البراغماتي الأكبر في آسيا.. ونظرية «لايهم لون القط»

نصف العالم الآسيوي الجديد (2)

TT

يظهر الكتاب في مواضع عديدة أهمية البراغماتية في النهضة الآسيوية المعاصرة، ويحتفي بها احتفاءً كبيراً. فالبراغماتية بمعنى المرونة في اتخاذ الإجراءات لتحقيق أهداف السياسة، تجد مثالها في البراغماتي الأكبر في تاريخ آسيا، وهو الزعيم الصيني «دنج زياو بنج»، والذي قدم تعريفاً للبراغماتية بالمثال الذي أصبح مشهوراً ونصه «لا يهم لون القط إذا كان أسود أو أبيض، فطالما يصطاد فئرانا فهو قط جيد». وقد وجدت هذا المثال من المقتطفات المأثورة المعلقة على جدران حائط معهد «لي كوان يو» للسياسات العامة في سنغافورة.

والبراغماتية الآسيوية اعتمدت على انفتاح العقل أمام التجارب الأفضل، وقبولها ومحاولة تطبيقها بما هو أفضل. وربما تكون أهم زيارة أحدثت تحولا في تاريخ ومستقبل أمة هي تلك التي قام بها «دنج زياو بنج» إلى كل من بانكوك وكوالالمبور وسنغافورة في نوفمبر 1978، والتي مهدت للتحول الأكبر في الصين في عام 1979، باعتمادها على اقتصادات السوق وتشجيع الاستثمارات الخارجية في إطار تحقيقها لبرامج التحديث الأربعة التي أشرت إليها.

حدثني أحد كبار المسئؤولين في سنغافورة بأن الزعيم الصيني «دنج زياو بنج» قد تعرض لصدمة كبرى بعد زيارته للعواصم الآسيوية الثلاث، وخاصة سنغافورة، إذ كان يتوقع أن يرى مدناً من مدن العالم الثالث، ولكن وجد شيئاً آخر أكثر تقدماً.

وقد قال له «لي كوان يو»، رئيس وزراء سنغافورة في هذا الوقت ورائد نهضتها، إن ما تحقق في سنغافورة قام به صينيون مثلكم، بل هم من بسطاء الصينيين الفلاحين والمهاجرين، وليسوا من «المندارين»، فإذا تحقق ذلك في سنغافورة فيمكن للصين أن تحقق مثله.. وكان ذلك ما تحقق فعلا بداية من الساحل الجنوبي الشرقي للصين وأخذ ينطلق في كافة أنحائها.

ولكن ما فعله الرفيق الصيني لم يكن عمل فرد منفرد، بل عمل حزب ودولة أشعلت التنافس بين مقاطعاتها لتتبنى المنهج الجديد، واستخدمت اللامركزية بفاعلية في تنفيذ وتطبيق القرارات التي تم اتخاذها في المركز. فالصين في تقديري تعطي واحدة من أفضل النماذج لقوة الدولة المركزية، ومرونة التطبيق من خلال اللامركزية التي يشرف عليها المركز دون تعويق بيروقراطي، أو تضييق على الأقاليم والمقاطعات في الموارد البشرية والمالية المطلوبة لإحداث التنمية. ويقوم الحزب الشيوعي الصيني من خلال قياداته على مستوى المقاطعات بمهمة كبرى في الإشراف وإحداث التوازن المطلوب في مسيرة التحديث وتحديد الأولويات وإثابة المتميزين وحساب المخطئين. كما لم يفت «دنج زياو بنج» ورفاقه، وكذلك من جاء بعدهم من القيادات، بأن يحدثوا ثورة ثقافية جديدة لتبني اقتصادات السوق المدفوع بالاستثمارات الخارجية والمحلية الممولة بأعلى معدل ادخار في العالم. واستخدم «دنج زياو بنج» عبارات قوية وصادمة للصينيين من خلال خطبه ووسائل الإعلام.. كقوله «أن تكون غنياً فهذا شيء عظيم» وذلك في مجتمع تربى في أحضان الثورة الشيوعية وتعاليم «ماوتسي تونج».

