عشرات الآلاف من الشبان المغاربة يحبسون أنفاسهم خشية أن يتحولوا إلى صفوف العاطلين

المغرب وفرنسا يتجهان لتقاسم كعكة «مراكز الاتصال».. والرقم وصل إلى 300 مليون يورو

نشاط مراكز الاتصال تمكن العام الماضي من تحقيق عائدات تصدير بلغت 310 ملايين يورو («الشرق الأوسط»)
TT

عشرات الآلاف من الشبان المغاربة لا يعرفون على وجه التدقيق، ما إذا كانوا سينضمون إلى صفوف العاطلين، في بلد يصطدم باستمرار خريجو الجامعات أمام البرلمان في الرباط مع قوات مكافحة الشغب، خلال مظاهراتهم المستمرة للمطالبة بتوظيفهم. وينتظر المسؤولون الحكوميون المغاربة، ورجال أعمال وفاعلون اقتصاديون في قطاع «مراكز الاتصال» Call centre الأسبوع الأول من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، للاطمئنان على مصير القطاع الذي يشغل حاليا 28 ألفا من الشباب، والذي تعول عليه الحكومة المغربية في توظيف 30 ألف مغربي آخرين للعمل به خلال الست سنوات المقبلة.

وستكشف الحكومة الفرنسية، خلال ملتقى الشركات الفرنسية العاملة في قطاع «مراكز النداء» الذي سينظم بالعاصمة باريس في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، عن قرارها النهائي الذي ستتبناه للتعامل مع الشركات الفرنسية التي صدرت وظائفها في «مراكز الاتصال»، التي تعرف في المغرب باسم «مراكز النداء»، خارج الأراضي الفرنسية. وكان إيريك فورت وزير العمل الفرنسي قد أعلن الشهر الماضي أنه يبحث اعتماد قرار من أجل فرض ضرائب على شركات «مراكز الاتصال» الفرنسية العاملة في الخارج، التي تقدم خدماتها للفرنسيين انطلاقا من الخارج نحو فرنسا، إلى جانب وضع مدونة أخلاقية للمقاولات من أجل الاعتماد على خدمات «مراكز الاتصال» العاملة التي توجد فوق الأراضي الفرنسية، مقابل ذلك أعلن المسؤول الفرنسي عزم الحكومة الفرنسية وضع تحفيزات للشركات الفرنسية من أجل إعادة أنشطتها إلى فرنسا، وكذلك وضع قائمة بأسوأ الخدمات التي تقدم من فروع «مراكز الاتصال» العاملة خارج الأراضي الفرنسية. وأثار هذا الإعلان حفيظة المسؤولين المغاربة إلى جانب القطاع الخاص المغربي العامل في القطاع، ذلك أن معظم الشركات العاملة في أنشطة «مراكز الاتصال» بالمغرب هي مجموعات استثمارية فرنسية.

وأبدى إعلان وزير العمل الفرنسي نيته وضع إجراءات شبه عقابية ضد الشركات الفرنسية العاملة في الخارج في قطاع خدمات مراكز خدمة العملاء الموجهة للفرنسيين داخل الأراضي الفرنسية، ودعا المسؤولون المغاربة، خاصة أحمد رضا الشامي وزير التجارة والصناعة والتكنولوجيا الحديثة، إلى المبادرة بإجراء اتصالات مباشرة مع الجهات المسؤولة المعنية في العاصمة باريس في الوقت الذي عبر فيه المهنيون المغاربة عن عدم تقبلهم لأي قرار يسير في اتجاه الإضرار بمصالح هذا القطاع، الذي يقولون إنه يعيش فترة تحول كبيرة. وتربط «الجمعية المغربية لمراكز النداء» تصريح المسؤول الفرنسي بتداعيات الأزمة الاقتصادية التي تمر بها فرنسا، من جهة إلى جانب إعلان مجموعة «تليبيرفورمونس» الفرنسية العاملة في قطاع مراكز الاتصال، إغلاقها ثمانية من فروعها في فرنسا، في حين وضعت خطة ترمي من ورائها لتقوية وتعزيز نشاطها في الخارج، وأعلنت في هذا الإطار عزمها إنشاء «مركز اتصال» في مدينة تمارة (جنوب العاصمة الرباط).

