أميركا: المستثمرون يمولون رفع الدعاوى القضائية للحصول على حصة من تعويضاتها

تستنزف الأموال وترهق القادة.. وعائداتها قد تكون بالملايين

TT

تقوم مصارف كبيرة وصناديق التحوط ومستثمرون من القطاع الخاص متعطشون لفرص جديدة لتحقيق أرباح بتمويل دعاوى قضائية خاصة بأناس آخرين وضخ مئات الملايين من الدولارات في قضايا سوء الممارسة الطبية والطلاق والقضايا العامة أو الجماعية ضد الشركات - على أمل الحصول على حصة من التعويضات المحتملة.

وهذه القروض تمول عددا كبيرا من القضايا البارزة، وعلى سبيل المثال فقد قدمت مؤسسة «كونسيل فاينانشيال»، التي مقرها بافالو والممولة من مجموعة «سيتي غروب» 35 مليون دولار لتمويل دعاوى قضائية خاصة بالعاملين في مركز التجارة العالمي، وهي القضايا التي تمت تسويتها مبدئيا في يونيو (حزيران) مقابل 712.5 مليون دولار. وقد حققت المؤسسة أرباحا تقدر بنحو 11 مليون دولار من هذا التمويل.

ومعظم هذه الاستثمارات في القضايا الصغيرة التي تملأ قوائم المحاكم. وقد قدمت «أرديك فاندينغ»، وهي مؤسسة إقراض مقرها نيويورك ومدعومة من أحد صناديق التحوط، 45 ألف دولار في يونيو إلى محام يعمل في مانهاتن ليتمكن من رفع دعوى قضائية لصالح أسرة تسبب خطأ طبي في تلف دماغ طفلها أثناء ولادته. وقد استعان المحامي باثنين من الأطباء واختصاصي علاج طبيعي وخبير اقتصادي للإدلاء بشهادتهم في المحكمة في شهر يوليو (تموز). وقد حكمت هيئة المحلفين على الطبيب والمستشفى الذي تمت فيه عملية الولادة بدفع 510 آلاف دولار. وكانت «أرديك فاندينغ» تحصل على فائدة سنوية قدرها 24 في المائة، أي 900 دولار شهريا، حتى صرف التعويض.

ويقدر بعض المشاركين في هذا النوع من الاستثمار إجمالي الاستثمارات في الدعاوى القضائية بما يزيد على مليار دولار. وعلى الرغم من عدم توافر الأرقام عن عدد الدعاوى القضائية التي تقوم بتمويلها جهات الإقراض، فإن السجلات العامة في ولاية واحدة، هي ولاية نيويورك، تشير إلى أنه على مدى العقد الماضي، فإن أكثر من 250 مؤسسة قانونية قد كانت تقترض من أجل تمويل دعاوى قضائية معلقة، مرارا وتكرارا.

ويرجع هذا الارتفاع في القروض المقدمة إلى المدعين ومحاميهم لارتفاع تكلفة التقاضي، فقد أعلن مركز القضاء الفيدرالي العام الماضي أن متابعة دعوى قضائية واحدة في إحدى المحاكم الفيدرالية تتكلف في المتوسط 15 ألف دولار، والقضايا التي تتطلب أدلة علمية مثل قضايا سوء الممارسة الطبية تزيد تكلفتها في كثير من الأحيان على 100 ألف دولار. ونتيجة لارتفاع تكلفة التقاضي فإن البعض قد لا يستطيع إقامة دعاوى قضائية مهمة، والبعض الآخر تجتذبهم الشركات التي تقدم لهم التمويل.

وقد أشارت دراسة أجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» ومركز النزاهة العامة إلى أن هذا التدفق للمال قد ساعد المزيد من المواطنين على رفع دعاوى قضائية وجعل لديهم القدرة على الاستعانة بخبراء مرموقين وتوفير المزيد من الأدلة. كما ساعد ذلك على ضمان أن يكون تعامل المحامين مع القضايا بناء على جدارتها لا بناء على موارد المدعين، وهو ما يمثل توسعا في التحول من الوضع الذي كان سائدا منذ قرن من الزمان عندما بدأ المحامون يتعاملون مع القضايا بناء على درجة ثراء المدعين.

ولكن هذه الدراسة أوضحت أيضا أن هذه القروض قد تسببت في زيادة عدد القضايا المختلقة، بما في ذلك عدد من القضايا التي كان يقف وراءها المستثمرون. وقد أمر قاض في محكمة بولاية فلوريدا في ديسمبر (كانون الأول) مصرفيا استثماريا، كان يقف وراء دعوى قضائية رفعت ضد مساهم شركة «فريش ديل مونتي بروديوس» بتحمل النفقات القانونية للقضية، موضحا أن القضية ما كان ينبغي أن تصل إلى المحكمة.

