عاصمة أميركا المالية تنتقل من نيويورك.. إلى واشنطن

مؤسسات «وول ستريت» تفتتح مكاتب في العاصمة السياسية بعد أن أصبحت الحكومة شريكا وممولا

لقطة من صالة التداول في بورصة نيويورك للأوراق المالية (أ.ب)
TT

كان اجتماع مجلس إدارة «جي بي مورغان تشايس» خلال الصيف الجاري هو الأول من نوعه الذي يعقد في واشنطن (العاصمة السياسية)؛ حيث دعي المديرون لاجتماع في فندق «هاي آدامس»، ثم ذهبوا بعد ذلك إلى الكونغرس لحضور حفل استقبال.

وخلال الشهر الماضي، عينت شركة يديرها البليونير ويلبار روس، مدير كبرى شركات الرهن في واشنطن، لكي تفتش بين الحطام الذي خلفته الفقاعة العقارية بحثا عن صفقات ملائمة.

كما أضاف صندوق السندات «بمكو»، الذي كان يقوم في العادة بتقييم مخاطر أي استثمار جديد وفقا لخمسة معايير مالية، عاملا جديدا وهو مدى تأثر الاستثمار بأي تغير يطرأ على السياسة الفيدرالية.

وفي الوقت الذي بدأت فيه الشركات المالية تبحث عن مكان لها على مقربة من مساعدات الحكومة ورقابتها أكثر من قبل، توجهت تلك الشركات إلى واشنطن لكي تقلل المسافة التي كانت قبل ذلك أكثر من 228 ميلا تفصل العاصمة السياسية عن العاصمة المالية للدولة (واشنطن ونيويورك).

وقد اتجهت «وول ستريت» في أعقاب انهيار بنك «ليمان بروذرز» الاستثماري ـ الذي أدى إلى شل الأسواق العالمية وتزامن مع أكبر تدخل للحكومة في الاقتصاد في تاريخ الولايات المتحدة ـ جنوبا بحثا عن استراتيجيات عمل جديدة، وسياسات فيدرالية مختلفة، والعثور على مواهب جديدة.

يقول محمد العريان المدير التنفيذي لـ«بمكو»: «في الأيام الخوالي، كانت واشنطن تدير من الخارج، ولكنها تتجه الآن لكي لا تشارك فقط في الحكم من داخل الميدان، بل لأن تصبح لاعبا أساسيا. وهو ما يغير من توازنات المعادلة إلى حد كبير». لقد أصبحت واشنطن لاعبا أساسيا. فخلال العام الماضي ضخ مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة المالية تريليونات الدولارات في الأسواق المالية التي أصابها التجمد، كما حصلوا على السندات غير المرغوب فيها، وقدموا الضمانات للبنوك وخفضوا أسعار الفائدة.

وقد ذهب أكثر من ثلاثة أضعاف ما أنفقه العالم قبل عقد لإنقاذ كوريا الجنوبية التي ـ التي كان يقع ترتيبها في المرتبة الحادية عشرة ضمن أقوى اقتصادات العالم ـ من الأزمة المالية التي عصفت بها، لإنقاذ شركة تأمين واحدة عملاقة وهي شركة «المجموعة الدولية الأميركية». كما تكلفت خطة إنقاذ الشركات المالية التي وافق عليها الكونغرس في العام الماضي ما تكلفته السنوات الخمس الأولى من الحرب في العراق.

والآن فإن كل من وزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي قد أصبحا متورطين في كل شيء، بدءا من البطاقات الائتمانية، والقروض العقارية، وصناعة السيارات، ومراقبة رواتب التنفيذيين، وصولا إلى تشكيل مجالس الإدارة.

وبالتالي، عبر المديرون التنفيذيون الكبار للشركات المالية الكبرى لأول مرة الطريق الدائري لكي يلتقوا بالمشرعين شخصيا. كما بدأت شركات مثل «فيدليتي انفستمنت»، و«بي إن واي ميلون» و«غولدمان ساكس»، التي ازدهرت في ظل الأزمة المالية مقارنة بغيرها من البنوك، تتجه لفتح مكاتب إضافية في العاصمة أو لزيادة عدد الموظفين العاملين فيها.

