف، الذي انتقى ددلي، شخصيات عملاقة بمجال النشاط التجاري، مثل جامي ديمون، رئيس «جيه. بي. مورغان تشيس»، وجيفري إميلت، رئيس «جنرال إليكتريك». جدير بالذكر، أن ريتشارد فولد، الرئيس التنفيذي آنذاك لـ«ليمان برزرز»، استقال من مصرف الاحتياطي الفيدرالي قبيل أيام من انهيار شركته. واستقال ستيفين فريدمان، الذي كان عضوا في مجلس إدارة «غولدمان ساشز»، من منصبه كرئيس لمجلس إدارة مصرف الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك في وقت سابق من العام الحالي بعد اشتعال جدال حول قيامه بشراء أسهم في «غولدمان ساشز» أثناء عمله بالمصرف الفيدرالي. من جهته، قال ديان بيكر، مدير مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية: «لا أعتقد أنهم يتعمدون اتخاذ إجراءات لخدمة مصالح غولدمان ساكس والمصارف الكبرى الأخرى. لكن عندما يعمل المرء بمكان، يميل إلى إتباع الآراء السائدة بالمكان، الأمر الذي ينعكس على سياساته. إن الأمر لا يتعلق بكونهم فاسدين عن عمد، وإنما يتعلق بدمجهم مصالح المصارف الكبرى في وجهات نظرهم». من ناحيته، يرى ددلي أنه أبدى استعداده مرارا لاتخاذ مواقف صارمة حيال المصارف الكبرى، خاصة فيما يتعلق باختبارات تحمل الضغوط التي جرت في وقت سابق من العام الحالي، التي اعتبرها البعض شاقة، وألزمت بعض المصارف بجمع المزيد من رؤوس الأموال. من ناحية أخرى، يعتقد بعض كبار المسؤولين الفيدراليين في واشنطن، أن التجربة التي خاضها ددلي وبعض أقرانه في القطاع الخاص انطوت على أهمية لا تقدر بثمن، في مساعدتهم على تفهم كيفية تداعي الأسواق. وعلق دونالد إل. كون، نائب رئيس مجلس المحافظين بنظام الاحتياطي الفيدرالي، بقوله: «كان هو الشخص المناسب في المكان المناسب في التوقيت المناسب». في الطابق التاسع، يحضر أول الموظفين إلى المكان في الرابعة صباحا، ويعمد إلى استخدام الهاتف سعيا للتعرف على آخر مستجدات المضاربة في آسيا وأوروبا. ويتمثل موظفو الخطوط الأمامية في «محللي المضاربات». وتدور أعمار الكثيرين منهم حول الثلاثين، وحصل معظمهم على درجات الماجستير في الشؤون الدولية أو السياسات العامة من جامعات عريقة، مثل جونز هوبكنز وكولومبيا. يستمر بعضهم في العمل في المصرف لعقود عدة، حيث يرتقون في الهرم الوظيفي، بينما ينتقل آخرون للعمل في مؤسسات وول ستريت في غضون أعوام قلائل «تطلع بعض هؤلاء نحو العودة إلى المصرف الفيدرالي مؤخرا مع تخلي المصارف الاستثمارية عن الآلاف من موظفيها». ويحصل العاملون على رواتب جيدة طبقا للمعايير الحكومية، رغم أن أجورهم تقل كثيرا عن أجور العاملين في وول ستريت. تقاضى موظفو المصرف البالغ عددهم 289 فردا في المتوسط 204.000 دولار عام 2007 ـ ما يفوق ما حصل عليه الوزراء. وعلق كون بالقول: «إنهم أعين وآذان المصرف الفيدرالي داخل الأسواق المالية، ولن يتمكنوا من الاضطلاع بمسؤولياتهم إذا افتقروا إلى الحساسية تجاه ما يحدث في العالم». بعد ذلك، يعود القرار النهائي إلى مجلس الإدارة ولجنة صنع السياسة داخل المصرف الفيدرالي حيال ما إذا كانت «تقبل هذه المعلومات، وتدرسها إلى جانب جميع المعلومات التي نحصل عليها ونحدد على أساسها السياسات المتبعة».

