بعد عام من الكارثة الاقتصادية.. تغييرات محدودة في وول ستريت

المنظمون بذلوا جهدا كبيرا لإنقاذ القطاع المالي وليس تغييره

TT

بعد عام من إفلاس «ليمان براذرز»، ليست المفاجأة في قدر التغيير الذي لحق بالقطاع المالي، ولكن في القدر الضئيل الذي تغيرت به.

لقد عادت أكبر المصارف إلى الحياة ولكن بصورة أقل نجاحا، بمساعدة الضمانات الفيدرالية الكبيرة. وانخفض معدل التوظيف في الصناعة بنسبة 8 في المائة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. وقد أغلق عدد محدود من صناديق التحوط الكبيرة. وتعود الرواتب بالفعل إلى مستويات ما قبل الأزمة، وفي مقدمتها سيحصل موظفو «غولدمان ساكس» البالغ عددهم 30.000 على ما يصل في متوسطه إلى 700.000 دولار في العام الحالي. وليس من المرجح حدوث تخفيضات كبيرة في الرواتب، وفقا لتقرير صدر الأسبوع الماضي من «جي بي مورغان سيكيوريتيز». ويحتفظ مديرو معظم المصارف الكبرى بوظائفهم. وارتفعت أسعار الأسهم المالية بعد أن شهدت تدنيا في فترة الشتاء.

وقد اقترحت إدارة أوباما إجراء تغييرات تنظيمية، ولكن حتى مؤيدوها يقولون إنها تواجه طريقا صعبا في الكونغرس. وفي الوقت الحالي، ما زالت المصارف تبيع وتشتري مشتقات مالية غير خاضعة للتنظيم، على الرغم من الدور الذي لعبته تلك المشتقات في حدوث الفوضى في الخريف الماضي. وتواجه تغييرات جذرية مثل وضع حد أقصى للرواتب أو قيود على حجم المصارف مقاومة شديدة. بل وما زالت تغييرات ثانوية، مثل مطالبة المصارف بمزيد من الكشف عن المشتقات التي تمتلكها، بعيدة المنال.

وفي عطلة نهاية الأسبوع ذاتها التي تم فيها إنقاذ شركة التأمين العملاقة «أميركان إنترناشيونال غروب» وبيع «ميريل لينش»، كان إفلاس «ليمان براذرز» هو ذروة نهاية أسبوع كارثية بالنسبة للصناعة المالية. وفي الأيام التالية، بدا أن الجميع تقريبا متفق على أن هناك تغييرا جوهريا سيحل بـ«وول ستريت». ولم يمكن الاستمرار في نموذج لعبة وجهي العملة، حيث الفوز أو الحصول على أموال الإنقاذ. وستنتهي أيام الحصول على أموال مكونة من ثمانية أرقام.

ولكن في الحقيقة، أمضى المنظمون والمشرعون معظم العام الماضي في محاولة لإنقاذ الصناعة المالية، بدلا من تغييرها. وعلى المدى القريب، حققت جهودهم نجاحا. وتجنبت «سيتي غروب» ومصارف أخرى متعثرة الإفلاس، وتجاوز الاقتصاد الوقوع في حالة من الكساد. ولكن المستثمرين والاقتصاديين ذاتهم الذين توقعوا الانهيار في الخريف الماضي، وفي بعض الأحيان استفادوا منه، قالوا إن الإنقاذ حدث بتكلفة غير عادية. ويحذرون من أنه إذا لم يتم حل مخاطر نظام الصناعة، ربما تتسبب في أزمة أكبر، في غضون أعوام وليس عقود.

ويقولون إنه في المرة القادمة، ربما يكون رصيد حكومة الولايات المتحدة ذاتها هو المعرض للخطر.

ويقول سيمون جونسون، أستاذ كلية سلوان للإدارة في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا وكبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، إن بذور انهيار آخر تنتشر بالفعل. وإذا سمح للمصارف بالاستمرار في المراهنات التي تدعمها في النهاية ضمانات دافعي الضرائب، فستعود إلى الممارسات التي أدت بها إلى الوقوع تحت طائلة ديون سيئة تبلغ تريليونات الدولارات.

ويتوقع الأستاذ جونسون: «سيواجهون مخاطر كبيرة، وسيفشلون مجددا، وسيطالبوننا بتسديد دين كبير».

ولكن لا تعتبر نظرة يوم القيامة عامة.

ويقول مديرو شركات وول ستريت إن إفلاس «ليمان» فتح أعينهم على هشاشة مؤسساتهم. وأشاروا إلى أنهم انسحبوا من المخاطر وقللوا من الرفع المالي، مما جعل لديهم مخففات صدمة أكبر ضد الخسائر. وقالوا إن المنظمين على حق في دعم الصناعة المالية على مدار العام الماضي، بدلا من فرض قواعد جديدة أو ترك المصارف الضعيفة تشهر إفلاسها.

