بعد الأزمة المالية.. دبي تمضي في مشاريعها لكن بحذر

تسعى لاستعادة مركزها البارز بين الغرب المتقدم صناعيا والشرق الأوسط الغني بالنفط

احد المشاريع في دبي («نيويورك تايمز»)
TT

صدرت في دبي قرارات بإرجاء تنفيذ مشروعي بناء نسخة مشابهة لمنطقة «لاس فيغاس ستريب» وأيضا هرم على غرار أهرامات الجيزة الشهيرة بحيث يتلألأ في الظلام. ومع ذلك، ينهمك العمال على بعد بضعة أميال فقط في العمل في سلسلة من المشروعات المدعومة حكوميا تتميز بطابع عملي أكبر بكثير.

فعلى سبيل المثال، تتصاعد في صحراء دبي أبنية مطار ضخم - يبلغ قرابة حجم مطار هيثرو في لندن - مصمم بهدف نقل الشحنات والأفراد إلى مدن مجاورة من المتوقع أن تشهد ازدهارا خلال العقد القادم.

كما يجري توسيع الطرق السريعة بهدف التسريع من حركة نقل السلع إلى المطار من السفن التي ترسو بميناء جبل علي القريب، الذي يعد الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط، ليجري نقلها عبر طرق نقل جوية. في الوقت ذاته، ينتشر نظام أنفاق عبر المدينة، في خضم آمال بأن يتدفق الناس مجددا على هذه المدينة مع استعادة الاقتصاد العالمي نشاطه.

وفي أعقاب أزمة الديون التي ضربت «دبي العالمية»، الشركة الاستثمارية الحكومية العملاقة، العام الماضي بسبب التبذير، بدأت دبي في العودة مجددا للتركيز على الأساسيات.

وعليه، بدأت تخرج مشروعات مثل الجزيرة الاصطناعية العملاقة على شكل نخلة من دائرة الضوء ليحل محلها أولويات ذات طابع برجماتي أكبر ترمي لاستعادة مكانة دبي كمركز تجاري بارز بين الغرب المتقدم صناعيا والشرق الأوسط الغني بالنفط.

في هذا الصدد، قال جيم كرين، مؤلف كتاب «مدينة الذهب» حول تاريخ دبي: «بينما ظل العالم قابعا في حالة من الركود، لم تتوقف دبي لحظة عن بناء مطار وشبكة لوجستية ضخمة، وذلك كي يكونوا مستعدين عندما يستعيد الاقتصاد العالمي عافيته».

ورغم اقتراب دبي من حافة الهاوية الاقتصادية، فما يزال اقتصاد الإمارة يحتل مكانة بارزة باعتباره أكثر اقتصاديات الشرق الأوسط اندماجا في الاقتصاد العالمي، مع تمتعها بقطاعات قوية مثل الصرافة والضيافة، في الوقت الذي ما يزال الغموض محيطا بالنظام القانوني وصنع السياسات الحكومية.

ومع أن النظام الأمني الذي يتولى إدارة كاميرات بمختلف أرجاء دبي، وتشجيع السلطات الأفراد على الإبلاغ عن أنماط السلوك «الضارة» التي تنتهك أيا من المعايير الأخلاقية غير المعلن عنها الخاصة بدبي، تبقى هذه المدينة المجتمع الأكثر تسامحا وتميزا بطابع غربي داخل منطقة تجابه الصعود في التيار الأصولي الإسلامي.

في هذا الصدد، أكد سيمون ويليامز، المحلل لدى مصرف «إتش إس بي سي» في دبي: «ليس هناك أي مكان في نطاق ألف ميل من هنا نجح في مجرد الاقتراب مما حققته دبي. إنها تتعامل الآن مع تداعيات جهود إبطاء حركتها السريعة، لكن سرعان ما ستستعيد نموها مجددا».

إلا أنه من أجل تحقيق ذلك، تضطر دبي إلى كبح جماح بعض المبالغات والتجاوزات. ونظرا لشعورهم بالألم من الدعاية السلبية التي تعرضوا لها بسبب التبذير، عمدت قيادات الإمارة للتخلص من صانعي القرارات أصحاب الميول الغربية الذين ساعدوا في تشجيع الطموحات الهائلة لحاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.

والآن، أصبحت بعض عائلات دبي التجارية الأكثر حذرا تتمتع بنفوذ أكبر، بما في ذلك أحمد حميد الطيار، الذي اشترت إمبراطوريته التجارية العاملة بمجال بيع التجزئة «بلومينغديل» وعلامات تجارية أميركية أخرى كبرى لصالح دبي، وعلي راشد أحمد لوته، الذي يحتل أفراد عائلته العاملة بمجال التجارية مناصب حكومية رفيعة.

من ناحيته، قال ستيفين بلاكويل، الخبير المستقل بشؤون الشرق الأوسط: «هناك موجة جديدة من المحافظة تجتاح دبي».

الواضح أن دبي ما تزال تواجه عقبات كبرى - خاصة الشكوك داخل الولايات المتحدة وأوروبا المحيطة بإمكانات نموها، وهي مناطق تسبب تباطؤ عجلة النمو الاقتصادي بها إلى التأثير سلبا على النشاط التجاري هنا.