ولعقود طويلة، لعبت الحكومة الفيدرالية الأميركية دورا محوريا في الأسواق المالية من خلال وضع ضوابط، وسياسات مالية وسياسات تتعلق بالإنفاق العام. كما أصبح دور الحكومة حاليا دورا محوريا كما لم يحدث من قبل؛ حيث أصبحت هي اللاعب الرئيسي في الاقتصاد الذي ما زال معتلا. ومن المؤكد أن هذه السمعة سوف تتلاشى عندما تتوقف برامج الإنقاذ، ومع ذلك يؤكد تنفيذيو «وول ستريت» أن النفوذ الذي اكتسبته الحكومة ربما يستمر.

فيقول أحد المديرين التنفيذيين السابقين بأحد المصارف: «إن العلاقة تغيرت بحيث أصبح من الواضح أن كلا من تلك الشركات بما فيها (غولدمان ساكس) تعي أنها لم تكن لتستمر ما لم تتدخل الحكومة».

وفي الوقت نفسه، فإن إدارة الرئيس باراك أوباما عازمة لكي تتجنب تكرار الكارثة على فحص الضوابط المفروضة على الشركات المالية والأسواق. وإذا ما أقرت الإدارة الأميركية بالفعل ضوابط جديدة، فسوف تؤثر على جوهر أعمال تلك الشركات، حيث سوف تغير نوعية الأنشطة التي تستطيع تلك الشركات ممارستها، والطريقة التي يمكن بها أن تغلق الشركات إذا ما تعرضت للمشكلات، ورأس المال الذي يجب أن يحصلوا عليه والذي يؤثر بشكل مباشر على الربحية وقدرتهم على الإقراض.

يقول ريتشارد إتش كلاريدا، مساعد وزير المالية خلال رئاسة الرئيس جورج بوش والذي يعمل حاليا كأستاذ للاقتصاد في جامعة كولومبيا: «لقد غيرت الأزمة وسوف تغير العلاقة بين (وول ستريت) وواشنطن لمدة عقود تالية. إنهم يقولون الآن إن (وول ستريت) لم تعد العاصمة المالية بل واشنطن، وهذا صحيح، بلا شك. ولا أعتقد أن ذلك سوف يتغير. بل سوف يصبح واحدة من حقائق الحياة الراسخة».

قبل الأزمة المالية، كان لورانس فينك رئيس «بلاك روك» لا يتحدث إلى المسؤولين الفيدراليين سوى عدة مرات قليلة في الشهر، فعلى سبيل المثال، عندما يتصلون به من نيويورك بشأن معلومات حول أسواق الرهن، أو صناديق المعاشات، أو غيرهما من المجالات التي تشارك فيها شركته بفعالية. ولكن الآن فينك الرئيس التنفيذي لأكبر شركات إدارة الأصول بالدولة يقول إنه يتصل بالمسؤولين على الأقل مرة يوميا. كما يخطط لكي يفتح مكتبا في واشنطن خلال العام القادم، كما أنه عين ويستعين بنفوذ شركة «كوين غليسبي وأسوشييتس».

قبل ثلاثة عقود، كان فينك من رواد تحقيق أرباح كبيرة من الرهون، ثم أصبح عليه أن يقسم تلك الأموال ويبيع حصصا كأوراق مالية. وأخيرا، جمعت الشركات قروض الرهن العقاري عالية المخاطر التي ارتفعت خلال انهيار السوق العقارية مما أشعل الأزمة.

وبالتالي فقد قررت وزارة المالية ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الاستعانة بخبرات فينك؛ فظهرت شركة «بلاك روك» كواحدة من المستشارين الرئيسيين حين كانت تلك الهيئات تحاول إنقاذ الشركات وحاولت أن تضع سعرا للأصول السامة. كما تدير كذلك شركة «بلاك روك» عشرات المليارات من الدولارات المستحقة من أصول المجموعة الدولية الأميركية. وفي أغسطس (آب) اختار المسؤولون الشركة لكي تساعد في إدارة عملية شراء ـ جزئيا باستخدام أموال دافعي الضرائب ـ الأصول السامة من البنوك. فيقول فينك: «لقد تصدينا للكثير من القضايا التي لا يستطيع فهمها الكثير من الناس».

