الاقتصاد الأميركي: ستسفك دماء

بول كروغمان

TT

يعد السيناتور السابق آلان سيمبسون رجلا جادا للغاية، لا بد أنه كذلك، خصوصا بالنظر إلى وقوع اختيار الرئيس أوباما عليه لتعيينه رئيسا مشاركا للجنة خاصة تعنى بتقليص العجز في الميزانية.

وفيما يلي ما قاله سيمبسون، شديد الجدية، يوم الجمعة: «لا أطيق الانتظار حتى تفجر حمام الدماء في أبريل (نيسان)».. عندما يحين الموعد الزمني النهائي للدين، فحينها سينظرون في ما حولهم ولسان حالهم يقول: «بحق السماء.. ما الذي سنفعله الآن؟ إن لدينا أشخاصا لن يوافقوا على تمديد الموعد النهائي لأجل الدين إلا إذا أعطيناهم حافزا حقيقيا»، في إشارة إلى إجراءات تقليص حقيقية في الإنفاق. واستطرد قائلا: «لا شك أن حمام الدماء القادم سيكون فريدا من نوعه».

ويمكننا النظر إلى تعطش سيمبسون للدماء باعتباره مؤشرا آخر على أن أمتنا في وضع أسوأ كثيرا وأقرب كثيرا إلى الانهيار السياسي عما تدركه الغالبية.

من بين أحد التفسيرات وراء ذلك، أن هناك حدا قانونيا للدين الفيدرالي، يجب رفعه دوريا حال استمرار مواجهة الحكومة عجوزات في الميزانية. وسنصل إلى حد الدين هذا الربيع. ونظرا إلى أنه لا يوجد أي شخص، بما في ذلك أقوى الصقور المعنيين بقضية عجز الميزانية، يعتقد بإمكانية تحقيق توازن في الميزانية على الفور، فإن حد الدين يجب رفعه لتجنب توقف عمل الحكومة. إلا أنه من المحتمل أن يحاول الجمهوريون ابتزاز الرئيس لإجباره على تقديم تنازلات ترتبط بالسياسات التي تنتهجها إدارته من خلال إبقائهم الحكومة رهينة في أيديهم، وهو الأمر الذي فعلوه من قبل.

الآن، ربما يخالجك اعتقاد بأن إمكانية حدوث مثل هذه الحالة من التأزم، التي قد تحرم الكثير من الأميركيين من خدمات أساسية وتلحق الدمار بالأسواق المالية وتقوض دور أميركا في العالم، تثير قلق جميع أصحاب النيات الحسنة، لكن هذا ليس صحيحا، فمثلا سيمبسون «لا يطيق الانتظار» لحدوث ذلك. وينطبق موقفه هذه الأيام على الكثير من الجمهوريين.

في الحقيقة، لقد أوضح أحد أكبر حزبين سياسيين في البلاد أنه لا يعبأ بجعل أميركا دولة يمكن حكمها، ما دام أنه لا يتولى الحكم بنفسه. ويأتي ذلك في وقت يسيطر فيه هذا الحزب على أحد مجلسي الكونغرس، مما يعني أن البلاد في واقع الأمر سيتعذر حكمها من دون تعاون هذا الحزب، وهو تعاون لن يتوافر بسهولة. الملاحظ أن النخبة كانت بطيئة في إدراك هذه الحقيقة. وعليه؛ نجد أنه في ذات اليوم الذي ابتهج خلاله سيمبسون فرحا بنذر الفوضى، ناشد بن برنانكي، رئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي، من أجل مساعدته في مواجهة البطالة. وطلب إقرار «برنامج مالي يجمع بين إجراءات قصيرة الأجل لتعزيز النمو مع خطوات قوية لبث الثقة سعيا إلى تقليص العجوزات الهيكلية طويلة الأمد في الميزانية».

