نموذج للتحمل.. في أوروبا

آن أبلباوم

TT

تخلص من القوالب النمطية التي لديك عن أوروبا، فقد حققت الحكومة اليونانية، التي خفضت أجور موظفي القطاع العام والمعاشات، فوزا كاسحا في الانتخابات المحلية التي أجريت الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من الإضرابات وأعمال العنف المستمرة، وحقيقة أن الديون الحكومية لا تزال في تصاعد مما يعني أن الحكومة تتبنى المزيد من التخفيضات، فسيكون هناك رئيس اشتراكي لبلدية أثينا للمرة الأولى منذ 24 عاما (نعم، في اليونان يدعم الاشتراكيون خفض الميزانية ويعارضها المحافظون).

ولم تكن اليونان وحيدة في ذلك، ففي الشهر الماضي، أعاد الناخبون في لاتفيا انتخاب حكومتهم التي خفضت رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 50 في المائة. كما أن الائتلاف الحاكم في بريطانيا، الذي يحاول أيضا إلغاء الدعم وخفض الإنفاق، لا يزال يتمتع بشعبية غريبة. وعلى الرغم من أن - خلافا لما أشرت إليه في السابق - لندن كانت أول من شهد مظاهرة مناهضة لسياسات التقشف، فلم يكن لدى المشاركين في هذه المظاهرة حماس كبير، ولم يكن لهم أي تأثير يذكر على شعبية الحكومة حتى الآن، وفقا لنتائج استطلاعات الرأي.

وهذه نماذج كثيرة قد يطلق عليها تيارا، ربما لن يمثل تغيرا دائما، فأنا متأكد من أن الكثير من السياسيين الأوروبيين لن ينجوا في مواجهتهم المقبلة مع الناخبين. لكن هناك أمرا واضحا، وهو أنه يبدو أن عددا ليس بالقليل من الأوروبيين قد تعلموا بعض الدروس من الركود الأخير والاضطرابات التي صحبته في أسواق السندات. لقد أدركوا، أو ربما على وشك أن يدركوا، أن قطاعات دولهم كانت متضخمة بصورة كبيرة للغاية، وأن الإنفاق العام لحكوماتهم، الذي كان يبدو مبررا خلال فترات تعافي الاقتصاد، يجب أن يتم تخفيضه. ويبدو أن الطبقة الوسطى أدركت أيضا أن الدعم الذي كان يقدم لها، سواء في صورة قروض للرهن العقاري أو مساعدات لمواصلة التعليم الجامعي، أو تمويل برامج الرعاية الصحية، لن يستمر. ويدرك بعض الناخبين أن دفع استحقاقات المعاشات عند الحاجة لن يستمر على المدى البعيد أيضا.

لقد وصفت هذه الحالة المزاجية المتقلبة من قبل، لكن مؤخرا أكدها اثنان من خبراء الاقتصاد الأميركيين، وهما دوغلاس بيشاروف ودوغلاس كول، في دورية «ويلسون» الفصلية، حيث قال الخبيران إن معظم البلدان المتقدمة في أوروبا وآسيا - معظم البلدان وليس بعضها - تتجه (لكن بتردد) نحو تبني أنظمة تقاعد ورعاية صحية مستندة إلى السوق، على الأقل بالنسبة إلى الطبقة المتوسطة. ومعظم هذه البلدان تقوم الآن بتمويل المعاشات المستقبلية باستخدام صناديق الاستثمار وما تملكه من أوراق مالية وممتلكات، بدلا من، أو بالإضافة إلى خطط دفع المعاشات عند الحاجة. وحتى البلدان التي لديها شكوك تاريخية حول السوق الحرة، مثل إيطاليا والسويد وبولندا، تتبنى هذه الخطط الآن.

كما كتب بيشاروف وكول، فإن الإجراءات التصحيحية وميزانيات التقشف «بعيدة كل البعد عن تصحيح الاختلالات الهائلة طويلة المدى التي تواجهها هذه الاقتصادات»، لكنها تمثل تغييرا في الاتجاه فقط. وربما لأن الدولار ليس - حتى الآن - تحت ضغط دولي، فقد اتخذت الولايات المتحدة طريقا معاكسا، فالرئيس أوباما يحاول الإنفاق أكثر لدفع الاقتصاد في اتجاه النمو، وجميع الأميركيين لا يزالون يعتبرون «خصخصة» قطاع الضمان الاجتماعي لعنة، حتى مع إعلان الرئيس السابق بوش الآن أسفه لتخصيص وقت في بداية ولايته الثانية لقضية ميئوس منها تماما، وهي إصلاح برنامج الضمان الاجتماعي، وهو ما لم يكن يحظى بشعبية حتى داخل حزبه.

وتوسعنا مؤخرا في إصلاح برامج الرعاية الصحية أخذنا في اتجاه معاكس تماما لبقية دول العالم المتقدمة، وأيضا - وفي الواقع - لم نكن نفعل شيئا مختلفا تماما. وكما أشار بيشاروف وكول، فإن الأميركيين يخطئون حينما يتصورون أنهم يتلقون الآن دواء مستندا إلى آليات السوق «الخاصة» أو «الحرة». وحتى عندما لا يكون هذا العلاج ممولا مباشرة من الدولة من خلال برامج الرعاية الصحية أو المساعدات الطبية، فإن أرباب العمل هم الذين يمولون هذه البرامج. وأرباب العمل، بدورهم، يحصلون على تخفيضات ضريبية مقابل توفيرهم الرعاية الصحية للموظفين - أو الإعانة التي يقدمونها للموظفين.

والنتيجة هي أنه على عكس ما يحدث مثلا مع السويسريين، الذين يدفعون نحو 30 في المائة من فاتورة الرعاية الطبية، أو السلوفاك، الذين يدفعون 26 في المائة، فإن الأميركيين لا يدفعون سوى 13 في المائة فقط، ويأتي الباقي من برامج دعم الموظفين، أو من الحكومة مباشرة. وهناك عدد قليل نسبيا من آليات السوق التي يستخدمها نظامنا، وهذا الغياب قد يفسر، جزئيا، لماذا يبدو العلاج الأميركي مرتفع التكاليف جدا. وعند مناقشتي لهذا الموضوع، لا يسعني إلا أن أشير إلى أن خدمة البريد الأميركية قد خسرت في العام الماضي 8.5 مليار دولار، وربما تعلن إفلاسها في العام المقبل. وأنا أتساءل لماذا، في هذا العصر الذي تتوافر فيه خدمات البريد المتعددة، والمكالمات الهاتفية الرخيصة والبريد الإلكتروني، تظل خدمة البريد في الولايات المتحدة مملوكة للدولة؟ لقد قامت ألمانيا بخصخصة خدمة البريد منذ عام 1995.

ونحن لا نزال، بطبيعة الحال، أكبر دعاة للسوق الحرة، لكن السياسيين لدينا - حتى أوباما - يمكن أن يبالغوا في الدفاع عن هذه المثل، لكننا لم نمارس ما ندعو إليه منذ فترة طويلة، أطول بكثير مما نتخيل. وعموما، قد يكون الأميركيون من كوكب المريخ، والأوروبيون من كوكب الزهرة، لكن هل يمكن أن ينتخب الأميركيون رئيسا خفض أجور موظفي الحكومة إلى النصف؟ أجد أنه من الصعب تخيل حدوث ذلك.

* خدمة «واشنطن بوست»