«الفوركس».. سوق خفية في مصر يزداد روادها ولا تعترف بها الحكومة

تخوفات من أن تسحب السيولة من البورصة والبنوك

إحدى شركات «الفوركس» تروج لخدماتها في أكبر معرض لسوق المال بمصر («الشرق الأوسط»)
TT

سوق خفية يعرفها الجميع، تغض الحكومة الطرف عنها في الوقت الذي يزداد فيه روادها.. هي سوق العملات (الفوركس)، التي أصبحت ظاهرة انتشرت في جميع محافظات مصر، وأصبح الإقبال عليها لا يقتصر على فئة بعينها، بل امتد إلى جميع الفئات، من الشباب إلى الشيوخ.

الكثير من الحوادث وحالات النصب التي ظهرت في مصر لم توقف هذه الظاهرة، ووصف المتعاملون تلك الحالات بأنها فردية، وأرجعوا حالات النصب إلى أن الثقة الزائدة في بعض الأفراد غير المتخصصين أدت بهم إلى هذا الأمر.. فخلال هذا العام، ظهرت الكثير من حالات النصب الذي قام بها أفراد استطاعوا أن يخدعوا بعض المصريين والأجانب بزعم قدرتهم على المضاربة في البورصة عن طريق «الفوركس»، وأشار مسؤولون في الحكومة المصرية إلى أن رجال أعمال مصريين خسروا مئات الملايين من الدولارات بسبب هذه التجارة، وتم كشف أمرهم بعد انهيار بنك «ليمان براذرز» الأميركي في سبتمبر (أيلول) 2008، كما حاول أحد البنوك في مصر بيع أوراق مالية، للمصريين، لحساب بنك أميركي كبير من البنوك التي انهارت بعد ذلك، لكن البنك المركزي المصري أوقف المحاولة في بدايتها.

الشركات التي تعمل بمجال «الفوركس» في مصر غير قانونية، كما أكد الدكتور أحمد سعد، رئيس هيئة العامة لسوق المال السابق، مؤكدا أن من يعمل في «الفوركس» بمصر سيخضع للمساءلة القانونية لأن «الوسيط المالي» يقوم في تلك الحالة بعمل نشاط غير مرخص، ومن ثم يخضع للمساءلة القانونية، وأن ما يحدث حاليا في هذا المجال بمصر خارج رقابة الهيئة ورقابة البنك المركزي المصري.

وأكد سعد، الذي كان يتحدث في ندوة على هامش أحد معارض أسواق المال الكبرى التي تقام في القاهرة، والتي دائما تضم شركات «فوركس» تروج عن خدامتها في مصر، أن هيئة الرقابة المالية ستدرس إعطاء الشرعية للعمل في سوق الـ«فوركس»، إلا أن فاروق العقدة، محافظ البنك المركزي المصري، أكد أنه من غير الوارد الترخيص لبنوك أو لشركات بالمضاربة على العملات، لأنها لا تلبي ضرورة اقتصادية من ناحية، كما أن البنوك المصرية لا تستطيع، في المرحلة الحالية، دخول هذا النوع من المعاملات ذات المخاطر العالية.

ولم تكن تجارة العملات (الفوركس) في مصر ظاهرة قبل عام 2008، بل اقتصرت على عدد محدود، لكنها تحولت إلى ظاهرة بعد خسائر متتالية أصابت المتعاملين في البورصة المصرية، وتحديدا مع بداية النصف الثاني من عام 2008، عندما قامت الحكومة المصرية بزيادة أسعار الوقود وفرض ضريبة مبيعات على بعض السلع، مما أدى إلى تراجع البورصة المصرية بشكل متتال، خوفا من التأثيرات السلبية لزيادة الضرائب ورفع أسعار الطاقة على الأداء المالي للشركات المقيدة بالبورصة، تلت ذلك الأزمة العالمية، وانتشار الرعب من تأثيرها على الاقتصاد المصري، مما أدى في النهاية إلى انهيار البورصة، التي فقدت منذ ذلك الوقت حتى الآن تقريبا نحو 6000 نقطة تقريبا.