كما أن هذه القروض تستنزف الأموال أيضا من المدعين. ومعدل الفائدة السنوي على القروض المقدمة لتمويل دعوى قضائية تتجاوز في كثير من الأحيان 15 في المائة، ومعظم الولايات تسمح للمحامين بإقراض المدعين والحصول على فوائد. وقد تتجاوز تكلفة قيمة التعويض المحكوم به. وعلى سبيل المثال، فقد أصيبت امرأة بجروح في حادث سيارة تعرضت له عام 1995 خارج مدينة فيلادلفيا واقترضت هي ومحاميها لرفع دعوى للحصول على تعويض، وفي النهاية حكم لها القاضي عام 2003 بتعويض قيمته 169125 دولارا، لكن قيمة القروض والفوائد المستحقة عليه كانت 221000 دولار.

وليس مطلوبا من المحامين أن يبلغوا العملاء أنهم قد اقترضوا لرفع الدعوى، وبالتالي فإن العملاء يكونون غير مدركين لوجود ضغوط مالية تفرض عليهم حل القضية بسرعة. كما يطلب المقرضون معلومات مفصلة عن القضايا، مما قد يعرض سرية معلومات العملاء للخطر. وقد ألزم قاض فيدرالي بإحدى محاكم ولاية ديلاوير في يونيو، شركة رفعت دعوى قضائية ضد موقع «فيس بوك» تتهمه بانتهاكه براءات الاختراع، بأن تكشف عن الوثائق الخاصة بموقع «فيس بوك» التي أطلع محاميه جهة الاقتراض عليها.

وبسبب هذه الأمور، يطالب المعارضون للاستثمار في الدعاوى قضائية بحظره.

وقد قالت ليزا ألف ريكارد من معهد الإصلاح القانوني وإحدى الهيئات التابعة لغرفة التجارة في الولايات المتحدة: «إنه أمر تقشعر منه أبدان القانونيين في جميع أنحاء العالم».

لكن المؤيدين لهذا النوع من الاستثمار، الذين يقولون إن المواطنين يحتاجون في كثير من الأحيان إلى مساعدة لكي يتمكنوا من مقاضاة الشركات، تمكنوا من تحقيق عدة انتصارات في محاكم الولايات والمجالس التشريعية في السنوات الأخيرة، وتمكنوا أيضا من إلغاء القوانين القديمة التي كانت تحظر الاستثمار في الدعاوى القضائية.

ويقول آلان زيمرمان، أحد أول المؤسسين لشركات تمويل الدعاوي القضائية عام 1994، في سان فرانسيسكو، الذي يطلق على شركته اسم «ذا لو فينانس غروب»: «إذا كنت تريد استخدام نظام للتقاضي المدني يجب أن يكون لديك الكثير من المال، أما إذا لم يكن لديك سوى القليل من المال، فإن فرصتك لرفع دعاوى قضائية ستكون أقل وكذلك فرصتك للحصول على العدل».

والإقراض لتمويل الدعوى القضائية هو وليد ثورة الرهن عالي المخاطر، وهو الإقراض الذي بدأ في مطلع تسعينات القرن الماضي وينطوي على مخاطر ومعدلات فائدة عالية.

وقد مارس زيمرمان، مؤسس مجموعة «ذا لو فينانس غروب»، المحاماة لأكثر من عقدين من الزمن قبل أن ينتقل إلى نشاط التمويل في ولاية كاليفورنيا عام 1992. وقد بدأ ممارسته لهذا النشاط عندما اتصل به محام صديق وطلب منه إقراض عميلة كانت قد كسبت دعوى تحرش جنسي وقد طعن رب عملها السابق على الحكم لذلك فقد كانت بحاجة إلى المال لتغطية نفقات المعيشة أو ستضطر إلى قبول تسوية بقيمة أقل.

ودفع زيمرمان 30 ألف دولار لهذه السيدة وهو المال الذي تريده لاستكمال القضية؛ واضطر رب العمل للتنازل عن الطعن على الفور ودفع التعويض الذي قضت به المحكمة السابقة وربح زيمرمان 20 ألف دولار من هذا القرض.

ويقول زيمرمان تعليقا على ذلك: «قلت: هذا أسلوب رائع لكسب المال. هل هناك من طريقة لتحويل ذلك إلى مشروع تجاري؟». وقد استثمرت الشركة التي أسسها منذ ذلك الوقت أكثر من 350 مليون دولار في تمويل الدعاوى القضائية.

