لبنان: فرصة مواتية لإصلاح الموازنة وتمكين الدولة من الإنفاق على الاستثمار

يحتاج 8 ملايين دولار إضافية يوميا لسد العجز

تعكس تطورات أرقام الموازنة العامة مدى هشاشة الاعتماد على زيادة الضرائب والرسوم («الشرق الأوسط»)
TT

يتوقع أن تقفز أرقام خدمة الدين العام اللبناني فوق عتبة 4 مليارات دولار في نهاية العام الحالي بزيادة تقارب 500 مليون دولار عن العام السابق مستهلكة، في الوقت ذاته، الجزء الأكبر من تحسن واردات الخزينة مما يؤدي إلى بقاء العجز الإجمالي أكثر من 3 مليارات دولار، أي ما نسبته 25.5 في المائة.

وتعكس تطورات أرقام الموازنة العامة، في نهاية السنة المالية، مدى هشاشة الاعتماد على زيادة الضرائب والرسوم في محاولة التخفيف من ضغط الأزمة المالية الحكومية المرتكزة أصلا على دين إجمالي يفوق 50 مليار دولار. أي ما يوازي نحو 152 في المائة من الناتج المحلي (بعد احتساب الودائع الحكومية). وهو شهد تحسنا مطردا من معدل 180 في المائة قبل ثلاثة أعوام. لكنه يبقى من أعلى المعدلات العالمية.

وقد استنفد لبنان فرصا فريدة من نوعها على المستوى العالمي لمعاونة برامج الحكومات المتعاقبة في كسر الحلقة المفرغة الرابطة بين تنامي الدين والعجز المالي، حيث أضاعت الأوضاع الداخلية، بكل تشعباتها السياسية والأمنية، الفوائد المرجوة للضخ التمويلي الكبير الناتج عن مؤتمري «باريس 2و3». الذي فاقت قيمه المحققة 8 مليارات دولار على شكل مساعدات وهبات وقروض ميسرة من دول ومؤسسات أجنبية وعربية (خليجية تحديدا).

ويقر رئيس الحكومة سعد الحريري بهذه الحقيقة، حيث خاطب حشدا من الاقتصاديين والمصرفيين ورجال الأعمال اجتمعوا لتكريمه عشية منح الثقة النيابية لحكومته بالقول: «لقد فات بلدنا في السنوات الأخيرة عدد كبير من الفرص. لكننا نقف على عتبة فرصة كبيرة، فرصة حقيقية ملموسة وواعدة، فرصة لن يسامحنا أولادنا وأحفادنا إن نحن أضعناها، فرصة تكاد تكون في حد ذاتها، الفرصة التي يمكنها، إن أصبنا، أن تعوض على المواطن اللبناني والمواطنة اللبنانية كل الفرص الضائعة، وإن فشلنا لا سمح الله، أن تفوت كل الفرص السانحة».

ويظهر تطور النفقات والإيرادات في الموازنة نجاحا نسبيا في زيادة الفائض الأولي قبل احتساب تكلفة خدمة الدين العام. من خلال زيادة الإيرادات بنحو 22 في المائة مقارنة بالعام السابق، مقابل ارتفاع الإنفاق بنحو 15 في المائة. فالمتوسط الشهري (إحصاءات منجزة لـ11 شهرا) للإنفاق الحكومي، خارج خدمة الدين، بلغ هذا العام نحو 613 مليون دولار (920 مليار ليرة). يقابله متوسط شهري للإيرادات بلغ نحو 705 ملايين دولار (1058 مليار ليرة). أي بفائض إيجابي شهري يزيد على 92 مليون دولار. فيما بلغ متوسط خدمة الدين العام شهريا (تسديد أصول وفوائد) نحو 329 مليون دولار (493 مليار ليرة). أي ما يتخطى الفائض المحقق بنحو 237 مليون دولار شهريا.

ولهذه المتوسطات دلالات مهمة نفسيا فضلا عن تقييمها الموضوعي البحت. فتوزيع الأرقام يعني عمليا أن لبنان يعاني في صبيحة كل يوم عجزا يزيد عن 8 ملايين دولار. في الوقت الذي يسدد فيه يوميا نحو 11 مليون دولار أصولا وفوائد. وإجمالي تكلفة خدمة الدين سنويا تستهلك نحو 46 من إجمالي الإيرادات. وتوازي نحو 53 في المائة من الإنفاق المخصص بمعظمه للرواتب والأجور ومصاريف تسيير المؤسسات. مع جزء بسيط للإنفاق الاستثماري يضيع أغلبه أيضا في المحاصصات والترضيات وأروقة الفساد.