وعلى الرغم من أن شركة «بلاك روك» التي تجنبت كارثة الأصول السامة قد عادت باختيارها إلى واشنطن، فإن بعض الشركات الأخرى أجبرت على العودة إلى واشنطن. فمثلا، سمح «سيتي غروب» لمستشاره العام بأن ينقل مكتبه من «ميدتاون» بمانهاتن إلى المبنى الملحق بمبنى الفنون الجميلة التاريخي بجادة بنسلفانيا، وليس البنك ـ رئيس مجلس الإدارة التنفيذي هو وزير المالية السابق روبرت روبت ـ غريبا على واشنطن. ولكن نظرا لتأثره إلى حد كبير بالأصول السامة خلال انهيار سوق العقارات، تلقى بنك سيتي غروب 45 مليار دولار كإعانة من وزارة المالية وفي المقابل منح الحكومة ملكية كاملة.

كما فتحت كل من «لون ستار فاند» شركة الأسهم الخاصة التي يقع مقرها في دالاس مكتبا لها في 13 من شارع الشمال الغربي لمستشاريها العموميين والتنفيذيين المصرفيين، في الوقت الذي تحاول فيه الشركة أن توسع استثماراتها لكي تشمل الأصول المتعثرة.

يقول مايكل ثومسون المستشار العام لـ«لون ستار» الذي كان يعمل كمسؤول مالي في إدارة كلينتون: «لقد أصبحت الحكومة الفيدرالية شخصية رئيسية في التجارة. كما أننا نريد أن نتأكد من أننا متوافقون معهم فعليا، وأننا قادرون على التواصل معهم. أتوقع أن نحافظ على وجودنا هنا ونتقدم. فسوف تغير الطريقة التي ندير بها الأعمال في الولايات المتحدة».

والأمر كذلك بالنسب لفينك، الذي قال إن الكثير يترتب على علاقته بواشنطن. كما أنه كان يتحدث في العادة إلى رام إيمانويل كبير موظفي البيت الأبيض، وإلى تيموثي غثنر وزير الخارجية وسابقه هنري بولسون. وكان فينك من أوائل الناس الذين تمت استشارتهم عندما احتاجوا نصيحة عاجلة بشأن تسعير الأوراق المالية غير المتداولة أو التنبؤ بحجم الخسائر العالمية الناجمة عن انهيار شركة مالية ضخمة مثل ليمان بروذرز.

يقول فينك: «سوف نمنح المزيد من طاقتنا إلى الحكومة، سواء من خلال مساعدتها أو ـ إذا ما طلب منا ـ من خلال وضع السياسات واتخاذ القرارات. فنحن ملتزمون نيابة عن عملائنا بأن ندلي بدلونا في واشنطن». قبل عام، كان جيمس لوكهارت هو المسؤول الفيدرالي عن مراقبة «فاني ماي» و«فريدي ماك»، وذلك عندما استولت إدارة الرئيس السابق جورج بوش على الشركتين العقاريتين، وبالتالي حمت السوق العقارية من الانهيار. وعندما قال لوكهارت خلال الشهر الماضي إنه سوف يترك منصبه في هيئة تمويل الإسكان الفيدرالية، تهافتت الشركات عليه حتى أصبح حاليا نائب رئيس «دبليو إل روس» التي تخطط لجني الأرباح من شراء أصول الرهن العقاري والقروض التي يعتبرها المقرضون غير مربحة.

لقد أصبح المسؤولون من أمثال لوكهارت من السلع الحيوية، فتبادل الأدوار بين الحكومة وقطاع المال ليس جديدا، ودائما ما كانت الصلات داخل واشنطن هي البطاقة الرابحة في القطاع الخاص. ولكن بعض التنفيذيين يقولون إن المؤهلات التي تحتاجها «وول ستريت» حاليا هي التفهم الكامل لكيفية إدارة المنظمين لسوق الرهون العقارية والتخطيط لتحويلها.

