وزيرة المالية اللبنانية: الموازنة جاهزة تقنيا والتوافق السياسي يحدد الخيار الضريبي

ريا الحسن لـ «الشرق الأوسط»: نتوقع نمو الناتج المحلي 4.5 % هذا العام * شراكة القطاع الخاص تؤمن التمويل وتحفظ المسار الإيجابي للدين الحكومي

ريا الحسن
TT

الصراحة والعفوية اللتان تميزان وزيرة المال اللبنانية ريا الحسن تجعل الحوار معها سلسا ودون تكليف. فهي لا تناور ولا تنتقي الكلمات في إجاباتها. تدافع عن قناعاتها بحدة «ناعمة»، وتعلم، رغم خبرتها السياسية حديثة العهد، أن مقياس التوافق «يحكم» الحكومة في بنيتها وفي مهامها. ولا مفر من مراعاة هذه القاعدة في إعداد المشاريع. فكيف الأمر بأول موازنة «قانونية» بعد 4 سنوات إنفاق وتحصيل إيرادات على القاعدة الاثنا عشرية. بسبب الخلافات السياسية التي أغلقت أبواب المجلس النيابي في وجه الحكومة السابقة وكل مشاريع القوانين التي أعدتها. بابتسامة واثقة من غير مباهاة، ترد على أول سؤال «نعم، حسب معرفتي، أنا أول امرأة عربية تتولى وزارة المال في بلادها. وآمل أن أحقق تجربة ناجحة قابلة للتكرار والتمدد». وهي تخوض مهمة «معالي الوزيرة» بقرار الرئيس سعد الحريري وخياره. أما درع حمايتها، فهي تحصيلها العلمي العالي و«سلة» خبرات محلية ودولية، في الشؤون الاقتصادية والمالية والتعاون مع المؤسسات الدولية الكبرى، راكمتها خلال مهماتها السابقة قريبا من الوزراء ورئاسة الحكومة. الحوار انطلق من مشروع الموازنة إلى السياسة المالية والإصلاح وتمويل مشاريع التنمية والبنى التحتية والناتج المحلي وسوى ذلك. وهنا الوقائع:

* طال انتظار الموازنة وكنتم وعدتم في بيان الحكومة بإقرارها نهاية الشهر الماضي، ما هي العوائق التي تؤخرها؟

- أنهيت إعداد مشروع موازنة العام الحالي، وأنا على استعداد لطرحها على جدول أعمال مجلس الوزراء بمجرد تحديد الخيار الذي سيتم اعتماده في تحسين الواردات بما يغطي زيادة الإنفاق، القرار الضريبي سياسي بامتياز. والرئيس الحريري تكفل بهذا الجانب. ولديه تصورات كاملة بالأرقام والانعكاسات لأي سيناريو سيتم اعتماده. خصوصا ما يتعلق بزيادة ضريبة الاستهلاك (القيمة المضافة) فهذه هي كلمة السر. وأعتقد أن الأمور ستحسم قبل نهاية الشهر الحالي ويتم إقرار مشروع الموازنة. المشروع جاهز ومكتمل تقنيا. نحن نعرف تماما حجم النفقات، لكن من ناحية الواردات لدينا طروحات متعددة أو سيناريوهات ذات نتائج متعددة. والموضوع الأساسي طبعا هو ضريبة الاستهلاك، أي الضريبة على القيمة المضافة. فالقرار هنا سياسي بامتياز، ونحن حضرنا لكل تصور نتائجه وانعكاساته على الفائض الأولي ونسبة العجز. والقرار المهم هو التوافق على الطرح، فإذا كانت زيادة ضريبة الاستهلاك مناسبة أو صراحة إذا رفعنا الضريبة إلى 15 في المائة، عندها تتأمن الموارد المطلوبة لنفقات استثمارية أعلى في الموازنة. أما إذا كان القرار بزيادة أقل، فإن النفقات الاستثمارية ستكون حكما أقل. نحن فتحنا كل الخيارات، ولكل خيار نفقات محددة ونسبة مقابلة من الزيادة الضريبية.