وقد لاقت المؤسسات المالية وشركات التصنيف الدولية تفاؤل الحريري في منتصف الطريق. فأكدت، في ترقبات أولية، إمكانية دخول لبنان، مع حكومة الوحدة الوطنية والإجماع الداخلي على نبذ التجاذبات والاحتكام إلى المؤسسات، في مسار إصلاح مالي أشمل يمكنه مستقبلا من احتواء الدين العام. وانعكاساته السلبية في كبح النمو وتغييب دور الدولة في الإنفاق الاستثماري الذي لم يعد خيارا بل ضرورة قصوى في ظل تداعي البنى التحتية وتخلفها في استيعاب النمو المرتقب، والحالة المزرية خاصة لقطاع الكهرباء الواقع بدوره في عجز دائم يزيد على مليار دولار هذا العام.

وفي أحدث التقارير، رفعت وكالة التصنيف الائتماني «ستاندارد آند بورز» التصنيف السيادي القصير والطويل الأمد للبنان، مركزة على صلابة النظامين المالي والمصرفي في جبه الاضطرابات السياسية على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. ومشيرة إلى أن «التطورات الأخيرة في لبنان يمكن أن توفر قدرا أكبر من الاستقرار السياسي في الأمد المتوسط». و«ونعتقد أن أولويات الحكومة تحديد الإصلاحات الهيكلية تماشيا مع توصيات صندوق النقد و(باريس3) التي تشمل خصخصة الاتصالات والكهرباء، وتدابير خفض النفقات وزيادة الإيرادات».

ورأت الوكالة أنه «في حال نجحت تلك الإصلاحات في خفض العجز المالي والدين العام قياسا بالناتج المحلي، فإن لبنان سيكون قادرا على تلبية الالتزامات الطارئة».

وأسندت تقييمها إلى قاعدة الودائع الكبيرة والمستقرة من المقيمين وغير المقيمين «بما يتيح للقطاع المصرفي تغطية الحاجات التمويلية للحكومة»، مشيرة إلى أن لبنان يفيد من دعم كبير ومستمر من دول الخليج.

وفي نظرتها الإيجابية إلى المستقبل، اعتبرت أن الرئيس الحريري هو من الشخصيات القادرة على ضبط التوافق بين الأفرقاء المتنازعين في حكومته «علما أن التوافق يوفر قوة سياسية للمضي قدما في الإصلاح الهيكلي الملح». ورأت أن تحسين التصنيف يتوقف على الحكومة الجديدة، مشددة على أهمية التصحيح المالي «علما أن الدين العام (يتوقع أن يسجل 142 في المائة من الناتج في 2010) يشكل عقبة رئيسة أمام المرونة المالية».

وفي تقييم مصرفي، يعتبر رئيس جمعية المصارف الدكتور جوزيف طربيه أن الوضع المالي والمصرفي في لبنان «مميز» وأن «الأمور المالية والمصرفية تسير عكس اتجاهات الأحداث العالمية السلبية». ويضيف: «نحن في وضع أفضل بكثير مما هو حاصل على الصعيد العالمي، وهذا يعود بالفعل إلى الأداء الجيد للقطاع وسلطة الرقابة المتمثلة بحاكم المصرف المركزي، وهذه الطاقة التي نتمتع بها الآن نريد أن نحافظ عليها لأن القطاع المصرفي يعمل بصورة خاصة بالثقة، وهي ما تجلب الودائع والاستثمارات، ونعتبر أن الوضع الراهن يساعد على انطلاقة جيدة بالنسبة للبنان على أساس أن يقوم الوزراء أصحاب الاختصاص بمراجعة المشروعات المتراكمة لإعطاء أولويات في سبيل إعادة تشغيل اقتصادنا، إذا لدينا مشكلات في السياحة على سبيل المثال بحيث جاء السياح إلى لبنان والبنية التحتية لم تستطع أن تتحمل ما يحصل، كما الكهرباء والماء والطرق، كل هذا يتطلب بالفعل المباشرة في تطبيق الإصلاحات حتى نتمكن من الحصول على ما نحن موعودون به في مؤتمر (باريس3) وأيضا أن يقوم القطاع المصرفي الحاضر دائما بدعم الدولة واقتصادها بالدور المطلوب منه».