الأزمة الاقتصادية العالمية تثقل «القارة العجوز».. ومخاوف من تأخرها في استعادة عافيتها

فيما بدأت آسيا وأميركا استعادة انتعاشهما

مقر البنك المركزي الأوروبي بفرانكفورت («الشرق الأوسط»)
TT

منذ عامين، كانت أوروبا تنمو بمعدل أسرع من الولايات المتحدة، وبدت «القارة العجوز» أخيرا على استعداد لتناول التحديات القائمة أمامها منذ أمد بعيد، مثل افتقار سوق العمل إلى المرونة وخروج الإنفاقات الحكومية عن السيطرة وتقدم أعمار شعوب القارة.

إلا أنه في الوقت الذي بدأت آسيا والولايات المتحدة في التعافي من الأزمة الاقتصادية العالمية، يبدو أن أوروبا ستسير بتثاقل على طريق استعادة عافيتها الاقتصادية، مما يهدد بالعودة إلى الفترة الحالكة التي وصفها البعض بـ«التصلب الأوروبي». والملاحظ أن قادة كانوا يتحدثون في وقت من الأوقات بنبرة متفائلة عن إجراء تغييرات جوهرية ترمي لتعزيز الإنتاجية تحولوا إلى مهام أكثر واقعية تتمثل في حماية الوظائف وتجنب خيارات سياسية مؤلمة. من جهته، علق غيليز مويك، الخبير الاقتصادي البارز لدى «دويتش بانك»، بقوله: «إن هذا أسوأ من العودة إلى المربع 1». ورغم الحاجة الملحة لها، تبدو الإرادة السياسية الضرورية لتناول المشكلات الاقتصادية الأوروبية الأكبر غائبة، طبقا لآراء الكثير من الخبراء بمختلف أرجاء المنطقة وحول العالم. يذكر أنه لدى انتخابه رئيسا لفرنسا عام 2007، تحدث نيكولا ساركوزي عن الحاجة إلى إحداث «انفجار»، بما في ذلك التخفيف من حدة التنظيمات الصارمة التي تحكم سوق العمل بهدف المنافسة على نحو أفضل في الاقتصاد العالمي. والآن، يرى تشارلز ويبلوسز، مدير «المركز الدولي للدراسات النقدية والمصرفية» في جنيف، أن «موقف الرئيس ساركوزي تحول، إن لم يكن بنسبة 180 درجة، فبنسبة 90 درجة على الأقل في الاتجاه المعاكس. إن الأمور التي تحدث عنها آنذاك لا يزال من الضروري تنفيذها الآن إذا رغبنا في تحقيق نمو، لكن الأزمة تسببت في تباطؤ بعض الزخم من أجل التغيير».

في ألمانيا، عمدت أنجيلا ميركل، التي انتخبت مستشارة للبلاد لفترة ثانية الشهر الماضي، أيضا إلى تجنب الشروع في تناول القضايا المتعلقة بالنقابات القوية والمصارف الإقليمية. المعروف أن ميركل كانت اعتنقت فكر «اقتصاد السوق الاجتماعي» وشددت على أنه ما من بديل عن الاعتماد على الصادرات بدلا من المستهلكين لدفع عجلة النمو.

إضافة إلى ذلك، تعرضت حكومتها لهجوم شديد من قبل دول أخرى في أوروبا لتوفيرها مساعدات تقدر بمليارات اليورو للإبقاء على شركة «أوبل» لصناعة السيارات على حساب تسريح محتمل للعمالة في بلجيكا وبريطانيا وأسبانيا. مع معاناة أوروبا من قدرة تصنيعية إضافية مفرطة، من المحتمل أن تعاني الشركات الأخرى المصنعة للسيارات مزيد من الخسائر. في أعقاب ازدهارها هذا العام نتيجة الحوافز المرتبطة بسياسة «النقد مقابل سيارات الخردة» داخل الكثير من الدول، من المتوقع تراجع مبيعات السيارات في أوروبا الغربية بنسبة تتراوح بين 5% و6% العام القادم، طبقا لتقديرات «كريديت سويس». داخل ألمانيا، حيث تعد صناعة السيارات رمزا مثل تناول الجعة في مطعم «أوكتوبيرفيست»، يتوقع «كريديت سويس» انحسار مبيعاته إلى المشترين الأفراد بنسبة 21%، مقابل زيادة متوقعة بقيمة 18% في الولايات المتحدة.