يذكر أن هذه العلاقة الوثيقة مع الشركات التي يضطلعون بتنظيمها تمنح مسؤولي المصرف الفيدرالي معلومات استخباراتية ذات أهمية جوهرية. في خضم الأزمة المالية في سبتمبر (أيلول)، علم مسؤولو المصرف من مصادرهم أن أكبر مصرفين استثماريين في وول ستريت، «غولدمان ساشز» و«مورغان ستانلي»، يجابهان خطرا محدقا بسبب فقدان شركائهما الثقة فيهما بسرعة كبيرة، طبقا لما ورد بتقرير معدل حول نشاط السوق، حصل عليه مسؤولو مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، نشرته صحيفة «واشنطن بوست». بعد أربعة أيام، دمج المصرف المركزي المؤسستين تحت المظلة الحمائية للمصرف الفيدرالي من خلال الموافقة على جعلهما «شركات قابضة». لكن من خلال سماحها لـ«غولدمان ساكس» و«مورغان ستانلي» بالتحول إلى شركات قابضة قادرة على تلقى قدر أكبر من المساعدات الفيدرالية، عفاهما المسؤولون الفيدراليون من المتطلبات المعتادة، ما يعرض أموال دافعي الضرائب لمخاطر محتملة. «منذ ذلك الحين، تحسنت أوضاع المؤسستين بدرجة كافية لعدم تكبيد الحكومة أي خسائر». استجابة للأزمة المالية، صاغ مصرف الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك الكثير من برامجه في محاولة للاستفادة من بعض الممارسات التجارية التي أسهمت في وقوع الأزمة من الأساس. في الخريف الماضي، شرع المسؤولون الفيدراليون في نيويورك وواشنطن في صياغة أفكار لمعالجة حالة الشلل التي أصابت أسواق قروض بطاقات الائتمان وقروض السيارات والأنماط الأخرى من الديون الاستهلاكية. في واشنطن، رغب العاملون الفيدراليون في أن يستعين المصرف المركزي بعدد صغير من الشركات لشراء الأوراق المالية المدعومة بهذه القروض، وبالتالي ضخ اعتمادات جديدة في السوق. إلى أن العاملين بمصرف الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك رأوا من الأفضل السماح لأي مستثمر تقديم الأموال، بحيث يكافئها قرض من المصرف الفيدرالي، لشراء الأوراق المالية. وأكد العاملون أن هذا التوجه سيعيد بدء العمل في الأسواق الخاصة بفعالية أكبر ويمكن تنفيذه بسرعة أكبر. أما الجانب السلبي فتمثل في أن إستراتيجية مصرف الاحتياطي الفيدرالي لمدينة نيويورك ستسمح للمستثمرين جني عائدات كبرى، في الوقت الذي قلصت الحكومة من خسائرهم. من ناحيتهم، اتخذ رئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي، بين إس. بيرنانك، وعدد من كبار مسؤولي المصرف صف مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. وفي إطار سعيه الدؤوب لإنقاذ الصناعة المالية، اتبع مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك خدعة تعرف باسم «أدوات الأغراض الخاصة». يذكر أن هذه الأدوات سبق وأن استخدمها «سيتي غروب» والمصارف الأخرى، وكان لها دور في التداعي المالي. ولجأ مصرف الاحتياطي الفيدرالي لأدوات مشابهة عندما عمد إلى التغلب على القيود القانونية المفروضة على قدرته شراء أصول تنطوي على مخاطرة. وعندما قرر المصرف المركزي إنقاذ «بير ستيرنز»، وفي وقت لاحق، «أميركان إنترناشونال غروب»، اقترح المحامون التابعون لمصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك خلق شركات منفصلة ذات مسؤولية تضامنية محدودة لشراء الأصول. ثم أقرض المصرف الفيدرالي المال لهذه الكيانات. من جهته، قال ددلي، إن المصرف الفيدرالي اتخذ مثل هذه الخطوات لدعم الاقتصاد بوجه عام، والمساعدة في الحيلولة دون تفاقم حالة الركود العميقة. وعندما ساعدت البرامج شركات فردية، فإن ذلك جاء انطلاقا من الرغبة في منع وقوع أضرار كارثية للاقتصاد الأميركي بشكل عام. وأضاف، في إطار مقابلة أجريت معه: «لا أحد هنا يحاول القيام بأي شيء سوى دعم الاقتصاد ودعم قدرة السوق على العمل. يساورنا القلق إزاء استقرار النظام، وليس مؤسسة فردية».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»