* ما هي المحاذير تحديدا؟ - الأكيد أن النفقات ستزيد عن السابق، وإذا لم يتم مقابلتها بواردات موازية فلن نستطيع مواصلة المسار المالي الإيجابي. الإنفاق من دون واردات يعني العودة إلى العجز الأولي، وهذا أمر مضر للغاية في المسار المالي. فلا ننسى أن لبنان يعاني أصلا من مشكلة الدين العام الكبير. نحن لدينا أعلى دين نسبة للناتج المحلي. في السنتين الأخيرتين حققنا تحولا إيجابيا في خفض نسبة الدين إلى الناتج، ومن الضروري مواصلة هذا التحول، وأن نحسن استغلال الفرصة المتاحة حاليا حيث يكبر الاقتصاد وينمو الناتج أعلى من نمو الدين. فمن يدري ماذا يحصل في حال حصول تطورات مفاجئة مثل أزمة مالية أو أزمات إقليمية، فوضعنا لا يزال هشا، ويجب أن لا نقع في أخطاء يمكن تلافيها. والخلاصة إذا أردنا طرح زيادة في النفقات يجب أن يكون لها واردات مقابلة. نحن نقول إن الفائض الأولي في الموازنة هو المعيار، بغض النظر عن حجمه، إنه الطريق الوحيد لخفض وتيرة نمو الدين العام.

* بالأرقام، هل نتحدث عن تغطية زيادة الإنفاق بحدود 2000 مليار ليرة؟ وهل يشمل ذلك النفقات الاستثمارية؟ - نعم، شيء من هذا القبيل. فإذا زدنا بالمقابل ضريبة الاستهلاك من 10 إلى 12 في المائة، سيكون إلى جانبها اقتراحات لزيادة رسوم تسجيل العقارات، وسلة من الإجراءات لتخفيف الانعكاسات على المداخيل المتدنية. المعادلة بسيطة، قيمة الإنفاق مرتبطة بقيمة الضريبة ومعها سلة الإعفاءات مع نتيجة ضرورية هي الحفاظ على الفائض الأولي. يمكن أن نتوافق على نسبة 15 في المائة مرورا بالـ12 في المائة. وهذا يتطلب خفض الزيادة في الإنفاق، وتحديدا النفقات الاستثمارية. لأنه لا يمكننا التصرف بالنفقات مثل خدمة الدين أو مساهمة الخزينة في تمويل وسد عجز قطاع الكهرباء. وهو يحتل الأولوية في النفقات الجديدة. الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية هو النفقات الاستثمارية. نحن في حاجة ماسة إلى تمويل مشاريع التنمية وإصلاح البنى التحتية. هذه مصاريف ضرورية وقد تعهدنا أمام المجتمع الدولي الداعم (مؤتمر باريس 3) أن نقوم بهذه الإصلاحات المطلوبة. والشيء الإيجابي أنه توجد حاليا مصادر تمويل فلا يقع العبء على الموازنة العامة. بالإمكان الاستفادة من القروض الميسرة. ولدينا قناة أفضل من خلال القطاع الخاص. السيولة كبيرة في القطاع المصرفي ولديهم استعدادات طيبة للقيام بعمليات تمويل لهذه المشاريع الإنمائية. وهذا التمويل لن يكون استدانة جديدة، لدينا قناة الشراكة «the private public partnership» ومشروع القانون الخاص بذلك جاهز للمناقشة في مجلس النواب. وعندما يقر تتأمن قناة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ويتأمن بالتالي انسياب التمويل للمشاريع الإنمائية والبنى التحتية. وفي ذلك فوائد مهمة للاقتصاد، فالمصارف ستضخ السيولة الفائضة لديها وتحقق عوائد لها وللاقتصاد وللتنمية. والدولة لا تستدين لتمويل مشاريع ملحة تقع على عاتقها. ومن المهم الإشارة في هذا المجال، إلى إمكانية الاستعانة بمؤسسات دولية تعرض علينا المساعدة في مجال تمويل المشاريع الحكومية «public financial» وتسهيل المهمة أمام القطاع الخاص. هذا مشروع حيوي ومهم جدا. ومع توفر المساعدة الخارجية الاستشارية، يمكن البدء مبكرا وفور إقرار القانون بتحضير دفاتر الشروط بمواصفات عالمية. أي يمكن أن نبدأ العمل هذا العام أو العام المقبل.