الملاحظ أن اقتصاد دبي يكاد يكون معتمدا بشكل كامل على قطاع الخدمات، ويخلو من التصنيع أو الإنتاج الزراعي أو عائدات النفط، الأمر الذي يجعله معتمدا بدرجة بالغة على التوجهات العالمية بمجالات التجارة والصرافة والسياحة. كما أنه من غير الواضح بعد إلى أي مدى أثرت أزمة «دبي وورلد» الأموال اللازمة لإنجاز مشروعات الأشغال العامة الحساسة سريعا. إلى جانب ذلك، أسفر العرض المفرط في المساحات المتوافرة من المباني الإدارية والسكنية عن انهيار أسعار العقارات خارج الضاحية التجارية الرئيسة - رغم استمرار شركات التنمية العقارية في بناء غابات من ناطحات السحاب على أطراف المدينة، الأمر الذي من المحتمل أن يسبب مزيدا من التراجع في الأسعار ويحد من أي تحركات نحو استعادة الاقتصاد عافيته.

كشفت الأزمة العقارية عن المشكلات العميقة في الإدارة فهناك الآلاف من نزاعات الملكية في منطقة قانونية مبهمة بسبب نظام المحكمة الفدرالية الأولي المبني على القانون العربي الذي حير الغربيين وجعل العديد منهم يفكرون مرتين بشأن القيام بمزيد من الاستثمارات في دبي، وحتى وإن كانت ثرواتها في ازدياد.

وقد توقع صندوق النقد الدولي أن يتقلص اقتصاد دبي بنسبة 0.5 في المائة هذا العام بعد انكماش بلغ 2.5 في المائة في عام 2009.

على الرغم من ذلك فإن الإمكانات المستقبلية للإمارة يمكن أن تتحسن، مع حصول «شركة دبي العالمية» حصلت على موافقة من الدائنين على خطة إصلاح الدين البالغ 24.9 مليار دولار. وتخطط شركة «دبي إنترناشيونال كابيتال»، شركة قابضة أخرى مملوكة للدولة، لإعادة 2.6 مليار دولار من ديونها عبر بيع أصول لها.

وتعتمد ثروات دبي في العديد من النواحي على أبوظبي، الإمارة الرئيسية في دولة الإمارات والتي ساهمت في إنقاذ دبي بتقديم 20 مليار دولار.

تعود العلاقات الأسرية والقبلية بين الإمارتين إلى قرون، فأبوظبي بثروتها النفطية الضخمة وثقلها الدبلوماسي واحدة من الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة في الخليج العربي. وقد عززت بروية من نفوذها المحافظ الطويل على جارتها دبي المسرفة، بحسب دبلوماسيين ومحللين غربيين.

ويقول محلل متخصص في مجال الشرق الأوسط والذي أصر على عدم الكشف عن اسمه: «كان من الواضح أن أبوظبي تسيطر على كل شيء لأنها تملك المال. وأبوظبي ستستمر في تقديم بعض الدعم لدبي بسبب العلاقات الوثيقة بين الجانبين، لكن لا يعني بالضرورة أن يكون دعما مطلقا».

هذا ما وضع دبي في موقف دقيق اضطرها إلى التحول إلى أسواق المال العالمية القلقة لجمع الأموال. وقد باعت الإمارة يوم الأربعاء سندات حكومية بقيمة 1.25 مليار دولار، وهو البيع الأول الذي تقوم به منذ الأزمة، انقسمت بين سندات آجلة الاستحقاق من خمس إلى عشر سنوات.

جاء تأثير نفوذ أبوظبي على دبي يظهر في عدة أشكال، ففي السابق تمكنت دبي من الحفاظ على علاقاتها التجارية بعيدا عن مصالح السياسة الخارجية لأبوظبي، على نحو كبير، فحافظت فيه على صداقاتها مع إيران، أكبر شريك تجاري لها.

لكن أبوظبي القلقة من إمكانية إيران النووية، ترغب من دبي أن تحد من تلك العلاقة.

وقال كران، المؤرخ: «على الرغم من انهيار السياحة والعقارات والخدمات المالية، فلا تزال دبي تعتمد على علاقتها القوية مع إيران. والآن تضطر إلى الانسحاب».

ورغم كل تجاوزاتها فإن أسعار البناء غير المعزز الذي انتهى بهذا الإفلاس المحير وضع دبي في مركز متقدم على الدول الخليجية الأخرى، بما في ذلك أبوظبي. وقد أنشأت جميع الشركات العملاقة في العالم تقريبا، بما في ذلك «جنرال الكتريك»، و«شركة تاتا للصناعات» الهندية ومصرف إتش إس بي سي، مقراتها الشرق الأوسطية هنا، في دبي، وما لم يحدث ما هو أسوأ بكثير، فمن غير المتوقع أن تنتقل إلى أبوظبي أو أي أماكن أخرى في المنطقة في محاولة لإغراء الشركات الغربية.

وقال يان ويليام بلانتاغي، مدير فرع الشرق الأوسط في «ستاندرد آند بورز»: «تمتلك دبي أفضل بنية أساسية في أي مدينة في الشرق الأوسط. هذه ليست نهاية المطاف بالنسبة لدبي، إنه مجرد تحول مؤلم».

* خدمة «نيويورك تايمز»