لندن تسعى بقوة لبقائها مركزا ماليا لمليارديرات العالم.. فهل تنجح؟

أكبر سلطات لبنك إنجلترا المركزي منذ 3 قرون

TT

أعلنت الحكومة البريطانية الجديدة أول من أمس عن أكبر تعديلات تطبق على القطاع المالي منذ 13 عاما، عندما تسلمت حكومة العمال آنذاك الحكم، ومنحت بنك إنجلترا المركزي استقلالا عن وزارة الخزانة. أما إعادة الهيكلة التي أعلنها وزير الخزانة الجديد، جورج أوزبورن، فقد منحت البنك المركزي مزيدا من السلطات، إذ ألغت «هيئة مراقبة الخدمات المالية» التي كانت تشرف على الأسواق المالية، وحولت سلطاتها إلى البنك المركزي. وبذلك يصبح بنك إنجلترا المركزي مسؤولا عن مراقبة وتنظيم بورصة لندن، بالإضافة إلى مراقبة وتنظيم البنوك. كما أنه بالطبع يحدد سعر الفائدة الأساسي. وبهذه السلطات يصبح محافظ بنك إنجلترا المركزي، مارفين كينغ، أقوى محافظ في تاريخ البنك الذي يعود إلى أكثر من ثلاثة قرون.

وقال وزير الخزانة البريطاني: «إن الهدف من إعادة الهيكلة هذه هو تفادي وقوع الاقتصاد في أزمة ائتمانية ضخمة، كتلك التي حدثت قبل عامين، ولا تزال بريطانيا، والاقتصاد العالمي، تعاني منها. ومن بين السلطات الجديدة التي سيتمتع بها البنك المركزي منع البنوك التجارية والاستثمارية من الدخول في (مخاطر استثمارية) وتراكم ديونها، مما يعرضها للوقوع في أزمة الديون الهالكة، ومن ثم شح السيولة والائتمان. غير أن منتقدي السياسة المالية الجديدة يعتقدون أن هذه الإجراءات قد تمنع دخول الاقتصاد في أزمة مالية، مثل التي حدثت في عام 2007، لكنها لن تمنعه من الوقوع في أزمة من نوع جديد».

وبالطبع، فقد أثارت هذه التعديلات جدلا حول ما إذا كانت الإجراءات الجديدة ستعزز موقع لندن كمركز مالي رئيسي في الغرب، أما أنها ستنفر بعض المستثمرين بسبب تشديد الرقابة على المصارف والأسواق المالية. ورغم أن البعض يخشى من هذا الاحتمال فإن غالبية الاقتصاديين تشير إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية الأساسية التي تجعل من لندن مركزا ماليا رئيسيا يصعب تغيير حظوظه في فترة قصيرة. فرغم غلاء العاصمة البريطانية فهي لا تزال قبلة لأثرياء العالم ومؤسساته المالية الضخمة. وفي هذا الصدد يقول جون كليمنت، مدير شركة «تيوليب فيناننشيال سرفزس» للخدمات المالية، إن لندن شهدت منذ منتصف التسعينات ارتفاعا ضخما في حجم الثروات المحفوظة في مصارفها، ومستثمرة في أسواقها المالية. وأضاف أن هذه الأموال لم تنمُ كلها داخل بريطانيا، بل جاء معظمها من مختلف أرجاء العالم خصوصا من روسيا ودول البترول في الشرق الأوسط التي تتمتع حاليا بفائض ضخم من أسعار البترول المرتفعة.

ومن الأسباب الرئيسية التي تجذب رؤوس الأموال إلى لندن هو تساهل قانون الضرائب مع الأجانب الذين يحضرون أموالهم إلى بريطانيا. فالقانون البريطاني لا يفرض ضريبة على ثروة جمعت خارج بريطانيا حتى لو وضعت هذه الثروة في البنوك البريطانية، وتمت إدارتها من مقر في العاصمة البريطانية. أضف إلى ذلك أسبابا أخرى، مثل: الاستقرار السياسي ومؤسسات الخدمة المدنية، وقلة الفساد الإداري، ووجود جيش من الخبراء الماليين والإداريين ذوي الكفاءة العالية (يقدر عددهم في بريطانيا بنحو مليون خبير مالي)، ووجود أكبر وأهم بورصة في أوروبا، فضلا عن وجود مراكز فاخرة للتسوق وحياة ثقافية وفنية حيوية. وبالطبع لم يكن حصول لندن على هذا الوضع سهلا، فالمنافسة لا تزال قوية مع جنيف في أوروبا ونيويورك في الولايات المتحدة. لكن عددا من الوكالات والمكاتب التي ترصد حركة رؤوس الأموال تعتقد أن لندن لها ما يميزها عن هاتين المدينتين. وبهذه المقاييس فإن جنيف لا تستطيع منافسة لندن، رغم أنها لا تزال تجذب كمّا كبيرا من رؤوس الأموال الأجنبية. لكن كما وصفها البعض فقد أصبحت العاصمة السويسرية كأنها بنك ضخم لحفظ الأرصدة بدلا من استثمارها. وهذا يفسر أن غالبية رؤوس الأموال الموجود في سويسرا توجد في شكل سندات ادخار أو ودائع نقدية - وليس استثمارا مثيرا، كما هو الحال في أسواق لندن المالية.

