الاقتصاد البريطاني يرزح بين فكي كماشة سعر الفائدة

سوق العقارات أول وأكبر المستفيدين من بقائه منخفضا 0.5% بعد أن كان5.75% قبل عامين

TT

يتعرض بنك إنجلترا المركزي إلى ضغوط كبيرة من جانبين متجاذبين، فمن ناحية يطالب بعض الاقتصاديين بأن يبدأ البنك المركزي في رفع سعر الفائدة للحد من ضغوط التضخم. ومن الناحية الأخرى يرى فريق مناوئ أن سعر الفائدة يجب أن يبقى متدنيا، لكي لا يعرقل النمو الاقتصادي، خصوصا أنه أصلا بطيء، وسيزداد بطئا بسبب التخفيضات الكبيرة في الإنفاق الحكومي. وكما هي العادة، تكون سوق العقارات أول وأكبر المتأثرين بتغيرات سعر الفائدة. أولا لأنها القطاع الذي يجذب أكبر كتلة نقدية في الاقتصاد، وثانيا لأن التغيير في سعر الفائدة الأساسي (الذي يحدده البنك المركزي) ينتقل مباشرة، بين ليلة وضحاها، إلى أسعار الفائدة على القروض العقارية، ومن ثم على أسعار العقارات.

أما الذين يطالبون البنك برفع سعر الفائدة الأساسي، البالغ حاليا رقما قياسيا متدنيا (0.5 في المائة)، يتحججون بأن معدل التضخم بلغ الشهر الماضي 3.2 في المائة بينما المعدل المستهدف من الحكومة يبلغ 2 في المائة فقط. ويأتي على قمة هذا الفريق من الاقتصاديين أندو سنتنس، عضو مجلس إدارة بنك إنجلترا المركزي، وهو العضو الوحيد الذي يطالب البنك برفع سعر الفائدة من 0.5 في المائة إلى 0.75 في المائة خلال هذا العام. وفي المقابل، فإن المجموعة المناوئة لهذه الفكرة تلقت دعما قويا عندما طالبت مؤسسة «إرنست آند يونغ» الشهيرة أن يُبقي بنك إنجلترا المركزي على سعر الفائدة الأساسي عند مستواه الحالي حتى عام 2014، لمواجهة تبعات خفض الإنفاق الحكومي. وفي هذا الصدد نقلت صحيفة الـ«دايلي تلغراف» قول البروفسور بيتر سبنسر، الذي أشرف على تقرير «إرنست آند يونغ» قوله إن معدل التضخم سيبقى أعلى من الرقم المستهدف الرسمي في العام ونصف العام المقبلين، نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، والزيادة في ضريبة المبيعات، لكن التضخم سيبدأ في الانخفاض (إلى أقل من 2 في المائة مع اضمحلال تلك العوامل، وتأثير التوسّع في الاقتصاد على الأسعار والأجور). وكان مكتب ضبط الميزانية قد قال إنه يتوقع أن يبدأ البنك في رفع سعر الفائدة العام المقبل. يُذكر أن سعر الفائدة في بريطانيا بلغ أدنى مستوى له على الإطلاق منذ مارس (آذار) 2009، حين انخفض إلى 0.5 في المائة، بعد أن كان قد بلغ 5.75 في المائة، في يوليو (تموز) 2007.

* سوق العقارات

* بالطبع تأثرت أسعار العقارات في بريطانيا سلبا بأزمة الائتمان التي ضربت الاقتصاد العالمي، خاصة الغربي، بدءا من النصف الثاني من عام 2007. ووفق إحصاءات مكتب «سجلات الأراضي»، الذي يسجل جميع مبيعات العقارات في بريطانيا، فإن متوسط سعر العقارات بلغ قمته في يونيو (حزيران) من عام 2007، إذ ارتفع بمعدل 4.8 في المائة منذ مطلع ذلك العام، ثم بدأ في الهبوط ليصل إلى نسبة الصفر في أبريل (نيسان) من عام 2008، أي أن الأسعار لم تكن ترتفع أو تنخفض. لكنها واصلت التراجع مع اشتداد الأزمة المالية لتفقد نحو 17 في المائة من قيمتها (معدل تغيير - 17 في المائة) في فبراير (شباط) من عام 2009، وهو الوقت الذي انخفض فيه سعر الفائدة إلى 0.5 في المائة. ومع ضخ الحكومة مليارات الدولارات لإنعاش الاقتصاد، وبدء انحسار الأزمة المالية، وبالطبع بعد أن انخفض سعر الفائدة إلى درجة قياسية، فقد راحت أسعار العقارات ترتفع تدريجيا حتى عادت الأسعار إلى ما كانت عليه تقريبا في مطلع عام 2007. وباختصار، نرى أن الأسعار خلال السنوات الثلاث الماضية فقدت الكثير من قيمتها، لكنها عادت واستعادت معظمها، بعد أن استقرت الأوضاع، وحافظ بنك إنجلترا المركزي على سعر الفائدة المنخفض لأقل درجة. لكن البعض يخشى من أن يؤدي برنامج التقشف الاقتصادي الذي أعلنته حكومة ديفيد كاميرون إلى دفع الأسعار نحو الهبوط مرة أخرى.

