أميركا: الانتعاش طويل المدى أشبه بالكساد

الاقتصاد انخفض بحيث يحتاج لسنوات حتى يتمكن من استعادة نشاطه

تسود الولايات المتحدة حالة من التشاؤم بأن تستمر هذه الأوقات العصيبة لسنوات طويلة (نيويورك تايمز)
TT

ليس هذا ما يفترض أن يكون عليه الانتعاش الاقتصادي.

لا يزال ما يقرب من 20% من برج بنك أوف أميركا في مدينة أتلانتا، أطول مبنى في جنوب شرقي الولايات المتحدة، شاغرا، ويصارع مسؤولو المصرف الحصول على خصم في الإيجار من مالك المبنى. وفي تشيري هيل بولاية نيوجيرسي، 10 في المائة من المنازل المعروضة في السوق مطروحة للبيع على المكشوف، حيث يطلب فيها البائعون أقل مما يدينون به للمقرضين. وفي أريزونا والأحياء التي لفحتها الحرارة، يتحدث مالكو المنازل عن انخفاض في ساعات العمل وعن فقد للوظائف والوجبات المجانية. قبل أقل من شهر على انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل تسود الولايات المتحدة حالة من التشاؤم بأن تستمر هذه الأوقات العصيبة لسنوات. وهذا ما دفع صانعي القرار السياسي خاصة في المصرف الاحتياطي الفيدرالي إلى التفكير في سلسلة من الإجراءات الأكثر صرامة، كما كشفت عن ذلك مذكرات اجتماعه الأخير، التي نشرت يوم الثلاثاء، التي كانت بعنوان ركود أم انتعاش بالنسبة لعشرات الملايين من الأميركيين، هناك بعض الاختلاف. هذا الركود الذي خرج من رحم انهيار مالي قياسي، بات أشد وطأة من أي وقت مضى منذ الكساد الكبير وترك عددا أكثر من المطلوب من المنازل والمباني الإدارية والديون المُعطلة. قرار الأسبوع الماضي الذي اتخذه أحد كبار مقرضي الرهن العقاري بتجميد استعادة الملكية، والمطالبة بقرار رسمي بتأجيل الديون الوطنية يمكن أن يلقي بظلال بعيدة المدى على الشكوك المحيطة بالمصارف وأسواق المنازل. وهو ما يشير ببساطة إلى أن الاقتصاد الوطني انخفض حتى الآن إلى درجة قد يستغرق معها سنوات حتى يتمكن من الصعود مرة أخرى. وعبر المعدل الحالي من توفير الوظائف ربما تستغرق الولايات المتحدة تسع سنوات أخرى لاستعادة الوظائف التي فقدتها خلال الكساد، لا يدخل ضمنها خمسة أو ستة ملايين وظيفة ربما نحتاجها خلال تلك الفترة لمجاراة الزيادة السكانية، حتى أن كبار مسؤولي الإدارة يقرون أن معدل البطالة قد يرتفع بصورة أكبر. وقد تراجع متوسط أسعار المساكن بنسبة 20 في المائة منذ عام 2005. وبالنظر إلى معدل التضخم الذي بلغ 2 في المائة - توقع شائع - سيتطلب الأمر 13 عاما حتى تعود الأسعار إلى ارتفاعها مرة أخرى بحسب آلن سيناي، الاقتصادي الدولي في شركة الاستشارات «ديسشن أكونوميكس». وتشهد المقار التجارية الشاغرة ارتفاعا، ومن المتوقع أن يتطلب الأمر عقدا حتى تتمكن من شغل هذا العدد الضخم في كثير من المدن الكبرى. فقد بلغت نسبة المقار الشاغرة في نهاية يونيو (حزيران) 21.4 في المائة في فنيكس، و19.7 في المائة في لاس فيغاس و18.3 في دالاس/ فورت ورث و17.3 في المائة في أتلانتا وهو ما يعتبر أعلى من السنوات السابقة، بحسب البيانات التي أعدتها شركة «كوستار غروب». من ناحية أخرى، تراجع الطلب، نظرا لانخفاض ثقة المستهلك وخشية الكثيرين منهم أو ربما عدم قدرتهم على الإنفاق. ولا تزال العائلات الأميركية تسدد - أو خرجت