ورأى آخرون يعملون في مجال الإقراض نفس الفرصة في الوقت نفسه تقريبا، وكان من بينهم مندوب رهن عقاري في بافالو ومقدم قروض عالية المخاطر لشراء السيارات من ناشفيل ومقرض من لاس فيغاس كان قد أدين بتهمة تهديد المقترضين الذين فشلوا في تسديد الأموال التي حصلوا عليها من شركته السابقة «وايلد ويست فاندينغ».

وبحلول أواخر تسعينات القرن الماضي، كانت الكثير من هذه الشركات تقدم قروضا أيضا للمحامين. ويحتاج المدعون مبالغ صغيرة لتغطية نفقاتهم المعيشية بينما يحتاج المحامون إلى مبالغ أكبر بكثير لرفع الدعاوى، والخيارات الأخرى التي أمامهم قليلة. والمصارف لا تعطي قروضا إلى في وجود أصول، ومكاتب المحاماة ليس لديها ممتلكات تقدمها كضمان للمصارف.

وقد استغلت مؤسسات الإقراض الجديدة هذا الفراغ، وكان شعار شركة مثل «ذا لو فينانس غروب»: «نحن نقدم ما لا تقدمه المصارف».

والابتكار الكبير لهذه الشركات ولهذا الاستثمار الجديد، الذي لا يزال سمة مميزة له، هو الاستعداد لتقديم قروض بناء على القيمة المحتملة لقضايا لم تسوّ بعد.

وتحاول المؤسسات التي تقدم هذا النوع من القروض، والتي لا يتجاوز عددها 12 مؤسسة، تقديم نفسها في صورة المحافظ الحكيم. وعلى سبيل المثال فإن مجموعة «كوينسل فينانس»، تقدم نفسها باعتبارها أكبر ممول للدعاوى القضائية، وذلك برصيد يزيد على 200 مليون دولار من القروض غير المسددة لها على مكاتب المحاماة، تشترك مع شركة التأمين في مكتب بضواحي بافالو.

وهذا النوع من الاستثمار يقع بين الإقراض المصرفي والقمار، حيث تقوم شركة الإقراض بتعيين محامين من ذوي الخبرة لتحديد مدى احتمال نجاح القضية، وذلك من خلال الاطلاع على نتائج الدعاوى الممثلة المسجلة على قواعد البيانات، مثلما يقوم السمسارة بتحديد قيمة منزل بناء على قيمة المبيعات الأخيرة، حيث يمكن أن يكون لمؤسسة معينة خبرة في مواجهة دعاوى طلب التعويضات بسبب التعرض للإصابة أو أن هيئة المحلفين في منطقة معينة لها تاريخ من الوقوف إلى جانب أرباب العمل المحليين، ثم بعد ذلك يحددون رهانهم. وقد تستثمر إحدى هذه المؤسسات ما يصل إلى 10 ملايين دولار في مكتب للمحاماة، لكن العائد يكون مربحا للغاية. وتحصل مجموعة «كوينسل فينانس» على معدل فائدة سنوي على قروضها يقدر بـ18 في المائة. وقال بول ر كودي، رئيس «كوينسل فينانس»: «إذا كان لدى هذه المكاتب مصادر تمويل أقل تكلفة، فإن أول ما نقوله لها هو أنه يتعين عليها ألا تتحدث إلينا. نحن لن نتنافس» مع معدلات الفائدة التي تقدمها المصارف.

وتلتزم مكاتب المحاماة عموما بسداد المستحق عليها من القروض حتى لو خسرت القضية. وفي الواقع، فإن المكاتب التي تحقق نجاحا أقل من المتوقع غالبا ما تجد صعوبة في سداد قيمة هذه القروض، وقد قدم عدد من مكاتب المحاماة التي حصلت على قروض من مجموعة «كوينسل فينانس» طلبا للحماية من الإفلاس.

وبدأت المصارف أيضا وعلى نحو متزايد مؤخرا تقديم قروض لتمويل الدعاوى القضائية. وخلال فترة ازدهار الإقراض في العقد الماضي، قدمت مؤسسات مصرفية مثل «سيتي غروب» و«كوميرس بنك أوف نيوجيرسي» و«كريدي سويس» قروضا لمؤسسات إقراض الدعاوى. وفي الآونة الأخيرة، بدأت بعض المصارف الاستغناء عن الوسطاء. فقد قدم مصرف «دويتشه بنك» مؤخرا تمويلا لواحد من أكبر عملاء «كوينسل فينانس»، وهو مكتب نيويورك نابولي برن ريبكا ويقدم الآن مصرف «تي دي بنك»، الذي استحوذ على مصرف «كوميرس بنك أوف نيوجيرسي» التجارة، قروضا للمحامين والمدعين على حد سواء.