* المستثمرون العرب

* وعلى صعيد المستثمرين العرب أوضح بيتر هاتون، الرئيس التنفيذي لشركة «كاسل بروبرتي» العقارية في لندن، لـ«الشرق الأوسط» أن استثمارات كبار الخليجيين في سوق العقار في لندن تركزت على قطاع الفنادق الفاخرة من درجة خمسة نجوم، مثل فندق «شيراتون بارك تاور»، وفندق «لامبرا» بالقرب من «هايد بارك كورنر»، وفندق «كارلتون تاور»، وهي جميعها فنادق تعتبر من معالم لندن الرئيسية، وتقع في أحياء فاخرة للغاية. كما شملت استثماراتهم عددا من المباني التجارية الكبيرة، فضلا عن المباني السكنية التي تستخدم للإيجار وتدر أرباحا وفيرة وثابتة. ومن جانبه أكد ناجيل ماركر من وكالة «ونجمور» العقارية في حي المال في لندن، لـ«الشرق الأوسط» أن عددا من المستثمرين العرب حقق أرباحا كبيرة في سوق العقارات خلال الأعوام السابقة لأزمة الائتمان. ولكن على الرغم من ذلك فقد أكد عدد من سماسرة العقارات في سوق لندن أن الاستثمارات العربية في العقارات بشكل عام تضاءلت خلال السنوات العشر الماضية، مقارنة بالسبعينات والثمانينات، على الرغم من أن عائداتها لا تزال مغرية. وعزا هؤلاء تراجع الإقبال الخليجي على العاصمة لندن إلى عدة عوامل، منها أن المستثمرين الخليجيين وزعوا استثماراتهم على دول أوروبية وآسيوية مختلفة، بعدما كانوا منذ الخمسينات يعرفون سوقي لندن وباريس فقط.

كما أنهم أصبحوا يغامرون في البورصات والأسواق المالية التي كانوا يتفادونها في الماضي. وبالطبع جاء كل هذا على حساب سوق العقارات. وفي هذا الصدد قال هاتون إنه لا توجد في بريطانيا أي جهة إحصائية رسمية لحصر الممتلكات العربية في سوق العقارات بدقة.. فكبار السماسرة في وسط المدينة هم الذين يعرفون اتجاهات السوق. لكن بول فيرنون، من وكالة «ستيرلنغ» في حي نايتسبريج الشهير، قال لـ«الشرق الأوسط» إن هناك اتجاهين جديدين وسط المستثمرين الخليجيين في العقارات البريطانية، وهما: الإقبال على شراء العقارات التجارية (مثل المكاتب والشركات والمحلات التجارية) بدلا من العقارات السكنية، وثانيا الخروج عن وسط المدينة وشراء مساكن في الأحياء الراقية في أطراف لندن الريفية الطابع مثل هامستيد وساري وبارنت، التي تمتلئ بالفيلات وتشبه الريف الإنجليزي.

* عقارات قطر

* وفي عام 2006 اشترت هيئة الاستثمار القطرية أكبر سلسلة من بيوت الرعاية الصحية البريطانية «فورسيزونز هيلث كير» بمبلغ 1.4 مليار جنيه إسترليني. ويملك القطريون 80 في المائة من مشروع «برج شارد أوف غلاس» قرب جسر لندن بريدج، الذي سيفتتح عام 2012 كأطول مبنى في أوروبا، إذ استثمرت «قطر القابضة» فيه ملياري جنيه إسترليني مطلع عام 2008. وبنهاية العام الماضي اشترت شركة «ديار»، الجناح العقاري لهيئة الاستثمار القطرية، مبنى السفارة الأميركية في جروزفنر سكوير في قلب لندن. وقُدرت قيمة المبنى بنصف مليار جنيه إسترليني قبل عامين. ومع أن القطريين لم يعلنوا عن قيمة الصفقة مع الأميركيين، فإنه يعتقد أنهم دفعوا نحو 300 مليون جنيه إسترليني. كما اشترى القطريون ثكنات تشيلسي، ليس بعيدا عن هارودز، ومساحتها نحو 13 فدانا من وزارة الدفاع البريطانية قبل ثلاث سنوات تقريبا. وتخطط شركة «ديار» القطرية لمشروع إسكاني باستثمارات تصل إلى 3 مليارات جنيه إسترليني مكان ثكنات تشيلسي.