ولم يتردد «دنج زياو بنج» من أن يذكر إعجابه بسنغافورة، التي كانت توصف في الصحف الصينية قبل زيارته لها بكل نقيصة، ويوجه أبناء شعبه للتعلم من سنغافورة التي «تتمتع بنظام اجتماعي محكم وجيد، وتدار شئونها بحكمة.. علينا أن نتعلم منها ونتعرف على تجربة أهلها.. وأن ندير الأمور بشكل أفضل منهم». وسرعان ما تغيرت لغة الصحافة في الصين عن سنغافورة لتذكرها بأنها مدينة جميلة.. مدينة كالحديقة.. بها إسكان عام متميز.. ومدينة نظيفة للغاية.

لقد غير «دنج زياو بنج» توجه الصين، الذي غير وجه العالم وأوضاعه وموازين القوة فيه. لقد غير الرفيق الشيوعي سياساته بعدما بلغ من العمر 74 عاماً، وتبنى سياسة للانفتاح، وهو من لم يعلم في حياته غير الشيوعية، وأقنع رفاقه بالطريق الجديد، وغير الإعلام واستخدمه ليقنع ألف مليون مواطن بالمنهج الجديد، موجهاً لهم بالامتناع نهائياً عن استغراق الوقت فيما لا يفيد والجدل حول الاشتراكية والرأسمالية، داعياً لأن يُستغرق الوقت والجهد في تحقيق إصلاحات أكبر وأسرع وأعمق.

وأخذ يحذر من الدول الأصغر المحيطة بالصين، والتي حققت طفرة في النمو والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وتطوير في البنية الأساسية وجذب الاستثمارات والشركات الكبرى، سبقت بها الصين في التنمية الاقتصادية، وأن فشل الصين في اللحاق بهم هو ما يستحق الندم عند عقد المقارنة بين الصين وجيرانها. وعلى ذلك، نادى «دنج زياو بنج» بأن أي فكرة من شأنها أن تحقق التنمية ينبغي عدم عرقلتها، بل يجب تطبيقها وبأقصى سرعة، ومذكراً بأن بلاده قد تكون لديها الفرصة اليوم.. ولكنها لن تتكرر غداً.. ولن تعود أبداً.

ويذكر أن الصين قد استعانت بأحد الخبراء السنغافوريين هو الدكتور «جوه كنج سوييي» كمستشار اقتصادي لمجلس الدولة الصيني، وخاصة فيما يتعلق بتطوير الساحل الصيني في الثمانينيات، وهنا تأتي فكرة تعلم دول الجوار من بعضها. فهذا الخبير من أكثر المستشارين اقتناعاً بتجربة اليابان في عهد «المدچي» في السبعينيات من القرن التاسع عشر، حيث أرسل الإمبراطور الياباني خبراءه إلى أمريكا، فرجعوا منبهرين بما شاهدوه من تقدم في العلوم والسكك الحديدية والأسلحة والطرق المضاءة بالغاز، بل والمنازل التي بها حمامات بداخلها، ولم يكن هذا حال اليابان وقتها، ولا منازل أهلها.

إذن، فعدوى التقدم قد انتقلت من أمريكا إلى اليابان في أواخر القرن التاسع عشر، ونقلتها سنغافورة عنها. ولم تكن وحدها، فكوريا أيضاً أصابتها هذه العدوى من قبل، وهو ما حقق لها طفرة كبرى منذ الخمسينيات والستينيات واستمرت بعدها. ثم تجد «مهاتير محمد» رئيس الوزراء الماليزي الأشهر يفسر لك برجماتية سياساته الاقتصادية، بأن على ماليزيا أن تنظر إلى الشرق وتتعلم من اليابان وكوريا الجنوبية. وها هي الصين في السبعينيات تنقل عن سنغافورة، الناقلة عن اليابان، التي نقلت من أمريكا أساليب التقدم ومناهجه وتطوعها. ثم تأتي الهند، قبل أن يفوتها قطار التقدم، في مطلع التسعينيات لتتبنى مثل هذه الأساليب. وعندما هاجم اليساريون «مانموهان سنج» وزير المالية الهندي وقتها ورئيس الوزراء حالياً، على تشجيعه للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ستجعل الهند خاضعة للنفوذ الأمريكي، استشهد بسنغافورة الدولة ذات الخمسة ملايين نسمة والتي استطاعت أن تخالف وتعارض السياسات الأمريكية في أكثر من مناسبة وموضوع، رغم أنها الأكثر استقبالا ـ بمعيار متوسط نصيب الفرد ـ للاستثمارات الأجنبية في آسيا. مدللا بذلك على أن قبول الاستثمارات الأجنبية «برجماتياً» لا يعني فقدان الاستقلال السياسي لبلاد.