فيقول ويلبار روس الذي قام بتعيين المنظم السابق: «إن الخبرة هي ما نحتاج إليه. لقد فحص الكثير من القروض العقارية السيئة، كما أن له خبرة تنظيمية واسعة، ونحن مهتمون بخبراته على عكس صلاته».

ويتدافع بعض المسؤولين السابقين لكي يشاركوا في الحدث؛ فعلى سبيل المثال أنشأ جوزيف مروين الرئيس السابق لـ«جيني ماي» التي كانت تضمن الأوراق المالية المرتبطة بالقروض العقارية التي تدفعها الحكومة، وبرايان موتوغومري عضو إدارة الإسكان الفيدرالي السابق، مركزا استشاريا في شارع «إل» في منتصف شهر أغسطس (آب). وما زال باب شركتهما «كولينغ وود غروب» بدون لافتة، والجدران عارية. ولم تصل ماكينة القهوة إلا الأسبوع الماضي. ولكنهم يتلقون طلبات من المصرفيين والمستثمرين الآخرين خارج واشنطن الذين يبحثون على سبيل المثال عن شراء أو بيع محافظ القروض ويريدون عينا مدربة تساعدهم في تقييم مصلحتهم. وبالنسبة لشركة «روس»، أصبحت الحكومة نفسها شريكا أساسيا؛ فعلى سبيل المثال، طرحت الشركة محفظة القروض العقارية السامة التي جاءت من البنوك المتعثرة والتي باعتها مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية. كما اختارت وزارة المالية كذلك «دبليو إل روس» لكي تدير جهود الحكومة لشراء الأوراق المالية المضمونة بأصول. يقول روس: «إن واشنطن هي (وول ستريت) الجديدة، حيث لم تعد تتم أي معاملات مالية كبرى بدون تدخل واشنطن إلى الحد الذي أصبحت معه عنصرا رئيسيا في المعادلة».

البعيد عن النظر ليس بعيدا عن العقل.. في مكتب لوس أنجليس يجتمع مديرو شركة السندات العملاقة «بمكو» لمدة ثلاث ساعات، أربع مرات أسبوعيا، ليقوموا بتحليل الاستثمارات وتقييم العناصر مثل النمو المحتمل، والسمعة المالية الجيدة. ويبدو أن القرارات التي يتم اتخاذها على بعد ثلاثة آلاف ميل شرقا قد تزايدت أهميتها كذلك. فيقول العريان الرئيس التنفيذي: «يجب أن نفكر أكثر في دور الحكومة في الاقتصاد».

فعلى سبيل المثال، عرضت «بمكو» العام الماضي أن يتدخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي ـ الذي يسعى لدعم سوق الرهون العقارية ـ ويشتري الرهون العقارية. وبالتالي استفادت شركة السندات التي كانت تستثمر أموالها في الرهون عندما تدخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي بالفعل. وعلى النقيض من ذلك، تجنبت «بمكو» شراء سندات شركة «جنرال موتورز» في الشهور التي سبقت إنقاذ الحكومة للشركة، حيث تخوفت «بمكو» من أن يعاني حاملو السندات من استيلاء الفيدرالية علي الشركة ثم بدأوا في الشراء بعد ذلك.

وكلما ازداد تطلع الشركات المالية إلى واشنطن، استخدمت الحكومة الفيدرالية تلك الأداة الجديدة لكي تطلب من «وول ستريت» أن تبدي تفهما فيما يتعلق ببعض الصفقات المستقبلية، مثل تعيين كبار الموظفين ودفع مكافآت كبيرة للتنفيذيين.

ولم يكن هناك من قبل أي مسؤول عام في وضع يسمح له بالإدلاء بتلك المعلومات الشخصية، وهذا التغير وحده يشهد على تغير شروط تلك العلاقة الجديدة.

وكما تقول إحدى الشخصيات البارزة بجماعات الضغط المالية: «تحاول تلك الصناعة جاهدة أن تعطي صانعي السياسة بوزارة المالية وغيرها المعلومات التي يحتاجون إليها.. وأي شيء آخر يمكن أن يفيدهم».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»