* مليارديرات أسهموا في أزمة الديون العقارية

* وكانت أزمة الائتمان العقاري في بريطانيا قد تفاقمت عندما سجلت البنوك العقارية نسبة عالية من الديون الهالكة أو المعدمة (غير المستردة بسبب عدم استطاعة أصحابها على سدادها)، مما سبب بدوره شحا في السيولة لدى البنوك. غير أن الشيء المدهش في أزمة الديون الهالكة أنها لا تشمل المواطنين العاديين، الذين كثيرا ما يفشلون في سداد أقساطهم الشهرية، بل تشمل المليونيرات والمليارديرات أيضا. فعلى سبيل المثال، يُعرف الملياردير البريطاني، ستيف بولتبي بروك، بحبه الهائل للمخاطرة، ويمتد هذا الولع من حياته الخاصة إلى معاملاته المالية. فقد أسس بهدوء، مع شقيقه كليف، وهو مزارع ومربي ماشية يعيش بالقرب من مقاطعة هيرفورد، شركة خاصة تعمل في شراء وبيع المجمعات التجارية على امتداد أوروبا - من حي هاونسلو في غرب لندن إلى هيلسنكي في فنلندا. ويبلغ رأسمال تلك المجمعات نحو 2.5 مليار دولار، منها نحو 1.8 مليار دولار عبارة عن ديون من البنوك العقارية. وبذلك يكون الأخوان قد انضما، من حيث لا يعلمان، إلى عدد من مستثمري العقارات الكبار الذين يمولون استثماراتهم عن طريق الاستدانة المكثفة من المصارف.

ومن هؤلاء أيضا نيك ليزلو رجل الأعمال شديد الأناقة، والإخوة تشكنكوز، وليو نوي الذي لا يحب الأضواء، وكذلك الأخوان ليفنغستون. فكل هؤلاء حققوا ثروات طائلة من الاستثمار في العقارات خلال السنوات العشر الماضية. وتوضح دراسة أعدتها جامعة مونتفورت البريطانية أنه في يوليو من عام 2006 كان إجمالي ديون قطاع العقارات قد بلغ رقما قياسيا، 176 مليار جنيه إسترليني (نحو 356 مليار دولار)، مقارنة بـ157 مليارا تحققت في نهاية عام 2005، أي بزيادة نسبتها 12 في المائة.

ومثال آخر هو بولتبي بروك، مهندس ميكانيكي يبلغ من العمر 45 عاما، بينما يبلغ شقيقه 43 عاما، ومهنته الأساسية مسّاح قانوني، وهما ابنان لمضارب في سوق الأسهم. وكانت بدايتهما في مزرعة في مقاطعة ستراتفوردشير، ثم قاما ببدء العمل في العقارات في عام 1987 بالشراء والبناء في مناطق صناعية في أطراف المدينة، وتحويل المباني إلى مكاتب. وبعد أن أفلتا بالكاد من تدهور سوق العقارات في أواخر الثمانينات، اتجها إلى شراء مجمعات تجارية على امتداد المملكة المتحدة والقارة الأوروبية. وقد نجح الشقيقان منذ ذلك الوقت في بناء ثروة تبلغ مئات الملايين من الدولارات، وحققا نجاحا بالغا، بما في ذلك امتلاكهما لطائرة خاصة ومروحية. وعلى الرغم من كل ذلك النجاح فإنهما من أقل مستثمري العقارات المعتمدين على الاستدانة، شهرة. ويدير الأخوان شركة «بولتبي» من مكاتب تقع في حي تشيلسي الراقي في لندن، ونُقل عن بولتبي بروك أنه اعترض في غرفة اجتماعات مجلس الإدارة على وصف شركته بأنها شركة مخاطرة تعتمد على المغامرة.

يعد نيك ليزلاو (47 عاما)، الذي يدير شركة «برستبري» العقارية، أكثر أعلام هذا القطاع شهرة. وقد قام ببناء إمبراطوريته المالية ذات الـ3.90 مليار دولار بالشراكة مع سير توم هانتر ومصرف «رويال بانك أوف سكوتلاند». وبلغ تمويل شركته من الديون المصرفية أكثر من 2.8 مليار دولار. ويمزح الملياردير الذي تقدر ثروته الشخصية بـ200 مليون جنيه إسترليني، قائلا: «ينبغي أن تكون أبله تماما كي تفشل في تحقيق أرباح من العقارات التجارية في السنوات الماضية. فكل ما كان عليك فعله هو ببساطة.. امتلاكها».