الأزمة المالية العالمية أدت إلى سقوط «قلاع» الحسابات المصرفية السرية

وسط جدل حول استمرار توفر بديل الملاذات الضريبية للأثرياء

TT

عززت حكومات الدول حول العالم خلال السنوات القليلة الماضية جهودها لإنهاء سرية الحسابات المصرفية، مدفوعة بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية وعدد من الفضائح الكبيرة للشركات، مما أثار مخاوف جديدة بشأن التهرب الضريبي والشفافية المالية.

فبعد أن كانت في يوم من الأيام من العناصر الأساسية في القطاع المالي بعدد من الدول، أعلن الكثير من المراقبين وفاة السرية المصرفية العام الماضي، إذ إن مجموعة العشرين الكبرى أطلقت حملة عالمية تهدد بفرض عقوبات على الدول التي ترفض تقديم مزيد من الشفافية بشأن الحسابات المصرفية لعملاء أثرياء أجانب.

وقال جيفري أوينز بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي وضعت المعايير الضريبية الدولية، إن «النموذج القديم المعتمد على السرية قد ولى». وقال لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) إن «هناك عالما جديدا يتمتع بشفافية أفضل وتعاون أكبر».

وفي الوقت الذي يتعرض فيه الموظفون العاديون لمزيد من التدقيق بشأن حساباتهم المصرفية من جانب السلطات الضريبية الوطنية، يضيق أيضا نطاق قدرة الأثرياء على إخفاء أموالهم في حسابات خارجية سرية، إذ تشن حكومات الدول حربا على كل منهما من أجل تعزيز قاعدة إيراداتها في أعقاب الركود وتقوية القواعد المنظمة للسوق العالمية.

وقال أوينز إنها مسألة «لا تتعلق فقط بزيادة الإيرادات، وإنما تتعلق بجعل النظام الضريبي أكثر عدالة».

وخلال العام الماضي خضع الكثير من الحكومات التي تتولى إدارة مراكز مالية للضغوط الشديدة من جانب دول أجنبية، ووافقت على معايير ضريبية دولية تهدف إلى تقاسم المعلومات باعتباره جزءا من جهود تهدف إلى وضع إجراءات صارمة على التهرب الضريبي والجريمة في عالم تلغى حدوده بشكل متزايد.

واتفاقات منع الازدواج الضريبي الجديدة التي أغلبها في مرحلة التطبيق كي تكون قوانين محلية في دول مثل سويسرا ولوكسمبورغ وليختنشتاين، من شأنها أن تجعل من الصعوبة على البنوك تقديم تطمينات مؤكدة للعملاء الأجانب بأن حساباتهم المصرفية في مراكزها المالية في أمان وبعيدة عن انكشافها.

كانت الولايات المتحدة وإيطاليا أطلقتا حملة عفو عن متهربي الضرائب العام الماضي بهدف تشجيع المخالفين والمتهربين على إعادة أصولهم إلى بلادهم والتصالح مع السلطات. وسجلت المراكز المالية نزوح كميات ضخمة من الأموال نتيجة تلك الاتفاقات في ظل تخوف العملاء من أن الإجراءات الصارمة تلك في هذا الوقت هي فعلا حقيقية.

وفي الوقت نفسه تم تطبيق قوانين وطنية جديدة في أجزاء من الاتحاد الأوروبي، بما يمكن السلطات من أن تجري مراجعة مفاجئة على حركة الأموال بالحسابات المصرفية.

وفي واشنطن يدرس الكونغرس تشريعا لملاحقة المتهربين قضائيا بشكل أيسر. ولا تزال خطوات الوصول إلى الحسابات لدى ما يطلق عليها مراكز إدارة الثروات العالمية تتطلب من الحكومات في البداية أن تقدم دليلا على أن صاحب الحساب المصرفي متورط في عملية خداع ضريبية قبل أن يتم تسليم أي معلومات بشأنه.

وعلى الرغم من أن الاتفاقية لا تزال رهن مناقشات المحاكم المحلية والبرلمان، فقد أبدت الحكومة السويسرية الصيف الماضي أول انفراجة كبيرة بعد أن وافقت على أن تقدم لمصلحة الضرائب الأميركية بيانات عن آلاف الحسابات المصرفية في بنك «يو بي إس» التي ثبت تورط أصحابها في الاحتيال والتهرب الضريبي.

كما تقدم بعض الدول بما فيها دول بالاتحاد الأوروبي التي بها قوانين السرية لأصحاب الحسابات المصرفية بالمراكز المالية نوعا من السرية في حال موافقتهم على تسديد ضريبة الدخل من المنبع.

لكن مع إحراز نجاح في إنهاء السرية المصرفية من خلال شن حملة صارمة على ما يطلق عليه الملاذات الضريبية غير المتعاونة، يسعى الاتحاد الأوروبي حاليا إلى توسيع اتفاقيات تقاسم المعلومات تلقائيا بما يقلل بشكل أكبر الخدمات المصرفية للمراكز المالية.

وهذا يعني أن الاتفاقات الضريبية الجديدة التي تمت الموافقة عليها خلال الأشهر الاثني عشر الماضية تشدد أيضا على أن أي معلومات من حسابات مصرفية هي بالأساس لأغراض تحظى بموافقة قانونية.

وأوضح أوينز الذي يدير قسم الضرائب بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن «دول المنظمة لن تستجيب لأي طلبات من سلطات ضريبية أخرى ما لم تتأكد أنها ستظل سرية».