وتطورت الهند بفضل هذه السياسات على نحو غير مسبوق، ونضجت شركاتها، وازدادت حجماً وطموحاً، فها هي شركة «تاتا» الهندية للصلب تشتري شركة الصلب البريطانية «كوروس» بحوالي 12 مليار دولار عام 2007. ويروي «راتان تاتا» رئيس هذه الشركة قصة ملخصها أنه لزمن طويل طاف أرجاء الهند محاولا إقناع الناس ليتعلموا من سنغافورة، فكان الرد دائماً كيف للهند الكبيرة أن تتعلم من سنغافورة الصغيرة؟ وما الذي يمكن أن تتعلمه الهند الكبيرة من سنغافورة؟

ولكن بعدما ظهرت معالم الانطلاق في الصين، التي نقلت تجربة سنغافورة، لم يعد بمقدور أحد أن يقول إن الصين، الضخمة بشراً وحجماً، صغيرة بما لا يمكن للهند التعلم منها. وبدأت الهند مسيرة للانفتاح في عام 1991 تحت ضغط من أزمة كبرى في ميزان المدفوعات، ولكن لا يمكن إغفال الدروس الصينية للهند في هذا الانفتاح، الذي جعل إحدى شركاتها، بعد أقل من عشرين سنة من الإصلاح والتحرير، تنطلق بمعدلات نمو عالية وأداء اقتصادي سمح لها بأن تستحوذ على شركة كبرى في الصلب، كانت تمتلكها بريطانيا التي احتلت الهند حتى قبل هذه الصفقة بستين عاماً.

ولا يعلم من الهنود، إلا قليلا، أن هذه النهضة الاقتصادية التي تشهدها بلادهم كانت بفضل السياسات التي تعلموها من الصين «الكبيرة» التي نقلتها عن سنغافورة «الصغيرة»، وأن سنغافورة قد تعلمت من اليابان. ولكن يعلم الهنود، إلا قليلا، أنهم بدون هذه السياسات لأصبحوا في أوضاع اقتصادية واجتماعية أدنى، ولوقعوا في خطر المتروك وحده، الذي هجره من حوله في رحلة إلى التقدم والنمو.

* مآخذ على كتاب «نصف العالم الآسيوي الجديد»

* رغم إعجابي بما ورد في الكتاب ومنهجه في الشرح ويسر أسلوبه ومزجه بين خبرات الباحث الدارس والدبلوماسي المطّلع، فإن الكتاب تؤخذ عليه أمور عدة في التحليل والانحياز والعرض، أوجز منها ما يأتي:

حقيقة «آسيوية» التقدم الآسيوي أغفل الكتاب أن التقدم الآسيوي، ومثاله الأكبر الصين، يعتمد اعتماداً كبيراً، حتى الآن، على الاستثمارات «الغربية» الأمريكية والأوروبية، وكذلك الأسواق «الغربية» في تصدير المنتجات التي يأتي أكثر من نصفها من خلال شركات تعمل في الصين، ولكنها غربية المنشأ ومملوكة بالكامل «للغرب» أو على الأقل بالمشاركة معه، والذي يشير الكتاب إلى تقدم الشرق الآسيوي الوشيك عليه. كما يغفل الكتاب أيضاً أن حلقات الوصل بين الشرق والغرب تنعقد من خلال الاستثمارات والقروض الآسيوية المتدفقة إلى الغرب، وخاصة من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن تحليل الكتاب ما زال متأثراً بالفصل الكلاسيكي للاقتصاد العالمي، قبل العولمة الراهنة، وأغفل تعقد دوائر العلاقات، والاعتماد والتأثر المتبادل بين أطراف العلاقة الاقتصادية. فالصعود الآسيوي يتضمن صعوداً غربياً، والدليل على ذلك أنه عند انهيار أسواق الغرب في سبتمبر 2008، لم تفد نظريات «عدم الارتباط»، التي روجتها بعض بنوك الاستثمار والمؤسسات الدولية، في حماية الاقتصادات الآسيوية منه، التي عانت من تراجع في معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وإفلاس شركات، وتسريح عمالة، واضطراب للأوضاع الاقتصادية بها.