لتوها من - الدين. ويرى مارك زاندي، الاقتصادي في شركة «موديز أناليتكس»، أن النسبة من الدخل التي تدفعها العائلات الأميركية كفوائد لن تعود إلى المستويات التي كانت عليها قبل الكساد قبل نهاية عام 2011. كما ارتفعت الديون المستحقة على البطاقات الائتمانية. وقال سيناي: «لا عجب في أن الأميركيين متشائمون وغير سعداء. والسبيل الوحيدة للعودة إلى المستويات السابقة هي مواجهة الحقيقة في أننا ندخل مرحلة من التقشف». هذا التفسير الكئيب يجب أن لا يقر في الأذهان أننا دولة دون قوى، قد انخفضت معدلات البطالة من ذروتها في قطاع عريض في الولايات المتحدة من فيرمونت إلى مينيسوتا إلى ويسكنسون، كما تزايدت حركة الشحن في الموانئ ووفر أصحاب الشركات نحو 68111 وظيفة شهريا هذا العام. وبعد الهبوط العمودي لأسواق الأسهم عام 2009، عادت إلى الارتفاع مرة أخرى لتدعم حسابات التقاعد وتقوي من عزائم الطبقة العاملة الأميركية. بيد أن ذلك ليس دليلا على تعافي الاقتصاد. فيرى روبرت ريتش وزير العمل الأسبق أن غالبية الشركات في مؤشرات الأسهم الداخلية تجني 40 في المائة من دخلها من الخارج. البعض يشككون في قدرة الاقتصاد الأميركي على متابعة النمو، بيد أن قليلين يتوقعون تعافيه في القريب العاجل. فيقول باري إيكنغرين، الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا في بركلي: «ما زلنا نملك كثيرا من القوى، من ثقافة روح المبادرة والرأسمالية الاستثمارية، إلى جانب سوق عمالة مرنة وجذب للمهاجرين. لكننا سنعايش نتائج مشكلات الديون ومشكلاتنا المالية لفترة طويلة قادمة». بينما ترى كارنت رينهارت، أستاذة الاقتصاد في جامعة ميريلاند أن الهزات الجديدة ربما تدفع الدولة إلى كساد أو انكماش آخر، فتقول: «نحن في موقف تشكل المخاطر المحتملة بالنسبة لنا خطورة كبيرة للغاية». ومن ثم فإن المشكلات المتلاحقة مثل فقد الوظائف والمنازل التي لم تبع والمقار الإدارية الخاوية ستشكل عبئا على الاقتصاد وستؤثر على حياة الأفراد. فلورنسا بولاية أريزونا في عام 2005 صنفت ولاية أريزونا، كعادتها، كثاني ولاية على المستوى الوطني من حيث النمو في الوظائف بعد ولاية نيفادا، فاقتصادها قائم على النمو، فدب النشاط في الولاية وازدهرت الإنشاءات وتوافرت الأراضي بأسعار رخيصة، ثم توقفت. وقد صنفت أريزونا هذا العام في المرتبة 42 في نمو الوظائف، حيث فقدت 287.000 وظيفة منذ بداية الكساد، وكان الهبوط كارثيا. وعندما وجه هذه التساؤل إلى بولاك، المتنبئ بأحوال السوق، قال: «لن نتمكن من الانتعاش حتى نستطيع شغل 80.000 منزل ومكاتب إدارية شاغرة ويعود الناس إلى الاقتراض من جديد. ومتى سيكون ذلك؟ «أنا أتوقع أن يحدث الانتعاش بحلول عام 2013 أو 2015». تشير هيل بولاية نيو جيرسي سوق الإسكان في بلدة المسافرين هذه الواقعة بالقرب من حدود ولاية فيلادلفيا لم تصل إلى الأسعار الجنونية في ميامي بيتش أو لاس فيغاس، لكن حتى وإن لم تعلق إشعارات استعادة الرهن من جميع المنازل، فقد خيم شعور بالضيق على السوق حيث انخفضت أسعار المنازل بنسبة 16 في المائة منذ عام 2006 والمنازل تستغرق ضعف الوقت اللازم لتباع قبل خمس سنوات. وربما يكون ذلك كافيا لزيادة ألم مالكي المنازل الذين هم