وصرح ديفيد فينيار، الرئيس المالي في «غولدمان»، قائلا: «يوجد رفع مالي أقل في النظام المالي بأكمله». وفي «غولدمان»، يدعم كل دولار في رأس المال 14 دولارا من القروض والاستثمارات، مقارنة بـ24 دولارا منذ عام.

ولكن يعترف بعض كبار مديري وول ستريت بأن عدم وجود تغيير يعد مفاجأة لهم، نظرا لسوء أداء الصناعة في الخريف الماضي ومدى ضرورة دعم الحكومة لإنقاذها من الإفلاس.

قال بيرون وين، نائب رئيس مجلس إدارة «بلاك ستون أدفيزوري سيرفيسز» وكبير الخبراء الاستراتيجيين في الاستثمار سابقا في «مورغان ستانلي» و«بيكوت كابيتال»: «كان هناك شعور عام بأنه من الواجب فرض قدر كبير من التنظيم الإضافي لمنع ما حدث في نهاية ذلك الأسبوع من الحدوث مجددا. وحتى الآن لم نر الكثير من الإجراءات».

وقال روبرت شيلر، أستاذ الاقتصاد في جامعة يال الذي توقع حدوث أزمة تكنولوجيا المعلومات وانفجار فقاعة العقارات، إن نافذة التغيير ربما تكون مغلقة.

وقال شيلر: «سيقبل الناس بالتغيير في وقت الأزمة، ولكننا لم نخطط لفعل الكثير، وربما يعود الشعور بالرضا. ويبدو أننا فقدنا قوة الدفع».

وقال كينيث غريفين، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ«سيتادل إنفستمنت غروب»، وهو صندوق تحوط مقره شيكاغو يدير 13 مليار دولار، إن المنظمين والمشرعين كانوا في حاجة إلى فرض قواعد يمكن من خلالها غلق المصارف المتعثرة بدلا من السماح لها بالعمل بدعم من دافعي الضرائب إلى أجل غير مسمى.

وقال غريفين: «لقد اتخذنا الكثير من الخطوات نحو الأسوأ وليس الأفضل، فيما يتعلق بالأسس الهيكلية لأسواقنا المالية. وعلينا أن نغير القواعد ونصحح الأخطاء الأساسية في النظام المالي».

ومن المؤكد أن وول ستريت ليست كما كانت قبل وقوع الكارثة في العام الماضي. ففي ذلك الوقت، كانت هناك عشرة مصارف كبرى أو أكثر في الفئة الأولى. وحاليا، من الواضح أن «غولدمان ساكس» و«جي بي مورغان تشايس» هما الأقوى، في الوقت الذي يحاول فيه «مورغان ستانلي» المنافسة. ويعد «بنك أوف أميركا» و«سيتي غروب» هما أضعف المصارف، حيث يعتمدان كثيرا على الضمانات الحكومية من أجل الاستمرار.

ويقول داريل دافي، أستاذ التمويل في جامعة ستانفورد: «لدينا المزيد من الفصل بين المصارف الكبرى القوية والأقل قوة».

وقد جمعت المصارف مجتمعة مئات المليارات من رؤوس الأموال الجديدة للمساعدة في التخفيف من الخسائر الناجمة عن القروض السيئة وهي تتخذ نهجا أكثر حذرا في الإقراض والاكتتاب. وقد انتهت المبالغات السيئة في عامي 2006 و2007، عندما كانت المصارف تقرض مئات المليارات من الدولارات على جميع أنواع العقارات بشروط بدت في ذلك الوقت غير معقولة.

ولكن كان من المتوقع حدوث تلك التغييرات. ومن التقليدي أن ترفع المصارف معايير الإقراض في فترات الركود. وحتى إذا أرادت الاستمرار في الاكتتاب، فلن تجد سوقا لذلك. وقد تكبدت الكثير من صناديق المعاشات والتحوط خسائر فادحة بسبب السندات المدعمة من الرهون العقارية وهي بالكاد تسعى إلى شراء المزيد.

ويقول منتقدو الصناعة إن الانسحاب من المخاطرة سيكون مؤقتا فقط إذا لم يتم اتخاذ تغييرات تنظيمية كبيرة. ويقول نسيم نيكولاس طالب، الخبير الإحصائي ورجل الأعمال والكاتب، منذ أعوام تقلل المؤسسات المالية من قدر مخاطرها بصورة مزمنة وإنه يجب التعامل معها بمزيد من الحذر. وقد حقق صندوق «يونيفرسال إنفستمنتس» الذي يرأسه ويبلغ رأسماله 5 مليارات دولار، أرباحا بنسبة تزيد على 100 في المائة في العام الماضي حيث راهن على احتمالية حدوث انهيار.

ويحذر طالب من أن النظام أصبح أكثر خطورة من الخريف الماضي. فسيؤدي الدعم الحكومي الشامل الذي بدأ بعد إفلاس «ليمان» بالمستثمرين إلى الافتراض بأن الحكومات ستمنع على الدوام المصارف الكبرى من الإفلاس.