* هل يشمل ذلك تطوير قطاع الكهرباء؟ - نحن تعهدنا بالقيام ببعض الإصلاحات وأهمها زيادة السعة الإنتاجية للكهرباء بنحو 600 ميغاوات. فإذا قررنا الصرف من الموازنة يتوجب تأمين الواردات المقابلة. أما إذا اتفقنا أن ننفذ عن طريق الشراكة، وهذا أسلم من كل النواحي، فإن انسياب التمويل من القطاع الخاص قد يؤمن التنفيذ أسرع. كذلك يمكن أن تردنا مساعدات فيصبح الطرح أسهل بكثير. في هذه الحالة قد لا نضطر إلى ضريبة استهلاك عالية.

* يبدو أننا لا نتحدث عن موازنة لسنة واحدة فقط، بل موازنة تحدد ملامح سياسة مالية كاملة لأمد متوسط على أقل تقدير؟ - نعم، نتحدث عن مواصفات أساسية لا يمكن تجاوزها. لا يمكن أن نتخلى عن الفائض الأولي في الموازنة، وليس منطقيا أن نعود إلى تعاظم نسبة الدين إلى الناتج المحلي. نحن الآن في مرحلة نمو وهذه فرصة مهمة لتحجيم الدين وخفض نسبته إلى الناتج. يجب أن نستفيد إلى الحد الأقصى من انخفاض الفوائد العالمية والمحلية. ليست الضرائب هدفا، لكن هناك فاتورة يجب دفعها. والحل النموذجي أن نقوم بالإصلاحات التي نعد الناس بها مع مراعاة عدم تحميل الأعباء للفئات التي لا تملك القدرة على حملها. هذه المحددات تقرر أرقام الموازنة. نحن لدينا التصور الإنفاقي يقابله عدة سيناريوهات لتغطية الزيادات. العوامل المقررة متداخلة، لكن الهم الأول والأخير أنه حين نقرر إحدى طروحات الضريبة يجب أن لا يشكل أذى لغير القادرين على تحمل المزيد من الأعباء. وبالإمكان تلافي ذلك عبر إعفاءات مباشرة وإقرار تقديمات اجتماعية موازية. فحل المشكلة المالية لا يكون بالتسبب في أزمة معيشية أو اجتماعية. أيضا، أي طرح لواردات جديدة يجب أن يدخل في صلب مشروع الموازنة لتكون كل الأرقام مجتمعة ومعبرة بوضوح ليس من الناحية التقنية فحسب، بل من ناحية المفاهيم والسياسات التي تحكم هذه الأرقام وتحدد أوجه الصرف وأوجه الواردات. وكل البنود الإصلاحية تعكس أموالها في صلب الموازنة الجديدة ولا مفر من ذلك. كل البنود الإصلاحية التي تتعلق بالموازنة وأرقامها يجب أن تكون في مشروع واحد وليس في مشاريع متعددة.

* ماذا عن المصارف التي تعولون على سيولتها وتطرحون زيادة ضريبة الفوائد؟

- نحن في تنسيق وتواصل دائمين مع جمعية المصارف. والأمور لم تحسم بعد، ثمة طروحات تطال الواردات والدين والتمويل لاختيار الأنسب بينها. نعم هناك طرح لزيادة الضرائب على الفوائد. وفي الموازنة طرح للتخفيف من عبء الدين. حتى الساعة لا شيء نهائي. جمعية المصارف أبلغتنا عن استعدادها للمساهمة في هذه العملية إذا كان من جهة الواردات أو من جهة عبء الدين. قالوا، بكل وضوح، نريد أن نساهم في عملية الإصلاح. وكما فهمت أن مساهمتهم في هذه العملية ستكون «حرزانة».