ولا يزال الكثير من الأثرياء في مقدورهم إبقاء أصولهم بعيدا عن أنظار رجال الضرائب، لكن مخاطر انكشافهم تتزايد بشكل واضح، بل إن حكومات دول أوروبية مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا أشارت إلى استعدادها بحث دفع مبالغ ضخمة من الأموال في مقابل الحصول على أسطوانات ليزر بها بيانات مصرفية أجنبية مسروقة. وعلى الرغم من أن وسائل الحصول على معلومات ضريبية قد يكون لها من يشكك فيها بعد أن تم الكشف عن أن أثرياء ألمانيا يخفون ثرواتهم في إمارة ليختنشتاين، فإن التعقيدات بدت واضحة، وهي أن قدرة البنوك على تقديم الكثير من السرية تقف عند استعداد حكومات الدول على دفع مبالغ لمن بحوزته المعلومات.

وفيما تشير الصورة العامة للقطاع المصرفي في العالم إلى أن سرية الحسابات المصرفية كادت أن تنتهي، وأن النظام المالي العالمي صار شفافا، وأن الأغنياء يدفعون نصيبهم العادل من الضرائب، فإن المصرفيين السويسريين يرون عكس ذلك، فحتى مع تخفيف القيود المفروضة على سرية الحسابات المصرفية في بلادهم، بسبب تزايد الضغوط الدولية عليها، فإنهم يرون أن السرية ليست المشكلة الوحيدة في النظام المالي العالمي.

يشير هؤلاء إلى أن المحاكم، والدول، لا تطلب في حالات كثيرة من سويسرا الكشف عن هوية الأثرياء من أبناء هذه الدول، الذين يحتفظون بأموالهم في البنوك السويسرية. يقول المصرفيون إن بريطانيا، التي كانت إحدى أهم القوى المطالبة بمحاربة سرية الحسابات المصرفية، تمتلك أسوأ سجل في ما يتعلق باستخدام «قواعد لا تتسم بالشفافية».

كما أن الكثير من الجزر التابعة لبريطانيا عبر البحار، مثل جيرسي، لا تزال تقدم ملاذات آمنة لأصحاب الأموال، حيث تمتلك البنوك السويسرية فروعا هناك. كذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة، التي كانت في مقدمة الدول التي تطالب بمحاربة سرية الحسابات المصرفية، حيث توجد بها ولايات تتبنى قوانين ضريبية تخدم مصالح الشركات والأثرياء، مثل ولايات فلوريدا وويمونغ وديلاور.

كان جان كلود يونيكر، رئيس وزراء لوكسمبورغ، اعتبر ولاية ديلاور الأميركية ملاذا ضريبيا، حيث إن نظامها الضريبي بالغ المرونة، إلى جانب القواعد التي تتيح للشركات المسجلة هناك تجنب سداد الضرائب على أرباحها خارج الولاية.

من ناحيته، يرى برونو غورتنر، المحلل الاقتصادي بمؤسسة «شبكة العدالة الضريبية» التي تحارب التهرب الضريبي وسرية الحسابات المصرفية التي توفر الحماية لهذا النشاط، أن إقامة نظام مالي عالمي موحد هو الحل المناسب لهذه المشكلة.

يقول غورتنر: «نحن نؤيد دعوة سويسرا إلى ضرورة إخضاع كل المراكز المالية في لندن والولايات المتحدة لنفس القواعد» التي تطالب الدول الكبرى بتطبيقها. ويرى أن سويسرا ستكون في موقف قوي في مواجهة تلك المراكز المالية في حال نجحت في تطهير قطاعها المصرفي من قيود السرية.

كانت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تمتلك مركز أبحاث مسؤول عن وضع المعايير الضريبية العالمية، تعهدت بمواصلة معركتها ضد التهرب الضريبي في العالم بما يتجاوز حدود سرية الحسابات المصرفية. وتعهد جيفري أوينز، رئيس قطاع الضرائب، في المنظمة بالعمل من أجل الاتفاق على قواعد ضريبية موحدة على مستوى العالم.

ولكنّ هناك مراقبين يرون أن لندن وواشنطن تواجهان ضغوطا قوية من جانب نشطاء الدفاع عن مصالح البنوك في البلدين من أجل الإبقاء على القواعد الحالية التي تخدم مصالح حي المال في لندن وتوفر الكثير من الثغرات الضريبية في الولايات المتحدة.

وهناك قلق من محاولة المراكز المالية العالمية الكبرى، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، ممارسة الضغط على دول العالم الأخرى من أجل الالتزام بقواعد الشفافية والضرائب العادلة، في الوقت الذي لا تلتزم فيه هذه المراكز بنفس القواعد.

في الوقت نفسه يشير اقتصاديون سويسريون إلى الحاجة لبذل المزيد من الجهود من أجل التعامل مع المشكلات الاجتماعية والقانونية المحلية في الدول التي تعاني معدلات تهرب ضريبي كبيرة، بحيث يمكن علاج المشكلات من المنبع. وأخيرا، هناك حاجة إلى تحرك عالمي لمواجهة الجوانب الجنائية في التهرب الضريبي، بما في ذلك استهداف الأماكن التي تستخدم في عمليات غسل الأموال. وأغلب هذه الأماكن يجب أن توضع تحت الرقابة في إطار الحملة العالمية على سرية الحسابات المصرفية.