وبدأ بريق تجارة العملات يزدهر في القاهرة ومحافظات مصر بشكل كبير منذ بداية عام 2009، عندما تأكد المتعاملون في البورصة أنه من الأفضل استثمار أموالهم في أوعية أخرى، ولم تكن أمامهم فرص استثمارية جيدة في مصر، سواء كانت الأراضي التي تراجعت أسعارها، أو العقارات التي ثبتت أسعارها، حتى أسعار الفائدة في البنوك لم تعد تغري المودعين، ومن هنا بدأ المستثمرون يتجهون إلى «الفوركس».

الإغراء جاء من خلال شبكة الإنترنت، حيث خصصت الكثير من المنتديات والمواقع شرحا تفصيليا، وأعطت حسابات تجريبية مبسطة، وبعبارات بسيطة جدا «كيف تصبح مليونيرا من خلال الإنترنت»، «تداول في بورصة العملات بمخاطر محدودة وعائد مغر»، وانتشر «الفوركس» في مصر، واستطاع أن يخلق قاعدة كبيرة له من المتعاملين.

وبدأت تجارة العملات في مصر منذ ست سنوات تقريبا، وكان المتعاملون فيها عددا محدودا، كما وصفها أحمد العلي أكبر المستثمرين المصريين بسوق «الفوركس»: «عرفنا تلك التجارة من المصريين العاملين بالدول الأجنبية ودول الخليج، حيث تصرح تلك الدول للبنوك وبعض الشركات العاملة المضاربة بسوق العملات، وحقق أغلب المتعاملين فيها أرباحا».

ويضيف العلي أنه لم تكن هناك في ذلك الوقت شركات تتعامل في «الفوركس» بمصر، كما أن الوعي بهذه السوق كان محدودا، وبدأنا نتعرف عليها من خلال الإنترنت، وبدأ الكثير من المصريين يتاجرون في سوق العملات من خلال شركات وبنوك عالمية، والطريقة كانت سهلة ويسيرة، فمن خلال كمبيوتر شخصي وإنترنت وحساب في البنك (من الممكن أن يكون 100 دولار) تستطيع أن تتاجر في سوق العملات، وأن تحقق أرباحا.

يروي لنا العلي أن أحد المتعاملين في سوق العملات كان صحافيا في إحدى دور الصحف الصغيرة، وكان يتعامل بمبالغ ضئيلة جدا، لكنه مع الوقت اكتسب الخبرة، وأصبح يدير أموالا له ولأصدقائه وعائلته، وخلال عامين تبدل حاله، فأصبح يمتلك صحيفة.

يقول العلي «مع بداية عملي في (الفوركس)، كان هدفي الكسب، وحققت ذلك، لكن الحلم لم يقف عند هذا الأمر، فكنت آمل في تأسيس شركة تعمل في هذا المجال، لكني اصطدمت بعدم وجود ترخيص للشركات التي تعمل في (الفوركس)». وأضاف أن «تجارة (الفوركس) ليست محرمة، فالشركات التي نستثمر من خلالها عالمية، لكن الشركات التي تعمل في هذا المجال بمصر غير مرخص بها، وبذلك فهي غير قانونية».

أما عن حالات النصب التي يتخذ أصحابها من «الفوركس» حجة لاستثمار أموالهم، فقال إن «حالات النصب كثيرة، وطرق الحصول على الأموال كثيرة أيضا، فهناك الكثير من المحتالين استخدموا البورصة في الحصول على أموال من أشخاص. والاستثمار دائما محفوف بالمخاطر، لكن يجب التأكد من الكيفية التي يتم بها».

