ظاهرة إقراض الأوراق المالية: المصارف تتقاسم الأرباح دون الخسائر

القيمة الإجمالية للأسهم الجاري إقراضها 2.3 تريليون دولار

جيري دي ديفيز، رئيس صندوق معاشات الموظفين بمجلس بلدي في نيو أورليانز؛ الذي خسر نحو 340.000 دولار (نيويورك تايمز)
TT

تقدم مصرف «جيه بي مورغان تشيس آند كمباني» بعرض على الصناديق الاستثمارية والأخرى الخاصة بالمعاشات التي تتولى مسؤولية إدارة جزء كبير من مدخرات الأميركيين: إذا فزنا، نفوز معا، وإذا خسرنا تخسرون وحدكم. وفيما يلي تفاصيل الاتفاق: تقرض الصناديق بعض أسهمها وسنداتها لـ«وول ستريت»، مقابل الحصول على نقد تستثمره فيما بعد مصارف مثل «جيه بي مورغان». إذا سارت المضاربات على نحو جيد، يحصل المصرف على نصيب من الأرباح، لكن إذا منيت المضاربات بنتائج سلبية، تتحمل الصناديق الخسائر برمتها.

ويطلق على هذه الاستراتيجية إقراض الأوراق المالية، وهو إجراء يشهد ازدهارا على الرغم من أن بعض الاستثمارات المرتبطة به قد اختفت فعليا خلال فترة الذعر المالي عام 2008. في تلك الفترة، كان من المفترض أن تكون المضاربات آمنة بما يكفي لتحقيق بعض الأرباح من دون خوض مخاطرة كبيرة.

وانتهى الأمر بعملاء «جيه بي مورغان»، الذين ضموا صناديق معاشات عامة أو أخرى خاصة بشركات تتبع «آي بي إم» وولاية نيويورك و«الاتحاد الأميركي لفناني التلفزيون والراديو»، بأن أصبحوا مدينين للمصرف بأكثر من 500 مليون دولار لتغطية الخسائر. لكن المصرف حمى نفسه فيما يتعلق ببعض الاستثمارات واحتفظ بأرباح تقدر بملايين الدولارات، قبل أن تتخذ المضاربات منحى الفشل.

وتسلط مسألة جني «جيه بي مورغان» أرباحا، في الوقت الذي خسر عملاءه، الضوء، ليس فقط على السبل التي يمكن لمصارف «وول ستريت» من خلالها تحقيق مكاسب على حساب عملائهم، وهي سبل غالبا ما يتبعونها، وإنما أيضا إقدامها على المراهنة على هذه المنتجات، وأحيانا ضدها، ما يضع مصالح المصارف في تعارض مع مصالح عملائها. كما تساعد المصارف وجماعات المصالح المرتبطة بها في صياغة القواعد والتنظيمات المالية. ويعلم المضاربون التابعون للمصارف الأسهم التي يشتريها عملاؤهم ويبيعونها، الأمر الذي يمنحهم ميزة قيمة.

وأعرب بعض عملاء «جيه بي مورغان» عن خيبة أملهم حيال المصرف. من بينهم: جيري دي ديفيز، رئيس صندوق معاشات الموظفين بمجلس بلدي في نيو أورليانز؛ حيث قال: «لقد حصلوا على 40% من أرباحنا، وحتى ذلك لم نعترض عليه. لكن بعد ذلك بدأنا نخسر أموالا، بينما هم لم يخسروا معنا». يذكر أن الصندوق خسر نحو 340.000 دولار، ما يكفي لمحو سنوات من الأرباح كان قد جناها الصندوق عبر إقراض الأوراق المالية.

عبر متحدث رسمي، رفض جيمي ديمون، رئيس «جيه بي مورغان» والرئيس التنفيذي له، طلبا بعقد مقابلة معه. وقال المتحدث الرسمي، جوزيف إيفانغليستي: إن المصرف يتميز بسجل طويل من النجاح بمجال إقراض الأوراق المالية، وإن الخسائر تمثل مجرد نسبة صغيرة من الأموال الموجودة بهذا البرنامج.

وأضاف أن جميع الاستثمارات التي جرت كان مصرحا بها في ظل خطوط إرشادية جرى التفاوض بشأنها مع عملاء المصرف. وشدد على أن «جيه بي مورغان» لم يخض مخاطر شديدة.

وشدد إيفانغليستي على أنه «لدينا حوافز قوية للإقدام فقط على المخاطر الاستثمارية الحكيمة، مستطردا أنه إذا خسر عملاء أموالا أودعوها لدى المصرف «فإن هذا يؤدي لخسارة العملاء، وقد يؤثر على سمعة المصرف».

