التخلص من الفقر دفع العمال في تايلاند نحو الحركات الانشقاقية

من الصين شمالا إلى إندونيسيا جنوبا.. يعيش مئات الملايين في ظل ظروف أفضل

الفجوة التي تفصل بين الأثرياء والفقراء شهدت تناميا أكبرمع تنامي ثرواتهم وتطلعاتهم تنامت مشاعر الإحباط (واشنطن بوست)
TT

يملك سان سيلاوات ثلاثة كلاب وبقرتين وببغاء. ويزرع الأرز والبصل بقطعة أرض صغيرة. ولا يعد سان من الفقراء، فقد أضاف طابقا ثانيا لمنزله وبنى فناء مغطى بآجر أزرق، ويعشق ابنه ألعاب الكومبيوتر التي يلعب بها في الغرفة الأمامية من المنزل. واشترت ابنته أخيرا شاحنة طراز «نيسان»، وتدرس حفيدته التمريض بجامعة بانكوك.

ورغم حالته المادية الجيدة نسبيا، يشعر سان، 62 عاما، بالثقة تجاه أمر واحد: «الحياة قطعا تتحرك باتجاه الأسوأ»، وشرع في الشكوى من أسعار الغازولين ورسوم المدارس والنظام السياسي والاقتصادي بالبلاد الذي يرى أنه يجري التلاعب به لحساب الأثرياء.

الشهر الماضي، تكدس سان وستة من أصدقائه من قريته في شمال شرقي تايلاند داخل شاحنة وسافروا على مدار 14 ساعة للانضمام إلى المتظاهرين أصحاب «القمصان الحمراء» في بانكوك. على امتداد تسعة أسابيع من المظاهرات، أقدم على إجراء مماثل العشرات من القرويين من نونبون وقرى مجاورة التي تقع على مسافة نحو 390 ميلا من العاصمة.

يعد سان وأسرته من المستفيدين من ازدهار اقتصادي شهدته البلاد ونجح في غضون ثلاثة عقود فقط من تقليص نسبة من يعيشون تحت خط الفقر من 42 في المائة إلى 8 في المائة فقط. ويمثل سان وأسرته الإيجابيات والمخاطر المحتملة وراء التحول الهائل الذي تشهده آسيا.

من الصين شمالا إلى إندونيسيا جنوبا، يعيش مئات الملايين من الأفراد حاليا في ظل ظروف أفضل كثيرا عما أتيحت للجيل السابق. إلا أن الفجوة التي تفصل بين الأثرياء والفقراء غالبا ما شهدت تناميا أكبر. ومع تنامي ثرواتهم وتطلعاتهم، تنامت أيضا مشاعر الإحباط بداخلهم. ومثلما كشفت الفوضى التي عصفت بتايلاند أخيرا، فإن هذا الوضع قد يخلق مشكلات كبرى.

وقد انحاز سان وجيرانه إلى أصحاب القمصان الحمراء ليس انطلاقا من معاناتهم من الجوع أو الجهل أو اليأس، وإنما لأنهم لم يعودوا يواجهون أيا من هذه المشكلات. ورغم أنهم ما يزالون شديدي الفقر مقارنة بسكان بانكوك الذين ابتهجوا بهزيمة أصحاب القمصان الحمراء لدى تدخل القوات الحكومية في 19 مايو (أيار)، فإنهم يعتبرون أفضل حالا بكثير وأوفر حظا من حيث التعليم ويملكون صوتا أقوى في الشؤون الوطنية عما كان عليه الحال مع آبائهم. مثلا، يشتري سان ويقرأ صحيفة يوميا.

في هذا السياق، قالت تاسانيبورن بوران، بينما كانت تقف إلى جوار الشاحنة طراز «نيسان» الجديدة الخاصة بها التي اشترتها في فبراير (شباط): «في الماضي، لم يكن المزارعون يسألون عن أي شيء، وإنما قصروا اهتمامهم على تولي أعمال الزراعة فحسب».

