«السرية المصرفية» بدأت مع الثورة الفرنسية ودعمتها النازية

300 عام على تاريخها في سويسرا

TT

* يعود تاريخ السرية المصرفية في سويسرا إلى أكثر من 300 عام، حيث كانت المصارف السويسرية هي المصارف التي تستخدمها العائلة المالكة الفرنسية وكانت المقرض الرئيسي لهم. واستفادت البنوك السويسرية من هذه العلاقة، حيث كانت المخاطر على هذه القروض منخفضة جدا، كما أن الطلب على التمويلات للمشاريع والجيش الفرنسي كلها تتم بواسطتها. وفي أعقاب الثورة الفرنسية غادر المصرفيون السويسريون فرنسا، خوفا على أموال وتعاملات العائلة المالكة الفرنسية. وفي عام 1713 أعلن مجلس جنيف الأعلى تبني قانون السرية المصرفية الذي يحرم على المصرفيين الكشف عن أي معلومات حول عملاء البنوك السويسرية، عدا أصحابها. وهذا أول قانون يجاز للسرية المصرفية وفقا لدراسة نشرت مؤخرا في سويسرا حول السرية المصرفية تحت عنوان «مستقبل السرية المصرفية وسويسرا». وحتى عام 1943 كان خرق قانون السرية المصرفية يعد «جرما مدنيا». وفي عام 1931 أجاز هتلر قانونا يقضي بإعدام كل ألماني يملك حسابا في الخارج. وبدأ البوليس السري «الجستابو» وقتها التجسس على البنوك السويسرية لمعرفة أسماء الألمان الذين يملكون حسابات خارجية. وحينما نفذ هتلر إعدامات على ثلاثة ألمان يملكون حسابات سويسرية اقتنعت الحكومة السويسرية بضرورة تقوية بنود قانون السرية المصرفية. وفي تلك السنوات جمدت ألمانيا النازية أموال البنوك السويسرية في ألمانيا، التي تقدر قيمتها بنحو مليار فرنك (نحو 1.1 مليار دولار)، ثم قام البوليس السري الألماني «الجستابو» لاحقا باختطاف صيرفي سويسري كبير لمعرفة حسابات المواطنين الألمان في البنوك السويسرية لاستغلالها في الجهد الحربي ضد الحلفاء. توالت الحملات والضغوط على سويسرا للكشف عن حسابات المودعين الألمان في بنوكها. وفي عام 1934 أجاز البرلمان السويسري قانون السرية المصرفية الذي أصبح أهم أسس التعامل ونظم الأداء في البنوك السويسرية. وهو القانون الذي تطالب دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي بإلغائه.

وحسب القانون، فإن الكشف عن معلومات تخص أي عميل في البنوك السويسرية لجهة ثالثة يعد جرما يعاقب عليه القانون. وتصل العقوبة إلى السجن بأكثر من ستة أشهر وتكون أشد في حالات الضرر الأكبر. ولكن رغم ذلك، فإن السلطات القضائية السويسرية ترفع السرية المصرفية عن الحسابات في حالات الجرائم المالية وجرائم الغسل والاختلاسات والجرائم المدنية الخاصة بنزاعات الثروة والطلاق والإرث، وأضافت إليها الآن الملاحقات القضائية الخاصة بالضرائب. ولاحظت «الشرق الأوسط» خلال تغطيتها لمحاكمة اختلاسات أموال الكويت في الخارج التي جرت في لندن نهاية التسعينات، أن قاضي محكمة «الأولد بيلي» في لندن، حيث كانت تجري المحاكمة، يرفع الجلسات بين الفينة والأخرى لحصول ممثل الاتهام على معلومات عن الحسابات السويسرية التي استغلت في عمليات الاختلاس.

تواصلت الضغوط على سويسرا في التسعينات بسبب مجموعة محاكمات لشخصيات سياسية من طغاة العالم الثالث في أفريقيا وأميركا اللاتينية بسبب اختلاسات ورشاوى.

ولكن هل ألغت سويسرا السرية المصرفية؟ سؤال يهم الملايين من العرب الذين يستخدمون البنوك السويسرية في حفظ إيداعاتهم ومدخراتهم واستثماراتهم. في الواقع لم تلغ سويسرا قانون السرية المصرفية.

رغم ما يشاع عن إخفاء الأموال والتهرب من الضرائب، هنالك مستثمرون كثر من أنحاء العالم الذين يثقون في هذه البنوك ويستفيدون من خدماتها دون أن يخرقوا قوانين الضرائب في بلدانهم أو أي قوانين أخرى ولم يرتكبوا جرائم. فالهجمة الشرسة التي انطلقت في الآونة الأخيرة والتقارير المنشورة توحي بأن الحسابات السويسرية تعني إخفاء الأموال أو الثروات أو التهرب من الضرائب أو ارتكاب جريمة ما، وهذا غير صحيح، لأن هنالك فئة قليلة من أصحاب الحسابات الذين تنطبق عليهم هذه المعايير. وببساطة لم تلغ البنوك السويسرية «السرية المصرفية» لأنها لا تملك هذا الحق، فـ«السرية المصرفية» أجيزت وقننت بقرار سياسي من البرلمان السويسري، وبالتالي لن تلغى إلا بقرار سياسي.

ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن سويسرا ليست هي الدولة الوحيدة في العالم التي تطبق السرية المصرفية، فهنالك عدة دول في العالم تطبق هذا القانون، ففي أوروبا تطبق كل من النمسا ولكسمبورغ وجزر تشينال آيلندز وجبل طارق التابعة لبريطانيا، قانون السرية المصرفية وكذلك إمارة لينشختاين. وفي آسيا تطبق كل من هونغ كونغ وسنغافورة السرية المصرفية. وفي الكاريبي هنالك الكثير من الجزر على رأسها جزر كيمان، تطبق قانون السرية المصرفية. وقد اشتهرت سويسرا بالسرية المصرفية، لأنها صاحبة السبق في هذا المجال، وكذلك لأنها أكبر جاذب للأرصدة العالمية، حيث يبلغ نصيبها من إيداعات «الأوفشور» نحو تريليوني دولار.