وقامت «الشرق الأوسط» بزيارة إحدى الشركات التي تعمل في مجال «الفوركس»، بناء على نصيحة من أحد المتعاملين معها، والشركة عبارة عن شقة في عمارة سكنية أنيقة بحي مصر الجديدة بالقاهرة، نشاطها كما يظهر على اللافتة المعلقة على بابها، أنها تعمل في مجال الاستشارات المالية. عرض علينا السكرتير الخدمات التي يقدمونها، فطلبنا منه شروط المتاجرة في بورصة العملات، فقال «هناك دورة تدريبية نعقدها، ونقدم لك استشارات فنية، ونتابعك ليلا ونهارا حتى نوضح لك موقفك المالي، ومقابل ذلك نأخذ عمولة خمسة دولارات لكل 100 دولار تتداول بها في السوق»، وطلبنا العقد الذي وجدناه لشركة قبرصية، قال لنا السكرتير إنهم وكلاء تلك الشركة في مصر، ويشير العقد إلى أنهم غير مسؤولين عن أي قرارات بيع أو شراء يتخذها العميل، ودورهم يقتصر فقط على أنهم وسيط بينه وبين السوق الرئيسية للعملات.

والفرق بين العمل من خلال شركة، والعمل بشكل فردي من خلال الإنترنت، شيئان، كما وضح لنا سكرتير الشركة، أولهما المتابعة اللحظية لتعاملاتي، فمن الممكن أن أخسر كل شيء في بضع ثوان، وهو ما أتجنبه من خلال متابعة الشركة لحسابي، أما الشيء الثاني فهو أن يكون العميل متأكدا أن الشركة التي يتعامل من خلالها هي كيان حقيقي، فالكثير من المتعاملين من خلال الإنترنت يقعون فريسة لمحتالين يدعون أنهم لشركات تعمل في «الفوركس».

محمد المهدي، أحد المتعاملين في «الفوركس»، وهو شاب لم يتجاوز 25 عاما، يهوى التعامل في سوق العملات، ويقول «إنه أفضل بكثير من التعامل في البورصة المصرية، فهناك قواعد وقوانين، تسير عليها، والسوق لا تخالف تلك القواعد إلا فيما ندر، فالبيانات الاقتصادية للدول مثلا تؤثر على أداء العملات، وهذا غير موجود بالبورصة المصرية على حد زعمه، التي ترتفع أسهمها من دون أي مبررات، فالتحليل الفني غير مجد في كثير من الأحيان، كما أن التحليل المالي للشركات أيضا لا يعتمد عليه المتعاملون».

وقال لنا «مخاطر التعامل في سوق العملات كبيرة، فالمكاسب كبيرة، والخسارة كبيرة أيضا، لكن العلم والحذر مطلوبان في أي شيء»، مشيرا إلى أن أسس التعامل ببورصة العملات من خلال وكيل بمصر، يجب أولا التأكد من الشركة التي أتعامل معها، ومن مصداقيتها، ويجب أن أتأكد أن الشركة الأصلية مسجلة لدى جهة رسمية بالدولة الموجودة بها، وأن سجل الشركة نظيف وخال من أي مشكلات مالية، إلى جانب مراسلة الشركة الأم ومعرفة الضمانات التي تعطيها، ثم بعد ذلك تتأكد من أن لها وسيطا في مصر أم لا.

وأشار إلى أنه ينوي عمل شركة للتعامل في «الفوركس»، فهو أيضا يدير أموال أسرته وأصدقائه، ويقول «إن الأمر بسيط جدا، فما عليك إلا أن ترسل بريدا إلى شركة معتمدة في بلدها تعمل في هذا المجال، وتطلب منها أن تكون وكيلها في مصر، وترسل سيرتك الذاتية، ومستندات عن شركتك التي في الغالب يكون ترخيصها استشارات مالية، وبعدها تمنحك توكيلا بالتعامل مع العملاء في بلدك».

وأضاف أن شركات «الفوركس» في مصر تعتمد على ثقة عملائها فيها، فلن يقبل أي فرد غريب أن يتعامل مع شركة تحمل اسما مختلفا عن الشركة الأم، كما أن نشاطها مختلف عن النشاط الرئيسي، فالأمر يقتصر على الأصدقاء والأسرة، وشيئا فشيئا تتوسع التعاملات، وتزداد الأرباح بدلا من الاعتماد على وسيط فرعي.

وتابع «على الرغم من عدم وجود ضمانات أقدمها لعملائي، فإن هناك بعض الأفراد يتفهمون تلك الإجراءات، وأبدوا رغبتهم لي في أن أستثمر أموالهم في سوق الفوركس».