وأضافت: «الآن، أصبحنا نعي ما يدور حولنا. ونعلم تماما ما نريده وما لا نريده». أما أكثر ما لا ترغبه مطلقا فهو «حكومة لا تعني سوى بالأثرياء، بدلا من المواطنين العاديين».

ويثير هذا المطلب تساؤلات مقلقة ليس بالنسبة لأبهيسيت فيجاجيفا، رئيس وزراء تايلاند الذي تلقى تعليمه في إيتون وأكسفورد فحسب، وإنما كذلك للحكومات بمختلف أرجاء آسيا التي تناضل من أجل التعامل مع التطلعات المتنامية لشعوبها في خضم حالة من الرخاء المتزايد، ولكنها غير موزعة على نحو متكافئ. يذكر أن المظاهرات في تايلاند بدأت في مارس (آذار) ليس خلال فترة ركود اقتصادي، وإنما في وقت سجل الاقتصاد خلال الربع الأول من العام معدل نمو قياسيا بلغ 12 في المائة وهو أقوى أداء له خلال 15 عاما.

في تلك الأثناء، شهد الاقتصاد الصيني ارتفاعا كبيرا بلغ 11.9 في المائة - ومنذ ذلك الحين مني بموجة من الاضطرابات العمالية، بينها إضراب بسبب الأجور في مصنع يتبع شركة «هوندا» في غوانغدونغ، أحد أكثر أقاليم البلاد ثراء. كان الحزب الشيوعي الصيني قد راهن بمستقبله على أن النمو الاقتصادي سيعزز، وليس يقوض، الاستقرار بالبلاد. بيد أن التجربة التايلاندية تكشف إلى أي مدى يمكن أن تخطئ هذه الحسابات. بدلا من التمتع بهدوء سياسي، أفرز النمو الاقتصادي في تايلاند مزيدا من التوترات. عندما اشتعلت شرارة الأزمة المالية الآسيوية من البلاد عام 1997 وسقطت تايلاند في هوة عميقة من الانحسار الاقتصادي، تمتعت البلاد فعليا بقدر أكبر من الاستقرار السياسي، ثم تراجع هذا الاستقرار مع استعادة الاقتصاد عافيته، وذلك طبقا لما تكشفه «مؤشرات الحكم العالمي»، التي يعكف على جمعها خبراء من معهد بروكنغز والبنك الدولي.

على امتداد العقود الأربعة الماضية، تنامى الاقتصاد التايلاندي بمعدل بلغ قرابة 7 في المائة سنويا، بينما ارتفع متوسط دخل الفرد الحقيقي بمقدار قرابة ثلاثة أضعاف منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. إلا أنه طبقا لتقرير صدر أخيرا حول تايلاند العام الماضي من جانب البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة، فإن هذه الدولة الواقعة جنوب شرقي آسيا تعاني من «انعدام مساواة مزمن» يتحدى الفرضية السائدة بأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع خلال المرحلة الأولى من التنمية، ثم تضيق.

الملاحظ أن معدل التفاوت في الدخول في تايلاند يكافئ نظيره في دول أشد فقرا بكثير مثل أوغندا وكمبوديا، ويعد أسوأ قليلا من المعدل القائم في الصين والولايات المتحدة، واللتين تتسمان بتفاوت شديد في توزيع الدخول، طبقا للبيانات الواردة في تقرير التنمية البشرية لعام 2009 الصادر عن الأمم المتحدة. رغم الفجوة في الدخول، فإن سكان نونبون استفادوا قطعا من التنمية السريعة التي حققتها البلاد. على سبيل المثال، تتذكر تاسانيبورن أنه خلال فترة صباها في سبعينات القرن الماضي لم تكن هناك كهرباء ولا مياه جارية ولا طرق ممهدة. وكانت أسرة واحدة بالقرية بأكملها تملك تلفزيونا.