بحاجة إلى البيع بسبب فقدان الوظائف أو انخفاض الدخل، وقد أجبر البعض على التخلي عن منازلهم عبر البيع على المكشوف، طالبين أقل مما يدينون به لمالك الرهن العقاري. وخلال الأسبوع الماضي عرضت 10 في المائة من المنازل المسجلة في هذا الحي للبيع على المكشوف. كانت نباتات الأقحوان مزهرة في الصناديق في شرفة أحد هذه المنازل، بينما كان وسيط العقارات يفتح الباب الأمامي، وفي المطبخ كانت المهام الروتينية للأطفال مرتبة بدقة على لوحة بيضاء. أما العشاء فكان يغلي في إناء على المنضدة. كان هناك القليل من الإشارات على الكارثة المالية التي دفعت مالكي المنزل إلى بيع منزلهم بأقل مما دفعوه قبل خمس سنوات. أتلانتا تعرضت أتلانتا التي تمتلك سجلا حافلا من النمو السريع والتقدم إلى حالة من الدمار الشامل، سواء بصورة رمزية أو حقيقية، وفي كل مرة كان الارتفاع خرافيا. لكن هذا الكساد كان له بالغ الأثر أكثر من أي شيء آخر منذ الكساد الكبير وترك المقار الإدارية والشقق السكنية في غيبوبة اقتصادية. ويشير آلان ويكسلر إلى برج أزرق يومض أثناء قيادته للسيارة: «هذا المبنى الذي هناك - أتراه؟ لقد استولى عليه بنك شيكاغو قبل ستة أشهر وقد عرضوه للبيع بتخفيض قيمته 40 في المائة». وأضاف مشيرا إلى فندق يعلوه مطعم: «وهناك، هذه ستكون شقة سكنية.. لقد أغلقوه ورحلوا عنه». وقد بدأ ويكسلر، محلل بيانات العقارات النشط، وصف حالة المدينة خلال جولة على طريق بيتش تري رود العمود الفقري للمدينة التجارية، فبدأ في حي باكهيد، التي يوجد بها أكثر من مليوني قدم مربع من المساحات التجارية الشاغرة. وقد علقت لوحة إعلانات خارج إحدى الشقق في أحد الأبراج بسعر جديد، فهناك أبراج لا يشغل منها سوى نصفها وهناك أبراج خضعت للحراسة القضائية بعد إفلاسها. أما الأبراج التجارية التي بيعت من قبل بـ85 مليون دولار فتباع بالتجزئة الآن مقابل 35 مليون دولار. وعندما اقتربنا من وسط المدينة، ضغط ويكسلر على المكابح بقوة وأشار إلى مبنى قديم أبيض مزين بالرخام الأبيض، وقال: «أترى هذا المبنى؟ إنه مبنى الاحتياطي الفيدرالي، هنا يعقدون اجتماعاتهم ويكدحون ويتساءلون: كيف وصلنا إلى هذه الحالة المزرية؟» هذا السؤال يدور على ألسنة وعقول السكان في هذه البلدة. يبلغ معدل الشقق الإدارية الشاغرة في باكهيد ما يقرب من 20 في المائة، وقد أضافت منطقة أتلانتا وظائف بأجور منخفضة. كما أضحت المصارف الصغيرة كارثة، فقد أفلس 43 مصرفا في جورجيا منذ عام 2008 (وأغلق المنظمون الفيدراليون 129 مصرفا على مستوى الولايات المتحدة هذا العام، بارتفاع من 25 العام الماضي)، وكانت العقارات هي البداية ومنتصف ونهاية المشكلات. وفي إحدى الصفقات استثمرت عشرات المصارف في أتلانتا في ميريل رانش، الواقعة على مساحة 4.508 أفدنة في الصحراء جنوب فينكس.

وقد تداعت الصفقة وسحبت معها كثير من المصارف. ولم تبد المصارف على مستوى البلاد رغبة في إقراض المطورين المحليين وأصبحت المصارف الإقليمية يائسة في الحصول على المال والمطالبة بقروضها. وكان ليتل محظوظا عندما تمكن من تسديد قرضه والاحتفاظ بمنزله، وقال: «أفلس غالبية أبناء جيلي من البنائين، بيد أنها لا تزال خارجة عن السيطرة».

* خدمة «نيويورك تايمز»