* ألا تفكرون في استثمار عوائد أملاك الدولة للتخفيف من الضرائب؟ - أولا الأملاك البحرية، هناك نوع من الرسم ضمنه الوزير (السابق) محمد شطح في موازنة 2009. وسنقترح رسوما إضافية في الموازنة الجديدة. أما لجهة الأملاك عموما، ففي الدوائر العقارية دائرة خاصة لأملاك الدولة. وهي موضع اهتمامنا وقد طلبت حديثا مساعدات تقنية من الفرنسيين حتى يساعدونا في استكمال المسح ويساعدونا في وضع استراتيجية تحدد الأملاك وتحدد سياسات إدارتها. لن نتطرق مطلقا إلى موضوع البيع والشراء قبل إقرار سياسة واضحة والقيام بمسح شامل يحدد وضعية كل ملكية.

* ضمن هذه الأولويات، أين موقع الخصخصة وهي موضوع خلافي أيضا؟ - الحكومة قالت إنها مع الخصخصة. ونحن لدينا التزامات في مؤتمر باريس 3، ومن ضمنها الخصخصة. وهذا ما ورد في البيان الوزاري ولم يكن هناك أي اعتراض. نحن لا نطرح الخصخصة من ناحية المردود المالي فقط، بل يهمنا مردودها ووقعها على الاقتصاد، المردود الاقتصادي لإشراك القطاع الخاص، في قطاع الاتصالات مثلا، مهم جدا حتى يدخل عامل المنافسة ويخفض الأسعار ويحسن الخدمة ويطور الأسواق المالية.

* ماذا عن الناتج المحلي ونسبة النمو التي يعول عليها في تكبير حجم الاقتصاد؟

- واقعيا حقق النتاج المحلي نموا حقيقيا 8 في المائة عام 2008 و7 في المائة عام 2009 ليصل الناتج إلى 34 مليار دولار (51 ألف مليار ليرة). ونحن نترقب تحقيق ما بين 4 و4.5 كنمو حقيقي خلال العام الحالي.

أما لجهة مكونات الناتج، فالرئيس الراحل رفيق الحريري اقترح مشروعا متكاملا واستعان بإحدى أهم الوكالات المتخصصة ومن الأشهر عالميا. وهي وكالة «إينسي» الفرنسية. وما زال مندوبوها يعملون وفي وحدة داخل السرايا الحكومية. وقد أنجزوا كل الأرقام من 2003 ووصلوا إلى أرقام 2009. نحن نستند بشكل أساسي إلى هذه الوكالة. وهم يقومون بدراسات علمية وموضوعية لمكونات الناتج ويقررون، بناء على ذلك، نسب النمو المحققة أو المرتقبة.

* سؤال أخير، ماذا عن الإصدار الجديد لسندات اليوروبوندز؟

- أرسلنا دفتر شروط، وتم اختيار المؤسسات المكلفة بالإدارة والتسويق. مبدئيا سننفذ ما يقابل استحقاقات الشهر المقبل فقط (1065 مليون دولار) لكن الباب يبقى مفتوحا لتعديل المخطط إذا وجدنا ذلك أنسب. وتهمني الإشارة إلى أن إصداراتنا تستقطب حاليا أكبر البنوك العالمية إضافة طبعا إلى البنوك المحلية. ولديهم محافظ ترغب في التوظيف لآجال طويلة. ونحن نرغب في ذلك مع مراعاة توزيع الاستحقاقات. لذا ستكون استحقاقات الإصدارات الجديدة موزعة على السنوات الخفيفة أو عديمة الأعباء.