وعلى الفور طرأت على ذهني فكرة لماذا إذن لا يسعى الجمهوريون إلى استغلال الموقف؟ على أي حال، لا يبدو الحزب الجمهوري مهتما بالإسهام في تحسين الأوضاع الاقتصادية ما دام أن ديمقراطيا يترأس البيت الأبيض. في الواقع، بدلا من أن يبدوا استعدادهم مساعدة جهود برنانكي، يحاول الجمهوريون الاستئساد على مصرف الاحتياطي الفيدرالي لدفعه نحو رفع راية الاستسلام والتوقف عن محاولة تقليص البطالة.

بالنسبة للقضايا النقدية، يبدو أن برنامج الحزب الجمهوري يعمد إلى اتباع النهج المعاكس تماما لما يدعو إليه برنانكي. من ناحية، يعارض الجمهوريون أي شيء تقريبا من شأنه الحد من العجوزات الهيكلية، حيث يطالبون بجعل التخفيضات الضريبية التي أقرها بوش دائمة، في الوقت الذي يسلكون سبلا مهيجة للدهماء للحد من الزيادة في تكاليف برنامج «ميديكير»، وهو أمر ضروري لأي محاولة للسيطرة على الميزانية. من ناحية أخرى، يعارض الحزب الجمهوري أي شيء بمقدوره المساعدة في تعزيز الطلب داخل اقتصاد يعاني من الكساد، بما في ذلك حتى المساعدات الموجهة للشركات الصغيرة التي يدعي الحزب حبه لها. في الوقت الراهن، على وجه الخصوص، يعمد الجمهوريون لإعاقة تمديد أجل الإعانات المرتبطة بالبطالة، الأمر الذي سيخلق صعوبات جمة ويستنفذ القوة الشرائية من اقتصاد متخبط بالفعل.

والملاحظ أن نهج المعارضة من أجل المعارضة فحسب لا يقتصر على السياسة الاقتصادية. لقد اعتدنا سماع مقولة إن المشاحنات السياسية تقف عند حدود مياهنا الإقليمية، لكن هذا الأمر لم يعد قائما.

في الوقت الراهن، يخالج خبراء الأمن القومي صدمة وغضب شديدان إزاء قرار أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين إعاقة التصديق على معاهدة استراتيجية جديدة تتعلق بالأسلحة تحتاج الولايات المتحدة إليها بشدة. ويعلم الجميع أن الجمهوريين يعارضون هذه المعاهدة، ليس انطلاقا من اعتراضات مشروعة، وإنما لمجرد أنها مبادرة صادرة عن إدارة أوباما. وإذا كان تخريب سياسات الرئيس من شأنه تعريض البلاد بأكملها للخطر، فإن الجمهوريين لا يرون ما يضير في ذلك.

والآن، كيف سينتهي هذا الوضع؟ من ناحيته، لا يزال الرئيس أوباما يتحدث عن التقارب والتواصل بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وربما إذا تمكن من تقديم تنازلات كافية سينجح في تجنب انهيار فيدرالي كامل هذا الربيع. إلا أن أي فترة هدوء ستكون مؤقتة، ذلك أن الحزب الجمهوري بوجه عام ليس لديه اهتمام بمساعدة رئيس ديمقراطي على حكم البلاد. من جانبي يساورني شعور بأن معظم الأميركيين لا يزالون غير مدركين لهذه الحقيقة، ولا يزال لديهم اعتقاد بأنه إذا ساءت الأمور إلى حد يستلزم التحرك، فإن السياسيين سيوحدون صفوفهم ويتخذون ما يلزم من إجراءات، لكن هذا التصور ينتمي إلى دولة أخرى. من الصعب تخيل كيف يمكن تسوية هذا الوضع من دون وقوع أزمة كبرى. حمام الدماء الذي يتشوق إليه سيمبسون قد يحدث أو لا يحدث في أبريل، لكن الحقيقة تبقى أن حماما للدماء سيقع عاجلا أم آجلا. ونأمل في أن البلاد التي ستخرج منه ستبقى حاملة بعض الملامح التي نألفها.

* خدمة «نيويورك تايمز»