لكن يبدو أن الأمور تسير نحو الانفراج في الوقت الحالي، وفي هذا السياق يتحدث المسؤولون والمهنيون المغاربة بلغة متفائلة عن تغيير واضح وجذري في الموقف الفرنسي من نقل أنشطة شركات مراكز الاتصال المحلية إلى الخارج، في الوقت الذي يواصل فيه الطرف الفرنسي تكتمه، على طبيعة الموقف الذي سيتخذه للتعامل مع قضية انتقال الشركات الفرنسية للخارج من أجل التخفيض من تكلفة خدماتها الموجهة لزبائنها داخل فرنسا.

وعبر الوزير أحمد رضا الشامي، الذي يقود المفاوضات مع الطرف الفرنسي، عن تفاؤله وقال لـ«الشرق الأوسط» «أنا متفائل جدا والمشاورات مع الجانب الفرنسي متواصلة، من أجل الوصول إلى أفضل الحلول».

يوسف الشرايبي، رئيس الجمعية المغربية لمراكز النداء، عبر من جهته عن تفاؤله من أن يتخذ الفرنسيون موقفا إيجابيا. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «الأمور تسير نحو الأفضل». وأضاف «الفرنسيون واعون تماما بأهمية قطاع مراكز الاتصال بالنسبة للاقتصاد المغربي، وأخبرونا بشكل صريح أنهم لن يعرضوا المصالح المغربية إلى أضرار».

ويراهن المغرب على الاستثمارات في القطاعات التكنولوجية الجديدة وقطاعات الخدمات، ويأتي في مقدمة هذه القطاعات نشاط مراكز الاتصال الذي تمكن العام الماضي من تحقيق رقم معاملات (عائدات تصدير خدمات مراكز النداء نحو الخارج) فاق 3.3 مليار درهم (ما يناهز 310 ملايين يورو) مسجلا بذلك زيادة فاقت 13 في المائة مقارنة مع سنة 2008.

ويقول يوسف الشرايبي إن القطاع سجل في النصف الأول من العام الحالي نموا مماثلا، وزاد مؤكدا «سجلنا نفس وتيرة النمو التي تم تحقيقها العام الماضي، أي زائد 13 في المائة على الرغم من الأزمة التي ضربت مجموعة من الاقتصاديات العالمية بما فيها الاقتصاد الأوروبي الذي نشتغل معه بنسبة كبيرة، وكافة المؤشرات تؤكد أن قطاع مراكز الاتصال سيواصل تحقيق مزيد من النمو في السنوات المقبلة وهو ما يفسر مواصلة قدوم عدد من الفاعلين الأجانب للاستثمار في السوق المغربية نظرا لتنافسية قطاعها وكفاءة مواردها البشرية التي تتلاءم مع حاجيات الشركات الأوروبية خاصة الفرنسية منها».

ويواصل الشرايبي قوله «لا بد من التأكيد أن شركات مراكز الاتصال الفرنسية تمثل نسبة كبيرة من بين الشركات المتمركزة والعاملة في القطاع في المدن المغربية، وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن الدولة الفرنسية لا ترغب أيضا في المساس بمصالح شركاتها الوطنية».

وأضاف «الفرنسيون أبدوا تفهما للموقف المغربي وعبروا لنا بشكل صريح أنهم سيمضون في إعمال حلول تأخذ بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية المغربية في هذا الشأن، الآن لم يعد المسؤولون الفرنسيون يتحدثون عن إجراءات (لمعاقبة) الشركات الفرنسية التي تستثمر خارج الأراضي الفرنسية بل أصبحنا نتحدث عن إجراءات تحفيزية لتشجيعها على تطوير أنشطتها في فرنسا لخلق وظائف في فرنسا، وبالتالي تقاسم النمو الكبير الذي يتضمنه القطاع سواء في فرنسا أو في المغرب».

وقال يوسف الشرايبي «المغرب وفرنسا يسيران في اتجاه تقاسم كعكة تطور قطاع مراكز الاتصال، وفي هذا الإطار عقدنا لقاءات مكثفة مع المسؤولين الفرنسيين مع وزير العمل الفرنسي إيريك فورت».