لذا سيقدم المستثمرون قروضا إلى الصناعة المالية وفقا لشروط سهلة. وفي المقابل، ستستخدم المؤسسات المالية، تلك الأموال السهلة لتقديم قروض والقيام بعمليات شراء تحتوي على المخاطرة. وستحتفظ المصارف بالأرباح عندما تثمر مراهناتها، بينما يتكبد دافعو الضرائب الخسائر عندما تخسر تلك المراهنات وتهدد النظام.

ويصف خبراء الاقتصاد تلك الظاهرة بالخطورة الأخلاقية. ويوجد مصطلح آخر لدى مسؤولي المصارف وهو: «سأكون قد رحلت،» وهي العبارة التي تشير إلى أنه بحلول الوقت الذي تفشل فيه الصفقة سيكون المسؤول قد غادر بعد أن حصل على مكافأة كبيرة.

وعلى الرغم من توقعات العام الماضي بشأن تخفيض الرواتب، فإن تلك المكافآت ظلت في مأمن. وتوقع كيان أبو حسين، المحلل في «جي بي مورغان» في لندن، في الأسبوع الحالي، أن ثمانية مصارف أميركية وبريطانية كبرى ستدفع لموظفيها البالغ عددهم 141.000 في فروع المصارف الاستثمارية 77 مليارا عام 2011، أي نحو 543.000 دولار للموظف الواحد، وذلك ليس بعيدا عن المبلغ الكبير الذي كانت تدفعه عام 2007، حتى بعد تبني تغييرات تنظيمية ثانوية.

ويقول طالب إنه نظرا لحجم المكافآت، فلن تتغير المصارف إلا إذا أجبرها المنظمون والمشرعون على ذلك.

وقال: «لا أعلم أي شخص في وول ستريت يذهب إلى عمله كل يوم من دون أن يفكر في كيفية زيادة المكافأة التي يحصل عليها».

وتقول شيلا باير، رئيسة مجلس إدارة مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية، إنه من أجل منع حدوث أزمة العام الماضي، يجب أن يعلم المستثمرون في المؤسسات المالية، خاصة حاملي السندات، أنهم سيخسرون أموالهم إذا أفلست المصارف. وأضافت: «نحتاج إلى إرسال تلك الإشارة القوية والواضحة لإعادة الانضباط إلى السوق».

ولكن توقف التشريع الذي يسمح للمنظمين بغلق المؤسسات العملاقة بصورة منظمة منذ عدة أشهر. وكذلك توقفت الجهود المبذولة لإنشاء جهة تنظيم تركز على المخاطر العامة التي قد تقع بانتشار تأثير إفلاس مصرف واحد كبير.

ويتطلب تغيير آخر مقترح أن تدرج المصارف مشتقاتها وتتداولها عبر مقاصة مركزية، مثل الأسهم والخيارات المالية التي يتم تداولها عبر أسواق المال.

ويشمل مصطلح «مشتقات» مجموعة متنوعة من المنتجات المالية، منها عقود تتغير قيمتها مع تغير معدلات الفائدة، والتأمين الذي يسددها إذا حدث عجز في سداد السندات. وقد تسببت المشتقات في حدوث ازدهار قبل عام 2008 بتشجيع المصارف على تقديم قروض من دون وجود احتياطات كافية. وتسببت أيضا في تفاقم الأزمة في الخريف الماضي لأنها بطبيعتها تربط المؤسسات معا. وكان المستثمرون قلقين من أن إفلاس أحد المصارف سيؤدي إلى خسائر فادحة للمصارف الأخرى.

ويبدو اشتراط تداول المشتقات علنا تغيرا بسيطا نسبيا، ولكن من الممكن أن تكون له آثار مهمة.

وسيفتح التداول المجال أمام تسعير المشتقات فلا تتمكن المصارف من إخفاء مراكزها عندما تخسر المال. وسيكون على المصارف أن تقدم المال وفقا لمركزها، حيث إن سوق التبادل سيستحوذ على المشتقات غير المدعومة بهامش مناسب ويبيعها. وستساعد تلك الخطوة على تجنب الموقف الذي واجهته شركة «أميركان إنترناشيونال غروب» في العام الماضي، بعد أن قدمت تأمينا ائتمانيا بقيمة مئات المليارات من الدولارات ولم يكن لديها المال للوفاء بوعودها عندما حدث عجز في السداد. ولكن يقول النقاد إنه حتى التغييرات المقترحة لن تقدم ما يكفي، لأنها ستعفي بعض المشتقات المعقدة من عملية التداول أو المقاصة. بالإضافة إلى ذلك، تعارض بعض المصارف فتح عمليات تداول المشتقات، لأنها ستقلل من أرباحها بجعل الأسعار أكثر وضوحا وبذلك تعرضها للمنافسة. وحتى الآن، توقف التشريع الذي كان من المقرر أن يجبر على إدخال تداول المشتقات في نظام مفتوح، وما زالت المصارف تكتب عقودا مع إشراف تنظيمي محدود. وتقول باير: «ما زالت سوق المشتقات غير خاضعة للقانون».

* خدمة «نيويورك تايمز»