كما تمكن أصحاب مؤسسة «لو كاش» للإقراض، التي مقرها بروكلين، من الفوز بعقد من نيويورك في عام 2006 لتأسيس مصرف «إيسكوير بنك»، ليكون أول مصرف أميركي متخصص في إقراض المحامين وتمويل المدعين لرفع الدعاوى القضائية.

وقد أوضحت إحدى القضايا التي تم النظر فيها مؤخرا في ولاية نيفادا أحد أسباب خوف الكثير من الشركات من نمو هذا النوع من التمويل: أن يتحول هؤلاء المستمرون من دعم القضايا إلى خلقها.

وقد ترك ستيفن وروز فلانز من لوس أنجليس عام 2004 إلى صن سيتي أنثيم، وهو مجمع للمتقاعدين مترامي الأطراف يحتوي على 7000 منزل من طابق واحد، متنوعة بين بيوت صغيرة وقصور، على حافة حوض لاس فيغاس. وعندما توقف موقد الغاز عن العمل خلال فصل الشتاء الثالث لهم في هذا المنزل، اتصل الزوجان بالمتعهد الذي تولى بناءه وهو ديل ويب.

ويتذكر فلانز ما حدث قائلا: «اتصلنا وقلنا: (لدينا مشكلة صغيرة)، وردوا قائلين: (لا يمكننا التحدث معكم لأنكم تقاضوننا!)».

وتبين أن فلانز وزوجته قد وقعا على استمارة عمل فحص مجاني للمنزل في السنة الماضية لصالح شركة «إم سي موجافا للبناء»، التي كانت قد أمطرت حيهم بالإعلانات عن نشاطاتها. وقال الزوجان إنهما لم يدركا أن الاستمارة التي وقعا عليها تسمح لشركة «إم سي موجافا للبناء» برفع دعوى قضائية ضد ديل ويب نيابة عنهما للحصول على المال لإصلاح أي عطل بالمنزل.

وبحلول عام 2008، كانت شركة «إم سي موجافا للبناء» قد رفعت أكثر من 500 دعوى قضائية ضد ديل ويب. وعملت الشركة كمستثمر، يقدم تقارير فحص لمكتب لاس فيغاس للمحاماة، الذي يتولى رفع الدعاوى ومتابعتها مقابل الحصول على حصة في التعويض الذي ستحكم به المحكمة.

وقام ديل ويب برفع دعوى قضائية ضد شركة «إم سي موجافا للبناء»، بحجة أن قانون ولاية نيفادا يحظر التحريض والاستثمار في الدعاوى القضائية. وقالت جاك بيترولاكيس، المتحدثة باسم الشركة، إن دل ويب سيكون عليه أن يقوم بإصلاح مشكلات عادية بموجب سياسة الضمان الخاص به، وإن الدعاوى تحقق أرباحا فقط لشركة «إم سي موجافا للبناء» ومكتب المحاماة.

قالت بيترولاكيس: «إنهم كانوا يدفعون السكان إلى رفع دعاوى كان الكثير منهم لا يتوقعها ولا يريدها».

ولم ترد شركة «إم سي موجافا للبناء» على المكالمات الهاتفية التي قامت بها الصحيفة بغرض الحصول على تعليقها، ولكن قالت في ملفها المقدم إلى المحكمة إن قانون ولاية نيفادا من قوانين «القرون الوسطى»، ولا يجب أن يطبق. وقالت الشركة إنها كانت تقدم خدمة بناء على طلب أصحاب المنازل.

وقد أصدر قاض فيدرالي هذا العام حكما يمنع شركة «إم سي موجافا للبناء» من رفع أي دعاوى أخرى، وقال إن قانون ولاية نيفادا بالفعل يحظر مثل هذا النوع من الاستثمار.

ولكن عددا كبيرا من الولايات قد ألغى قوانين مماثلة.

وقد بدأت المحكمة العليا في ماساتشوستس هذا الاتجاه عام 1997، مستشهدة «بالتغيير الجذري الذي طرأ على نظرة المجتمع للتقاضي - من أنه شر اجتماعي، مثل النزاعات والمشاحنات، وينبغي الحد منه، إلى وسيلة مفيدة اجتماعيا لحل النزاعات».

وقد تبعت ولايات كارولينا الجنوبية وتكساس وأوهايو ولاية ماساتشوستس هذا الاتجاه.

وقال ستيفن جيم يازيل، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا، بلوس أنجليس، والمؤرخ البارز لنظام القضائي المدني، إن هذا الاتجاه من المرجح أن يستمر ويتصاعد. وقال إن هناك مبررا قانونيا صغيرا فيما يتعلق بالسماح للمحامين بإقراض المدعين، ولكنه يحظر دخول طرف ثالث. ويقول يازيل: «هذه هي خطوة أخرى لتسوية الملعب بين المدعين والمدعى عليهم».

* خدمة «نيويورك تايمز»