وأوضح في السياق نفسه «نحن في مباحثات متواصلة مع الطرف الفرنسي من أجل تبني حلول تؤمن الاستفادة من آفاق النمو الكبيرة التي يوفرها القطاع بالنسبة للبلدين معا، أي فرنسا والمغرب، والمشاورات لم تتوقف طوال فصل الصيف، ونحن واثقون من الموقف الذي سيتخذه الفرنسيون في هذا الشأن». وأضاف «قال لنا الفرنسيون بشكل صريح: نحن لا نرغب في التأثير سلبا على الأوضاع الاقتصادية للمغرب بما فيها هذا القطاع، وسنعمل على إيجاد حلول واقعية تأخذ بعين الاعتبار مصلحة البلدين معا».

واعتبر الشرايبي أن هذه التصريحات مطمئنة، وتجعل الطرف المغربي يواصل المشاورات مع الجانب الفرنسي بروح عالية وثقة كبيرة.

وأكد رئيس الجمعية المغربية لمراكز النداء أن المغرب يستقطب 50 في المائة من الاستثمارات الفرنسية في مجال مراكز الخدمات الموجهة للخارج في حين تقتسم باقي الدول النسبة المتبقية، مثل تونس التي تستقطب 20 في المائة، من هذه الاستثمارات إلى جانب السنغال وجزر موريس التي توجد في لائحة الدول المنافسة للمغرب.

وقال في هذا الاتجاه «المهم هو أن المغرب يتقدم تونس بشكل كبير سواء تعلق الأمر بحجم الشركات أو على مستوى المداخيل التي تؤمنها الشركات العاملة في القطاع»، وأوضح الشرايبي «لا بد من أن أؤكد أن تنافسية المغرب على مستوى قطاع مراكز الاتصال، لا تقوم على تكلفة اليد العاملة، حيث تصل رواتب المبتدئين إلى 4 آلاف درهم (460 دولارا) في المغرب بالنسبة للمبتدئين بطبيعة الحال مقابل 3 آلاف درهم في تونس مثلا (350 دولارا) لكنها تعتمد بالدرجة الأساسية على جودة الخدمات وكفاءة اليد العاملة المغربية المشتغلة في هذا المجال الدقيق الذي يتطلب مهارات عالية جدا». وأضاف أن الشركات الفرنسية تفضل التوجه للسوق المغربية على الرغم من ارتفاع تكلفة يدها العاملة بنسبة 30 في المائة مقارنة مع تونس مثلا، لأن هذه المهنة تعتمد بالدرجة الأولى على الجودة، كما أن تنافسية المغرب تقوم أيضا على قربه الجغرافي من القارة الأوروبية. وقال «المغرب ينافس باقي الدول من خلال موارده البشرية بالدرجة الأولى ونحن استطعنا رفع هذا التحدي وما زلنا نعمل على تأمين تأهيل متواصل لها».

وأشار إلى أن المغرب يتوفر على موارد بشرية قادرة على مسايرة متطلبات الشركات الفرنسية الراغبة في نقل خدمات مراكز خدمة عملائها والاستفادة من القرب الجغرافي والثقافي الذي يجمع المغرب وفرنسا.

وأوضح الشرايبي أن الجواب النهائي للفرنسيين سيعلن عنه في بداية الشهر المقبل، مرجحا في نفس الوقت أن الفرنسيين لن يتجهوا صوب فرض إجراءات من شأنها المساس بمصالحه الاقتصادية في هذا القطاع أو بمصالح الشركات العاملة فيه.

وقال في نفس الإطار «هناك مصالح اقتصادية سياسية واقتصادية تتجاوز بكثير مراكز الاتصال، كما أن الشركات الفرنسية التي استثمرت في المغرب لا يمكنها أن تتراجع خطوات إلى الوراء لأنها استثمرت بقوة في هذا القطاع».

ويرى الشرايبي، الذي يقود أكبر جمعية مهنية لشركات مراكز النداء في المغرب، أن كافة المؤشرات والدراسات المنجزة من طرف المهنيين تؤكد أن القطاع يتمتع بآفاق واعدة، وقال «نحن كمهنيين نتوقع أن يساهم قطاع مراكز النداء في مواصلة خلق ما يزيد على خمسة آلاف وظيفة جديدة سنويا خلال السنوات المقبلة».