في ذلك الوقت، كانت القوة المحركة الرئيسة اقتصاديا هي القوات الجوية الأميركية، التي استغلت قاعدة جوية ضخمة في مدينة أوبون راتشاثاني القريبة لشن حملات قصف ضد فيتنام وكمبوديا. الآن، يربط طريق سريع بأربع حارات - يعج بمراكز التسوق ومختلف المحال التجارية - بين أوبون راتشاثاني، العاصمة الإقليمية، والمناطق الزراعية المحيطة بنونبون.

وأخيرا، حصل شقيق تاسانيبورن على عمل في المدينة في فندق فخم افتتح حديثا. وتوفر له هذه الوظيفة دخلا ثابتا ضئيلا - وتمكنه من الاتصال اليومي بأفراد أكثر ثراء منه بكثير.

الملاحظ أن أقوى أنصار أصحاب القمصان الحمراء في هذه المنطقة ليسوا المعدمين، وإنما أشخاص أمثال سريتا سورسريسوك، 71 عاما، مزارع، عانى من تجربة فقدان ستة من أبنائه. وشرح سريتا: «لا آبه بالسياسة، لكن آخرين يتحدثون عنها طيلة الوقت».

من بين الأفراد الأكثر حماسا إزاء أصحاب القمصان الحمراء أوساسورن أنارات، وهي جارة سان وسافرت إلى بانكوك مرتين للمشاركة في المظاهرات. وبفضل زوجها الذي يعمل في قطر والأرباح المتواضعة التي تدرها من زراعة الأرز، تحصل أوساسورن على دخل شهري يقدر بقرابة 1000 دولار، مما يزيد كثيرا على المتوسط المحلي للدخل.

مثل سان وتاسانيبورن وجميع سكان القرية تقريبا، تعد أوساسورن من أشد المعجبين بثاكسين شيناواترا، رئيس الوزراء السابق الذي يقيم بمنفى اختياري والذي أطاحت به المؤسسة العسكرية عام 2006 ومطلوب الآن بسبب أمر إلقاء قبض تايلاندي يتهمه بالإرهاب. وفي حديثها عنه، قالت أوساسورن إنه «يعشق وطنه وفاز في الانتخابات لكنهم طاردوه حتى فر من البلاد».

حرص ثاكسين، وهو ملياردير، على زيارة المناطق الريفية بانتظام وأطلق مجموعة كبيرة من البرامج لمساعدة سكان المناطق القروية، تتضمن برامج لتوفير رعاية صحية رخيصة وتوفير اعتمادات بسهولة وإعانات لكل عمدة قرية تبلغ نحو 30.000 دولار. بل إنه زار القرية المجاورة لنونبون. وعن ذلك، قالت تاسانيبورن: «لم يفعل أحد هذا من قبل». وقد تمكن والدها من مصافحة ثاكسين، ويحتفظ الآن بصورة له على جدار غرفة المعيشة بمنزله، إلى جانب صور ملك تايلاند. بعد ثاكسين والملك بهوميبول أدولياديج، 82 عاما، الذي يتلقى العلاج حاليا في المستشفى، أصبح بهيشيت ثابودا، مذيع الراديو، أكثر الشخصيات شعبية هنا.

وقد أنشأ ثابودا محطة إذاعية محلية بعنوان «صوت الشعب» نجحت في اجتذاب جمهور عريض من خلال انتقاداتها النارية للحكومة والأغنياء. كما نظم قوافل متجهة إلى بانكوك.

ويحمل خطاب ثابودا أصداء خطاب قادة أصحاب القمصان الحمراء، وقد قال إن تايلاند منقسمة بين الكادحين لكن فقراء وارستقراطيين جشعين. ولقي هذا الخطب صدى لدى نونبون والقرى الأخرى عبر شمال تايلاند. إلا أن جامنونغ جيتنيفات، أحد أنصار حقوق المزارعين منذ أمد بعيد، يرى أن ثابودا يشوه الحقيقة، مضيفا أن القضية الحقيقية تتمثل في أن الحكومة فقدت الاتصال بقطاع من الشعب يزداد وعيا وثراء بمرور الوقت و«بات الآن يطالب بأكثر بكثير مما كان يطلبه سابقا».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط».