700 ألف موظف في بريطانيا معرضون لفقدان وظائفهم

في إطار خطة خفض العجز البالغ 221 مليار دولار

TT

يسود الدوائر الحكومية في بريطانيا قلق كبير بشأن التخفيضات في الإنفاق العام التي تنوي الحكومة الائتلافية الجديدة إجراءها، التي ستعلن تفاصيلها اليوم. غير أن بعض الأنباء قد تسربت أمس تشير إلى أن موظفي الخدمة المدنية والقطاع العام - بما في ذلك وزارة الدفاع - سيفقدون ما بين 300 و700 ألف وظيفة في إطار تقليل العجز البالغ 156 مليار جنيه إسترليني (نحو 221 مليار دولار) خلال السنوات القليلة المقبلة. وأعلنت الحكومة أنها ستبدأ خفض العجز بدءا بـ6 مليارات جنيه إسترليني من ميزانية السنة المالية الحالية. وأشارت الصحف البريطانية التي تسربت إليها تفاصيل التخفيضات الحكومية إلى أن فقدان الوظائف سيشمل حتى الأطباء والعسكريين في الصفوف الأمامية وقوات الشرطة.

وقدرت صحيفة «صنداي تايمز» أن تفقد وزارة الدفاع نحو 20 ألف وظيفة، بينما ستفقد شرطة لندن وحدها 445 وظيفة. وأشارت الأنباء إلى أن التخفيضات ستشمل أيضا «الإسراف الحكومي» مثل نفقات الفنادق والترحيل والسفر التي ينفقها موظفو الحكومة. وأوضح جرد أجرته وزارة المالية البريطانية أن موظفي الحكومة والقطاع العام أنفقوا العام الماضي ما قيمته 125 مليون جنيه إسترليني على سيارات الأجرة (التاكسي) و320 مليونا على الإقامة في الفنادق و70 مليونا أخرى على السفر والرحلات الجوية. كما أوضح التقرير نفسه أن الوزارات الحكومية أنفقت 580 مليونا على تجديد أثاثات المكاتب، ومليارا على الإعلانات، بالإضافة إلى 700 مليون أخرى على التسويق والدعاية. من جانبه، شرع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بضرب المثل في تقليل الإسراف، وخفض عدد السيارات والسائقين التابعين لمكتبه (مقر رئاسة الوزارة، في 10 داونينغ ستريت)، كما أكد أنه شخصيا سيراجع ويصدق على فاتورة تغيير أثاثات مكتبه، مقر الحكومة.

وأثناء ذلك، أعلن نائبه، نيك كليغ زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، أنه ينبغي على بريطانيا أن تتحرك بسرعة لخفض العجز القياسي في ميزانيتها نظرا لتأزم الوضع المالي في أوروبا. وكان كليغ خلال الحملة الانتخابية يؤيد موقف حزب العمال القائل بعدم إجراء أي تخفيضات في الوقت الحالي لأن ذلك سيعرض الخروج من الركود الاقتصادي إلى هزة، أو ربما يعطله تماما. لكنه من غير الواضح ما إذا كان كليغ قد غير موقفه رأسا على عقب لأنه تنازل أمام حزب المحافظين - الشريك الأكبر في الائتلاف - أم لأن أزمة اليورو في أوروبا هي السبب، حسبما يقول كليغ نفسه.

ويزيد العجز البريطاني عن 11% من إجمالي الناتج المحلي، مما يتطلب خفضا كبيرا ومؤلما في الإنفاق الحكومي للسيطرة عليه. كما قد يتطلب الأمر زيادة في الضرائب على القطاعات الأكثر ثراء، وهو ما يطالب به البعض بحجة أن العجز أصلا تسببت فيه البنوك والشركات المالية الكبرى، فلماذا يتم سداده على حساب تخفيض الإنفاق على الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والشرطة؟

على صعيد آخر، ذكرت صحيفة «الإندبندنت» أمس أن الحكومة تفكر في فرض ضرائب على البنوك ربما تصل قيمتها إلى 8 مليارات جنيه إسترليني. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين قولهم إن الإجراءات قد تطبق من جانب واحد في أول ميزانية طوارئ للحكومة الائتلافية المقرر إعلانها في 22 يونيو (حزيران) المقبل. ومن المقرر أن تناقش مجموعة العشرين للاقتصادات المتقدمة والناشئة مقترحات لفرض ضرائب على البنوك.

ويرى بعض الاقتصاديين أن الحكومة الحالية صاحبة الطموحات الكبيرة، قد تجد تخفيض الوظائف فرصة تاريخية لإعادة هيكلة وتأهيل قواها العاملة. فقد اعتمدت بريطانيا في التاريخ ولأكثر من قرنين منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر على القطاع الصناعي لتطوير اقتصادها. غير أن شيئا جديدا حدث خلال الأربعين سنة الماضية وهو أن عدد الأيدي العاملة في القطاعات الصناعية راح يتضاءل بسرعة حتى بلغ نسبة 14% من إجمالي الأيدي العاملة.

ووفق القواميس الاقتصادية التقليدية، فإن تقلص عدد العاملين في القطاع الصناعي يعتبر مؤشرا سيئا للاقتصاد. ولكن هذا غير صحيح في الاقتصاد الحديث. فتقلص العاملين في قطاع الصناعة في الدول الغنية لا يعني ضعفا بل يعني مزيدا من القوة الاقتصادية، وذلك لأن الثورة التكنولوجية الجديدة حلت محل الأيدي العاملة البشرية بحيث انحسرت هذه الأيدي بينما ارتفع الإنتاج الصناعي.

هذا التحول في المعادلة بين الإنتاج والأيدي العاملة انعكس أيضا في تحول الصناعات الغربية من صناعات تعتمد على «العمالة المكثفة» مثل الفولاذ والنسيج في القرن الماضي، إلى صناعات تعتمد على «المعرفة المكثفة» مثل العقاقير والإلكترونيات حاليا. وكما يشير أنصار الاقتصاد الخدمي الحديث، فإن إنتاج برنامج تشغيلي للكمبيوتر (مثل ويندوز) يعود على الاقتصاد بأرباح مضاعفة عشرات المرات من إنتاج القرص «CD» الذي يسجل عليه البرنامج، وذلك لأن إنتاج البرامج أمر معقد ويحتاج إلى كثير من البحوث والعلوم بينما تصنيع القرص نفسه أمر سهل. وينعكس ذلك بوضوح في السعر؛ فالقرص الفارغ يكلف نحو 5 دولارات، بينما يكلف القرص الذي يحمل برنامج «ويندوز» نحو 150 دولارا.

كما أن هناك تحولا آخر صاحب الثورة التقنية في الغرب وهو هجرة «الوظائف التي لا تحتاج إلى مهارات عالية» من الدول الغربية إلى الدول النامية، بينما توسع عدد الوظائف التي تتطلب مهارات عالية في بريطانيا. وكثيرا ما نسمع أن شركات عالمية ضخمة نقلت جزءا من عملياتها من بريطانيا مثلا إلى الهند. فالسبب الظاهر لذلك أن العمالة أرخص في الهند، ولكن هناك سبب آخر أهم وهو أن الأيدي العاملة في بريطانيا تعيد تأهيل نفسها باستمرار وبسرعة لمواكبة الثورة المعرفية والتكنولوجية الحديثة. وهناك سبب آخر في هجرة الأيدي العاملة من الصناعة إلى الخدمات وهو أن السلع الملموسة يمكن بسهولة إنتاجها عبر الآلات «الروبوتات»، بينما الخدمات الطبية والتعليمية والمالية تحتاج إلى الأيدي البشرية. وبهذا المقياس، فإن الاعتماد على الآلة في الصناعة يضرب عصفورين بحجر واحد. فهو أولا يضاعف إنتاجية السلع الملموسة، لأن الآلة أقوى وأسرع من الإنسان، كما أنه ثانيا يفرغ الأيدي البشرية للعمل في قطاع الخدمات الذي لا يحتاج للآلة بقدر احتياجه للعقول والأفكار البشرية. وربما كان مثال برامج الكومبيوتر خير دليل على ذلك.