من ناحية أخرى، يهدف مشروع التنظيم المالي الذي أقره الكونغرس للتو، بعد جهود ضغط قوية من قبل المصارف، إلى التقليص من بعض الممارسات التي تسببت في الأزمة المالية. إلا أن جزءا كبيرا من «وول ستريت» عاود ممارسة نشاطه على النحو المعتاد. وتتجلى المصالح المتعارضة المحتملة في أقوى صورها داخل قاعات التداول؛ حيث يتعين على المسؤولين التنفيذيين الموازنة بين سعيهم وراء تحقيق أرباح وواجبهم تجاه العملاء.

إلى جانب خسارة أموال عمال نيو أورليانز وآخرين، لعب إقراض الأوراق المالية أيضا دورا محوريا في حالة شبه الانهيار التي أصابت «أميريكان إنترناشيونال غروب»، من خلال إقراض الأوراق المالية، تقترض صناديق المعاشات والأخرى الاستثمارية أموالا لخوض مضاربات، ما يزيد المخاطر داخل النظام المالي.

ويواجه «جيه بي مورغان» وآخرون، بينهم «نورزرن ترست»، موجة من القضايا الجنائية. ويشير عملاء إلى أنه لم يتم تحذيرهم إزاء المخاطر المرتبطة بهذه الممارسة وأن المصارف انتهكت واجبها المرتبط بالأمانة. يُذكر أن «ويلز فارغو» خسرت قضية على هذا النحو في الصيف وصدر حكم بتغريمها 30 مليون دولار لصالح 4 مؤسسات. أيضا، تواجه «ستيت ستريت كوربوريشن»، التي فرض عليها غرامة تقدر بـ414 مليون دولار في يوليو (تموز) لتغطية خسائر بعض عملائها، قضايا من جانب عملاء آخرين.

وأشار ممثلون عن هذه المصارف إلى أن مؤسساتهم عملت بصورة مناسبة وأنها تنوي محاربة القضايا المرفوعة ضدها.

على الرغم من هذه المشكلات، فإن عمليات إقراض الأوراق المالية استعادت نشاطها بعد انحسارها خلال الأزمة المالية. والآن، تبلغ القيمة الإجمالية للأسهم الجاري إقراضها 2.3 تريليون دولار، طبقا لما أعلنته مؤسسة «سنغارد» المعنية بتوفير خدمات تقنية للمؤسسات المالية. عام 2007، قبل انفجار الفقاعة، بلغت قيمة إجمالي الأسهم الجاري إقراضها 2.5 تريليون دولار.

وتثير مسألة استعادة عمليات إقراض الأوراق المالية نشاطها سريعا، الشكوك حيال ما إذا كانت المصارف وعملاؤها من صناديق المعاشات قد تعلموا أي دروس من الأزمة الأخيرة.

من جانبه، أعرب ستيف نيس، الشريك الإداري لـ«إن إف إس كونسلتنغ غروب»، وهي شركة بحثية متخصصة بمجال إدارة الاستثمارات، عن اعتقاده أن «ما حدث هو أن المصارف أصابها الجشع ونظرت إلى العوائد التي تحققها وقالت: (لماذا لا نمضي نحو المزيد؟) لكن العملاء أيضا أصابهم الجشع بجانب المصارف».

من جهته، دخل جيمس ويلسون مجال إقراض الأوراق المالية في تسعينات القرن الماضي، عندما كان النشاط لا يزال ضيق النطاق. كانت الصناعة المالية آنذاك في خضم مرحلة تحول شكَّل تهديدا لبعض مصادرها التقليدية للعائدات. وكانت لجان سمسرة الأسهم تتعرض لضغوط شديدة، بينما كانت أرباح تقديم القروض في انحسار.

وعليه، عمد ويلسون، داخل «كيميكال بانك» الذي انضم لاحقا إلى إمبراطورية «جيه بي مورغان»، إلى تعزيز نشاطات إقراض الأوراق المالية.

وعلى الرغم من الطموح الذي تملكه، أشار أقرانه السابقون إلى أنه تميز بأسلوب غير متكلف أكسبه ثقة العملاء. وكان ويلسون من الشخصيات المعروفة داخل المؤتمرات المرتبطة بالصناعة المالية، وغالبا ما كان يلقي كلمة في هذه المناسبات باعتباره أحد زعمائها.

إضافة إلى ذلك، فطن ويلسون إلى إمكانات النمو في إقراض الأوراق المالية وبقي مشاركا بهذا المجال لفترة أطول من الكثير من أقرانه ومنافسيه الذين انتقلوا إلى الأقسام المصرفية الأعلى مكانة.