أما المنافس الحقيقي والتاريخي للندن فهي بالطبع مدينة نيويورك. لكن الخبراء يجمعون على أن نيويورك – رغم كل ما تتفوق فيه على لندن - قد لا تستطيع منافسة الأخيرة في ما يتعلق بالضريبة. فمكتب الضرائب الأميركي وسلطات الرقابة في بورصة نيويورك مشهوران بتشددهما في جمع الضرائب، بصرف النظر عما إذا كان المستثمر محليا أم أجنبيا. ونقلت صحيفة الـ«غارديان» عن ساب دوفي، من شركة «سكوربيو بارتنرشيب» المالية الاستشارية قوله: إن سلطات الضرائب في بريطانيا «تفضل اقتطاع جزء صغير من الكعكة الكبيرة، بينما يسعى الأميركيون إلى اقتطاع جزء كبير من الكعكة الكبيرة جدا». وأضاف أن الأثرياء الجدد من دول الشرق الأوسط والهند يضعون أموالهم في البنوك السويسرية في بدء الأمر عندما يأتون إلى الغرب، لكنهم سرعان ما يتخذون من لندن مقرا لإدارة أموالهم وأعمالهم. وأشار دوفي إلى أن الثروات الخليجية الهائلة التي أتت نتيجة لأسعار النفط المرتفعة أخذت تتحول من نيويورك إلى لندن منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول). وقال إنه شخصيا يعرف مستثمرا خليجيا ظل على مدى 30 عاما يدير صندوقا استثماريا لصالح عدد من الأثرياء الخليجيين برأسمال يفوق 50 مليار دولار، لكنه اليوم يشكو من أنه كلما ذهب إلى الولايات المتحدة يعامل كما لو أنه متهم، ويضطر إلى إبراز جواز سفره في كل اجتماع يحضره. وأشار دوفي أيضا إلى أن الأشخاص والعائلات «السوبر غنية» ترغب في العيش والتنقل بين المدينتين، لندن ونيويورك.. لكن نيويورك ستأخذ منك ضريبة أكثر. وفي الصدد نفسه قالت كارولين غراهم، المحامية المتخصصة في شؤون الضرائب في مكتب المحاماة الشهير «سيمونز آند سيمونز» في حي المال في لندن، إن المشكلة التي تواجهها نيويورك هي أنها ظلت تاريخيا تتعامل مع المليارديرات الذين جمعوا ثروتهم داخل الولايات المتحدة (أي الأميركيين)، لذا فمكتب الضرائب الأميركي ليس له الخبرة في التعامل مع المليارديرات الآتين من الخارج، ومن ثم فهو يعاملهم بالطريقة نفسها التي يتعامل بها مع المليارديرات الأميركيين. وأضافت أن الولايات المتحدة نفسها ظلت مكتفية ذاتيا ومنغلقة على نفسها، بحيث لم تتعرف كثيرا على ثقافات الشعوب الأخرى وأمزجتهم في التعامل مع ثرواتهم. وبهذا المقياس فإن بريطانيا أقرب كثيرا إلى عقول وقلوب المستثمرين من الشرق الأوسط والهند والدول الآسيوية الأخرى، فضلا عن الدول الأوربية بالطبع.

وأخيرا فهناك سبب راح يتطور بسرعة ويدعم موقف لندن كأهم مدينة لجذب الأثرياء، وهو انتشار ما أصبح يعرف باسم «مكتب الأسرة». وفي هذا الصدد يقول ديفيد هارفي، من مكتب «ستيب» للأبحاث، إن الملياردير ليست له مدينة جغرافية يعيش فيها، فمدينته الوحيدة هي أسرته. لذا فهو يحرص فوق كل شيء على أن تنتقل الثروة من جيل إلى آخر، دون أن تضيع أو تتآكل إما بسبب «ضريبة الإرث» أو بسبب تغير القوانين، أو لعدم معرفة بعض الأبناء بأسرار التجارة أو عدم اهتمامهم بها أو ربما تبذيرها، أو لتلاشيها بسبب التضخم إذا لم تستثمر باستمرار.