* التعميم فيما لا يجوز فيه إلا الفصل والتحديد

* يتكرر الحديث في الكتاب عن شرق صاعد وغرب تتنازعه قيم رفيعة لفلاسفته، ومادية حكامه وقيادات شركاته. ولعل الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، فالشرق الآسيوي لا يخلو من عناصر للاختلاف بين بلدانه تضرب في عمق تاريخها، وعبرت عنها بمعارك وحروب، ونزاع حول الحدود، ومطالبات بمقاطعات، ونزوح أقليات تشعر بالاضطهاد رغم أنها آسيوية في النهاية. وفي حين يسعى الحكماء وأهل الرشد مغالبة عناصر الفرقة بما يجمع هذه البلدان على مصالح مشتركة ومنافع متبادلة، تتأجج ذاتياً، ومن حين لآخر خارجياً، نيران النزاع والصراع. وفي لعبة الأمم ستزداد المحاولات في المستقبل باستدعاء خلافات الماضي لتعوق مسيرة التقدم والصعود الآسيوي.

ويعترف الكاتب بأنه متفائل، ويستبعد، من خلال تفاؤله واعتقاده في سحر البراجماتية، التي تستدعي القبول بالواقع والتعامل مع الآخر، المواجهة بين الشرق والغرب. ويبشر محبوباني بـ«انصهار ثقافي» مدفوع باحتضان الآسيويين للقيم السبع للغرب. ولكن لا يُذكرنا الكاتب بأي قيمة من القيم الآسيوية التي قد تستدعي خلافاً، ولو محدوداً، مع الغرب.

وكما فعل الكاتب بالشرق في الوقوع في خطأ التعميم بين بلدانه، لم يبخل على الغرب بمثل هذا التعميم.. فالغرب من وجهة نظره هو غرب واحد، حيث تغرب الشمس جغرافياً لتضم الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا، ولا بأس من إضافة استراليا ونيوزيلندا لأسباب تاريخها الأنجلوساكسوني. ثم تجد الكاتب وقد تملكته الحيرة فيما يفعل باليابان فهي مرة ليست غربية، ومرة تجمع بين آسيا والغرب.

ثم رغم إعلانه تفاؤله بعدم المواجهة، يأتي في مواضع مختلفة في الكتاب ليذكر أن العقل الغربي لا يتمتع بالإحساس بالغير، فهو لا يرى غير نفسه وما يخصه وغير مقدّر للثقافة الآسيوية، وخائف من المستقبل. أليس ببعض هذه الخصائص والصفات تحدث المواجهة؟

* الإفراط في الانحياز

* ودون دليل واضح، يأتي الكاتب بنتيجة مفادها أن الآسيويين أقدر على حل مشكلات العالم وجعله أكثر استقراراً وأمناً، مستنداً إلى تجربة «الآسيان»، وهي المنطقة التي تضم دول جنوب آسيا، في إقرار ثقافة السلام. وربما تكون هذه المنظمة قد حققت لأعضائها مجالات للتعاون في التجارة والاستثمار والتمويل، ولكن لا تعطي الدليل الذي قد يساق في أن الآسيويين قادرون على حل مشكلات العالم ومعضلاته، بما في ذلك مشكلة الشرق الأوسط العتيدة النابعة من القضية الفلسطينية والتي نشبت منذ احتلال فلسطين في عام 1948. وإن كان في موضع من الكتاب يؤيد «حل الدولتين» والرجوع إلى اتفاق طابا الذي احتضنته مصر في عام 2001.