من ناحيتهم، يعتقد المحللون أن الخطر لا يقتصر على صناعة السيارات، مشيرين إلى أن اختبارات القدرة على تحمل الضغوط التي خضعت لها المصارف الأوروبية في الفترة الأخيرة لم تكن على نفس مستوى فاعلية نظيراتها في الولايات المتحدة.

رغم الخسائر المتعلقة بكل من الديون الأميركية عالية المخاطر والقروض المحلية داخل «اقتصاديات الفقاعة» بكل من إسبانيا وأيرلندا ودول البلطيق التي تتسم بدورات متعاقبة من الازدهار والكساد، «لم يمر النظام المصرفي بإعادة هيكلة حقيقية»، حسبما أكد نيكولا فيرون، الباحث لدى «بروغيل»، مركز دراسات سياسية في بروكسل. وعليه، تجابه أوروبا مخاطرة تكرار «العقد المفقود» في اليابان خلال التسعينات، عندما تسببت الخسائر الضخمة في تجمد الموازنات المصرفية وأعاقت إجراءات الإقراض الجديدة.

ويعد هذا التباطؤ الاقتصادي تحولا مفاجئا عما ساد الفترة السابقة لوقوع الأزمة. على سبيل المثال، حققت أيرلندا نموا اقتصاديا بنسبة 5% خلال الفترة بين عامي 1999 و2007، وباتت تعرف باسم «النمر السلتي»، بينما تراجعت معدلات البطالة خلال فترة النمو المستمر في أكبر اقتصاديات أوروبا، ألمانيا وفرنسا. في إطار مشاعر التشاؤم المسيطرة، صدرت إحصاءات جديدة، الأربعاء، أظهرت انكماش اقتصاديات منطقة التعامل باليورو خلال الربع الثاني من العام بنسبة 0.2%، مما يعد أسوأ مما كان متوقعا. من ناحيته، أكد سيمون جونسون، بروفسور بـ«مدرسة سلوان للإدارة» التابعة لـ«معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، أن «الأوروبيين يخسرون حاليا. إنهم أكبر الخاسرين جراء الأزمة الاقتصادية، رغم أن موطن جنون الإجراءات عالية المخاطر كان الولايات المتحدة». إلا أن الاقتصاد الأميركي لم يتعافَ تماما مما ألم به بعد، حيث لا تزال معدلات البطالة في ارتفاع، ولا يزال ملاك المنازل يحملون على عاتقهم عبء ديون الرهن العقاري. ولا تكشف واشنطن سوى عن تفاصيل ضئيلة بشأن كيفية معالجتها العجوزات الضخمة في ميزانيتها الحكومية.

يعكس ارتفاع اليورو مؤخرا في مواجهة الدولار، يعكس في معظمه وجود معدلات فائدة أعلى بالقارة الأوروبية، وليس مشاعر تفاؤل إزاء إمكانات القارة. علاوة على ذلك، فإن العملة الأقوى تحد من قدرة الصادرات الأوروبية على المنافسة عالميا. طبقا للأرقام الصادرة عن منظمة التجارة العالمية، تقلص نصيب منطقة اليورو في التجارة العالمي إلى 28% عام 2008 بدلا من 31% عام 2004. ومن المتوقع استمرار انكماش اقتصاديات إسبانيا وأيرلندا واليونان خلال عام 2010، بينما ستحقق ألمانيا، المحرك الاقتصادي للمنطقة، 0.3% بعد نضال شديد، طبقا لما أوردته توقعات جديدة متشائمة صدرت عن صندوق النقد الدولي.