وقد تقاعد ويلسون، 55 عاما، بعد خسائر عام 2008. وقد رفض التعليق الشهر الماضي عندما اتصلنا به هاتفيا بمنزله في نيوجيرسي.

تتسم الفكرة القائمة وراء إقراض الأوراق المالية بالبساطة؛ فهي تسمح لكبار المستثمرين مثل صناديق المعاشات بجني عائدات إضافية من وراء استثماراتها، من دون الحاجة لبيعها. مثلا، يسمح صندوق معاشات أو أية مؤسسة أخرى لمصرف مثل «جيه بي مورغان» بإقراض بعض أسهمه أو سنداته لمستثمرين آخرين، مثل صناديق تحوط أو مصارف. في المقابل، يضع هؤلاء المستثمرون وديعة أمنية نقدية، تحسبا، حال عجزهم عن إعادة الأوراق المالية. بعد ذلك، تسمح صناديق المعاشات والمؤسسات الأخرى للمضاربين التابعين لـ«جيه بي مورغان»، مثل ويلسون، باستغلال الودائع النقدية في المضاربة.

بالنسبة لمديري صناديق المعاشات، يعتبر هذا استثمارا جذابا؛ لأنه يثمر عائدات أعلى قليلا على استثماراتهم - ربما مجرد ربع أو نصف نقطة مئوية إضافية في العام - على نحو قد يخلق اختلافا ملحوظا بمرور الوقت.

في «كيميكال بانك»، ولاحقا «جيه بي مورغان»، دفع ويلسون المضاربات المرتبطة بإقراض الأوراق المالية إلى آفاق جديدة، تبعا لما ذكره زملاؤه السابقون. وقد حث عملاءه - وهم صناديق مثل ذلك الخاص بعمال نيو أورليانز - على السماح له بتوجيه أموال إلى استثمارات طويلة الأمد. وقد أثمرت المخاطر الأكبر عن أرباح أكبر، وانضم مزيد من الصناديق إلى القاطرة.

وعلق إيفان وولك، الذي عمل مع ويلسون بين عامي 1993 و2002 ويدير حاليا شركة استشارات مالية خاصة به في فلوريدا، بقوله: «عندما تلقي بمليار أو اثنين وتجني مليونا، لتحصل في النهاية على نصفه لنفسك، فهذا أسلوب لا بأس به في العمل».

كما أدى إقراض الأوراق المالية إلى تعزيز النمو السريع لصناديق التحوط، التي غالبا ما تقترض أسهما من صناديق معاشات للمراهنة بها ضد هذه الأسهم. وقد ساعدت هذه الممارسات في خلق بعض الاستثمارات الغامضة التي هددت في نهاية الأمر النظام المالي للبلاد.

اليوم، يوجد لدى مؤسسات بمختلف أرجاء العالم قرابة 7 تريليونات سهم بقيمة إجمالية تبلغ 20 تريليون دولار تعرض هذه المؤسسات إقراضها.

* خدمة «نيويورك تايمز» ويعادل ذلك تقريبا ضعف القيمة السوقية لكل شركة مدرجة على مؤشر «ستاندرد آند بورز». وفي أية لحظة معينة، يكون قرابة عُشر هذه الأسهم فقط قيد الإقراض، تبعا لأي من صناديق التحوط والمؤسسات الأخرى التي ترغب في الاقتراض، طبقا لما ذكرته «سنغارد».

وغالبا ما تضغط المصارف على صناديق المعاشات للمشاركة في إقراض الأوراق المالية، حسبما أشار مستشارون لدى الصناديق. وحال رفض الصناديق، تزيد المصارف ما يطلق عليه رسوم الوصاية، وهي الرسوم المفروضة على الاحتفاظ بالأوراق المالية لصندوق ما.

وعن ذلك، قال جاي لوف، المستشار بشؤون الصناديق لدى «ميركر»: «حينما يقولون لا لإقراض الأوراق المالية، ترد المصارف بالانتقال لمناقشة رسوم الوصاية».

ومع ذلك، أوضح لوف أنه نصح عملاءه بالابتعاد عن عمليات الإقراض المالية. وقال إن المشاركة في مثل هذه البرامج أشبه بإقراض مال لخوض مضاربات في الأسواق المالية. في نهاية الأمر، تجب إعادة الأموال. وأضاف أنه يمكن النظر إلى الأسهم التي تقرضها صناديق المعاشات كوديعة آمنة مقابل أموال نقدية تستخدم في استثمارات أخرى.