ولا يخفي محبوباني انحيازه للآسيويين حتى عند احتلالهم للبلدان، فيخبرك عن «كفاءة» الاحتلال الياباني لسنغافورة أثناء الحرب العالمية الثانية! وكيف أن ثلاثين ألفاً من اليابانيين هزموا وأسروا تسعين ألفاً من البريطانيين، ولكنهم لم ينسوا في زهو النصر وتعقب البريطانيين في جزر جنوب شرق آسيا، من أن يجعلوا هناك في سنغافورة كتيبة لحفظ الأمن والنظام ومنع الفوضى، التي كانت ستسببها هزيمة البريطانيين وأسر جنودهم، ويقارن ذلك بخيبة الأمريكان في العراق الذين لم يعتنوا بحفظ القانون والنظام، وينتقد «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع الأمريكي السابق، الذي رد على تعليق الصحفيين بأن بغداد تسرق ومتحفها ينهب بقوله «إن مثل هذه الأمور تحدث». ولكن أين ذلك ـ في رأي «محبوباني» ـ من اليابانيين الذين حافظوا على التراث القومي لسنغافورة، بما في ذلك حدائقها التاريخية! وفي رأيي أن الكاتب قد خانه التوفيق في هذا الأمر، حيث يتعامل مع مسألة الاحتلال برمتها ببساطة شديدة، وفي رأيه أن «الغزو والاحتلال من الأمور المعتادة في التاريخ»، ويبدو أنه لا يشغله في الاحتلال إلا قدرة المحتل على حفظ الأمن والنظام والثروات التاريخية والعناية بالحدائق الغناء في البلاد التي يحتلها لسبب أو لآخر.

ولا ريب أن غزو العراق وما ترتب عليه من كوارث ومصائب كبرى، قد يوصف، مع التحلي بدبلوماسية «محبوباني»، بالخيبة. ولكن اندفاع الكاتب، وهو في سياق عرضه لمحاسن الآسيويين مقارنة بالغرب، تسبب في هذا الخطأ في العرض والتحليل، وكنت أربأ به أن يتعامل مع قضية الاحتلال بمفهوم «الكفاءة». ويبدو أن الكاتب أصلا غير منشغل بالإجابة عن سبب مجيء الاحتلال، وما يحيط به من قتل وسلب ونهب وتعطيل للقوانين واعتداء على الحريات، باستثناء ما يراه المحتل لازماً لتوجهاته.

ومن عجب أن ينوه بالمحتل، الذي يسرق البلد في وضح النهار، بمنعه الغوغاء من سرقة مقتنيات المتاحف، وبحمايته للحدائق من عبث الدهماء. ولا يتعرض الكاتب لقضية انتهاك المواثيق والأعراف، بما في ذلك مواثيق الحروب من قِبل آسيويين أثناء حروب شهدها تاريخ آسيا القديم والحديث.

* تجاهل باقي دول العالم

* والعالم عند «محبوباني» في العرض العام للأفكار مكون من آسيا الواحدة الصاعدة والغرب الرابض لها، والمستقبل واقع بين احتمال المواجهة المدفوعة بعدم تقبل الغرب للصعود الآسيوي، أو احتمال عدم المواجهة المدفوع بالتسامح وقبول الآخر والانصهار الثقافي، أما باقي العالم بما يشمله من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط ودول الاتحاد السوفيتي السابق بما في ذلك روسيا، فهو يلعب دوراً هامشياً في لعبة الأمم، فهو بين متفرج على اللعبة، أو لاعب لبعض الوقت كمساند للاعبين الرئيسيين، أو ملتقط للكرات التي قد تنحرف عن الهدف أو حدود الملعب، أو معد لأرض الملعب الذي يجري عليه التنافس بين آسيا والغرب. وفي هذا إغفال لمئات الملايين من البشر، وتجاهل لقوى اقتصادية صاعدة، ذات تأثير إقليمي ودولي له شأنه.