من ناحية أخرى، توحي مؤشرات بأن الأداء الاقتصادي الأوروبي الهزيل سيترجم إلى تراجع في النفوذ السياسي. يذكر أن الدول الأوروبية تتمتع بصوت بالغ الضخامة داخل «مجموعة الدول الـ7»، المنتدى الاقتصادي العالمي الرئيس منذ منتصف السبعينات. إلا أنه أواخر الشهر الماضي، قال زعماء العالم إن نادي النخبة هذا ستتراجع مكانته قريبا لصالح «مجموعة العشرين»، وهي منتدى عالمي أوسع نطاقا يضم اقتصاديات عملاقة ناشئة مثل البرازيل والصين والهند.

رغم طابعه الرمزي، فإن هذا التحول من «مجموعة السبعة» إلى «مجموعة العشرين» يجسد مخاوف بأن الاقتصاد العالمي بات يجري توجيهه فعليا من قبل ما أطلق عليه فريد بيرغستين، مدير «معهد بيترسون للاقتصاديات الدولية»، «مجموعة الاثنين» ـ الولايات المتحدة والصين. وأوضح بيرغستين أنه «في ظل الظروف المثالية، سيتمثل المحرك في «مجموعة الثلاث»، لكن أوروبا لا تتحدث بصوت واحد ولا يمكنها تنسيق سياساتها والعمل على غرار الولايات المتحدة أو الصين».

إلى جانب ذلك، أصابت الأزمة الاقتصادية جهود أوروبا لتناول العوامل طويلة الأمد المعيقة للنمو، مثل تقدم أعمال القوة العاملة وتباطؤ النمو السكاني في الكثير من الدول، بالشلل.

على مدار الأعوام الـ 25 القادمة، من المتوقع أن تزيد أعداد سكان أوروبا الغربية بنسبة 0.7% فقط، ليصلوا إلى 189.8 مليون نسمة، بارتفاع عن المستوى الراهن البالغ 188.5 مليون نسمة، مقارنة بزيادة قدرها 20% داخل الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها، طبقا للتوقعات الصادرة عن الأمم المتحدة. وعلى مدار الفترة ذاتها، تتقدم أعمار السكان عبر مختلف أرجاء المنطقة، من الحدود الروسية حتى المحيط الأطلسي.

يعد السبيل الأمثل لتعويض التقدم في أعمار السكان ـ وبالتالي تضاؤل أعداد الأيدي العاملة ـ رفع مستوى الإنتاجية. بيد أنه حتى هذا المؤشر أيضا يتحرك في اتجاه خاطئ، فبعد ارتفاعها بدرجة بالغة في السبعينات والثمانينات، شهدت معدلات الإنتاجية على مدار العقد ونصف العقد الماضيين ارتفاعا بمعدل 0.9% سنويا في أوروبا، مقارنة بـ1.7% في الولايات المتحدة، حسبما قال مويك.

وأضاف: «نمو معدل الإنتاجية داخل الولايات المتحدة لم يكن مذهلا في الفترة الأخيرة، لكنه جاء أفضل بكثير عن أوروبا. كما أن الولايات المتحدة لا تجابه مثل هذه المشكلة الديموغرافية الهائلة. حتى الآن، كنا نفكر بأمر القضية الديموغرافية كنظرية، لكن تداعياتها بدأت تؤلم بالفعل».

على المدى البعيد، من المحتمل أن يدفع هذا الوضع العمال لإعادة النظر في الإعانات الاجتماعية السخية التي يتلقونها والإجازات الطويلة وخطط التقاعد المبكر التي كانوا يعدونها أمرا مضمونا تماما في يوم من الأيام.

من جهتها، خططت لويز ريتشاردسون، 65 عاما، للتقاعد مبكرا من منصبها كرئيسة تنفيذية لـ«أولدر ويمن نتورك»، وهي منظمة خيرية مقرها دبلن. الآن، بات لزاما عليها إرجاء هذا القرار لمدة عامين على الأقل بسبب تداعيات الأزمة المالية على مدخراتها لفترة التقاعد.

وقالت: «لا يمكنني التقاعد. ليس بوسعي تحمل تكاليف هذا القرار. لقد دمرت مدخراتي تماما، وتلاشى المال». يذكر أن ريتشاردسون أرملة انكمشت مدخراتها إلى 80.000 يورو، أي ما يعادل 118.000 دولار، من 240.000 يورو على مدار العقد الماضي.

*خدمة «نيويورك تايمز»