وقال «بالنسبة لي الأمر مدروس جيدا، اتفقت مع إحدى الشركات القبرصية لإعطائي توكيلا، ووافقت بالفعل بعد أن أرسلت لهم المستندات اللازمة، واتفقت معهم أن تكون الإيرادات من نسبة العمولة المأخوذة من الشركة الأم وليس من العملاء، وهذا لا تقدمه الكثير من شركات الاستشارات»، الشيء الوحيد الذي لم أعرف كيف أتعامل معه هو كيف ستظهر في حسابات شركتي إيرادات من شركة (الفوركس)، وهي من دون ترخيص، لأن هذا سيعرضني للمساءلة القانونية والدخول في متاهة غسيل الأموال والتربح الخفي بالعمل في نشاط غير نشاط الشركة من دون ترخيص أصلا».

وقال مصدر قانوني بالبنك المركزي المصري، رفض ذكر اسمه، إن «أي نشاط يصرح به في مصر يجب أن يكون له عائد اقتصادي، فمن غير المعقول إعطاء تراخيص لشركات كل تعاملاتها خارجية، ومخاطرها عالية، فما الذي يحدث في حالة وجود شركات مرخصة، تسحب السيولة من تحت أقدام البورصة، ومن البنوك، ثم تذهب تلك السيولة إلى سوق تعطي هامشا كبيرا لشراء سلعها، ثم ترغمك على بيع تلك السلع في حالة تراجع السعر، عن مستوى قيمة محفظتك الأصلية؟ وهنا فإن الخسارة تكون كبيرة، فعلى الأقل في البورصة المصرية تكون أمامك فرصة لكي تعوض خسارتك، حتى لو تعاملت بالشراء بالهامش أو اقترضت من شركة السمسرة».

المتعاملون في سوق «الفوركس» يرون أن منح تراخيص لشركات وساطة تعمل في مجال «الفوركس» يجعل الأفراد المتعاملين في هذه السوق آمنين، كما أنه من الممكن وضع قوانين تفرض قيودا على المتعاملين في هذه السوق، وشركات الوساطة، فالقوانين توضع لمنع أو الحد من المخاطر الاستثمار في هذه السوق، وأكدوا أن وجود شركات شرعية تعمل في هذا المجال في مصر سيحمي الكثير من خطر عمليات النصب التي تتم بسبب عدم الوعي. وأما التخوف الخاص بسحب السيولة من البورصة ومن البنوك، فأشار المتعاملون إلى أن القانون يمكن أن يمنع المؤسسات المالية في مصر من التعامل مع هذا النشاط كون مخاطره عالية، وبذلك يكون هناك إطار شرعي يتعامل الأفراد من خلاله ويتحملون بذلك وحدهم مخاطر تعاملاتهم.

* «الفوركس» بمصر في سطور - بدأت «الفوركس» في الانتشار بمصر بنهاية عام 2008.

- عرفها المصريون من خلال أقرانهم العاملين في الخارج.

- تحولت تجارة «الفوركس» إلى ظاهرة بداية عام 2009 مع استمرار هبوط البورصة المصرية.

- «الفوركس» لا تخضع لرقابة البنك المركزي المصري أو الهيئة العامة للرقابة المالية.

- الحكومة المصرية تمنع منح ترخيص لشركات الوساطة في «الفوركس» وتخضع المخالفين للمساءلة القانونية.

- الكثير من شركات الوساطة في محافظات مصر تعمل في سوق العملات من خلال ترخيص استشارات مالية.

- الشركات المصرية تعمل من خلال توكيل تمنحه إحدى الشركات العالمية من دول كبيرة.

- محتالون اتخذوا من «الفوركس» غطاء لجمع الأموال.

- الحكومة المصرية ترى أن «الفوركس» لا تلبي ضرورة اقتصادية، وتخاف من تأثيرها على البورصة وودائع البنوك.

- المتعاملون يطالبون بقانون ينظم تعاملات الأفراد في السوق، ويمنع تعاملات المؤسسات، ويمنح رخصا لشركات الوساطة.