لقد أصاب «محبوباني» عندما ذكر أن ترتيبات الأوضاع في العالم ومؤسساته لا يمكن أن تستمر عند اتفاقات وترتيبات وأوضاع تكونت وسادت مع الحرب العالمية الثانية، ولا يمكن لأقل من 12% من سكان العالم الاستمرار في التحكم في مصائر أغلبية سكانه، وخاصة أن نصيب الغرب في الاقتصاد أصبح يقل بشكل مطرد عما كان عليه، وبعدما كان مهيمناً أصبح يشكل أقل من 50% ويقل عن ذلك نسبياً في كل عام يمر، وقد عجلت الأزمة المالية العالمية بمعدل هذا الانخفاض والتراجع. ولكن البديل لن يكون ببساطة ما يعرضه الكاتب، من تحول للدفة من تحكم الغرب فيها إلى تحكم آسيا. فباقي العالم لن يقف ساكناً متابعاً تحولات دفة الاقتصاد العالمي من ربان إلى ربان دون أن يحرك ساكناً. فتشابك مصالح دول العالم بعد موجات الاندماج والعولمة أصبح أكثر تعقيداً، وشروط التحديث والتقدم غير عسيرة التطبيق والفهم على الأمم ذات الإرادة في الأخذ بأسباب النمو والتنمية.

* من «شارع العرب» إلى مضمار «فورميلا (1)»

* لقد مرت الساعات سريعة، وأوشك فجر يوم جديد أن تظهر بوادره في سماء سنغافورة، لتبدأ حركة العمل الدءوب، الظاهرة في سرعة حركة الناس والسيارات في الشوارع، انتقالا من مكان إلى مكان. وها هو صاحب مقهى «شارع العرب» الذي أجلس فيه، يأتي مبتسماً، مشيراً إلى ساعته بأن حان موعد انصرافه. وتذكرت فروق التوقيت بين القاهرة وسنغافورة، وأنه لن يكون لديّ إلا ثلاث ساعات للنوم والراحة قبل أن أبدأ اجتماعات اليوم الذي بدأت ساعاته الأولى بالفعل. ولما كنت قد انتهيت من كتابة هذا التقديم، استشعرت بأن القدوم إلى المقهى قد استنفد كافة أغراضه. فلملمت أوراقي متوجهاً إلى حيث موقف سيارات الأجرة، ماراً بنهاية «شارع العرب»، لأطالع شارعاً كبيراً تملأه الإعلانات عن سباق السيارات العالمي الذي تستضيفه سنغافورة ـ الشهير بـ«فورميلا (1)».

ولعل هذا السباق، وما يجري فيه، يتضمن تعبيراً ما عن آراء «محبوباني» وكتابه. فالسباق عالمي على أرض آسيوية، وقائدو السيارات من جنسيات مختلفة، ومشاهدو السباق من السائحين القادمين من كل بقاع الأرض، والسيارات لا تكاد تحدد من أي منشأ صناعي أتت مكوناتها الأوروبية والآسيوية والأمريكية، وتسهم في رؤوس أموال شركات مصانع السيارات بيوت مال آسيوية وغربية وعربية، وتتبنى المتسابقين شركات شتى تعلن عن نفسها على جوانب السيارات ومضمار السباق وعلى ملابس السائقين وعلى أغلفة ما يأكله ويحتسيه المشاهدون. قد لا يكون هناك انصهار بين الثقافات يمزج بين أصحابها من أهل الشرق وأهل الغرب، ولكن هناك في السباق بين الأمم قيم للتقدم والفوز، تُعلي من شأن الفائز الآخذ بأسباب التقدم والانطلاق والوصول بأمان إلى هدف السباق. والأمم في منافسة دائمة من أجل البقاء في سباقها، ولا يوجد لها بديل عن البقاء في السباق إلا الخروج منه إلى حيث الفقر والتخلف وتدني أحوال مواطنيها. إنها في بداية الأمر ونهايته قضية اختيار بين التقدم والتخلف.. فإذا كان الاختيار هو التقدم، فيجب أن تُستدعى إرادة التغيير، التي طالما استجاب لها القدر، إثابة للمجتهدين وأولي العزيمة. بهذا يخبرنا تاريخ صعود وهبوط الأمم والحضارات.