ويوظف قطاع مراكز الاتصال حاليا نحو 28 ألف شخص، ويتوقع المهنيون أنه بعد أقل من ست سنوات سيتضاعف هذا العدد ليبلغ إجمالي مناصب الشغل التي سيؤمنها القطاع نحو 58 ألف وظيفة، وهذا ما يؤكد الأهمية الكبيرة التي يشكلها القطاع بالنسبة لسوق العمل في المغرب، ويفسر في نفس الوقت التركيز الكبير للمسؤولين الحكوميين المغاربة على الرفع من مستوى التكوين الذي تؤمنه مؤسسات التدريب في هذا المجال للشباب المغربي.

ولتأمين توفير خمسة آلاف من اليد العاملة المؤهلة سنويا، وضعت الحكومة بتعاون مع المهنيين المغاربة خطة مستعجلة لتدريب المؤهلين من الشباب لدخول سوق العمل في هذا القطاع الذي يتطلب مهارات لغوية وتقنية عالية. وأكد يوسف الشرايبي أنه من أجل هذا الغرض أسس المغرب أكاديمية متطورة ستساهم في توفير 400 ساعة من التعليم المجاني للمتدربين المغاربة الراغبين في العمل بهذا القطاع الحيوي.

لكن هذه المجهودات التي يبذلها الطرف المغربي لرفع مستوى تنافسية قطاعه، وتشجيع الشركات (خاصة الفرنسية منها) لفتح فروع لها داخل تراب المغرب، قد تذهب أدراج الرياح إذا قرر الفرنسيون تضييق الخناق على الشركات التي تعمل في الخارج مما سيضطرها إلى العودة إلى الداخل. لكن المسؤولين المغاربة يواصلون مجهوداتهم الحثيثة من أجل إقناع الجانب الفرنسي بعدم اتخاذ أي إجراء من شأنه الإضرار بمصالح القطاع سواء بالنسبة للجانب المغربي أو بالنسبة للشركات الفرنسية التي تعمل حاليا انطلاقا من الأراضي المغربية، قبل بداية أكتوبر المقبل.

* الاستثمارات الفرنسية والإسبانية في المقدمة

* تحتل فرنسا المرتبة الأولى التي يستقطب منها المغرب الاستثمارات الأجنبية الموجهة لقطاع مراكز الاتصال، حيث تغري السلطات المغربية الشركات الفرنسية خصوصا على مستوى الموارد البشرية التي تجعل منه نقطة الجذب المفضلة. والسوق الثانية التي يستقطب منها المغرب الاستثمارات في قطاع مراكز الاتصال هي إسبانيا، التي قامت مجموعة هامة من كبريات مجموعاتها العاملة في المجال بنقل جزء من أنشطتها نحو الشمال المغربي، خصوصا في مدينتي طنجة وتطوان، التي يشتهر شبابها بإتقانهم التام ليس فقط اللغة الإسبانية، بل يتقنون أيضا أهم لهجات الإسبانية المحلية بحكم القرب الجغرافي. ويعتبر قطاع مراكز الاتصال الإسباني من الأسواق المهمة التي توفر للمغرب فرص أعمال واعدة، وتمكن المغرب من جذب كبريات المجموعات الاستثمارية منذ أكثر من عقد من الزمن عندما أقدمت مجموعة «تليفونيك» للاتصالات الهاتفية بنقل جزء هام من أنشطة العلاقة مع زبائنها في إسبانيا إلى شركة مغربية. كما أن هناك دولا أخرى تتيح للمغرب بعض فرص الأعمال، لكن المهنيين لا يخفون اقتناعهم بأن فرنسا وإسبانيا وبعض الدول الأوروبية هي التي توفر للمغرب آفاقا واعدة على صعيد استقطاب استثمارات في هذا القطاع.

ويبلغ عدد مراكز الاتصال العاملة في المغرب نحو 250 مركزا، وهي تنقسم إلى شركات التسويق عبر الهاتف، التي تشكل نسبة كبيرة من هذا المجموع، أما الشق الثاني فيتعلق بالشركات التي يوكل إليها إدارة الجوانب المتعلقة بالعلاقات مع الزبائن، سواء للشركات العاملة داخل التراب الأوروبي أو داخل المغرب. يبلغ عدد الشركات الكبرى نحو 20 وحدة، وهي تشغل مجتمعة نحو 20 في المائة من مجموع الأيدي العاملة في القطاع، أي أكثر من 20 ألف شخص، أما الـ8000 وظيفة التي يوفرها القطاع فتؤمنها الشركات الصغرى العاملة في القطاع.