كيف أصبح لقب «مادوف» عبئا لا يمكن تحمله على الابن المنتحر مارك؟

قليلون جدا كانوا يعرفون أن ابن «المحتال الكبير» كان ناشر نشرة عقارية واعدة تدعى «تقرير سونار»

مظاهرات في نيويورك ضد برنارد مادوف (نيويورك تايمز) و برنارد مادوف و مارك ديفيد مادوف (أ.ب)
TT

استيقظ ناشر نشرة عقارية واعدة تدعى «تقرير سونار» (سونار ريبورت)، يوم الجمعة قبل الماضي قبل الفجر وقام بتصفح مواقع الأخبار لجمع المواد التي ستتضمنها نشرة هذا اليوم، وقام بإرسال نشرته عبر البريد الإلكتروني إلى المشتركين في الساعة 9:04 صباحا.

والناشر الذي لم يكن معروفا تقريبا لكل المشتركين، هو مارك ديفيد مادوف، الابن الأكبر للمحتال المدان برنار مادوف.

وقبل أقل من 24 ساعة من إرسال نشرته البريدية، شنق مارك نفسه في شقته بحي مانهاتن وسط مدينة نيويورك، تاركا وراءه حياة كانت مليئة بالأفراح والأتراح.

ويبدو أن هذه الأفراح استمرت معه حتى في يومه الأخير، فوفقا لأقرب المقربين إليه، فإن مارك كان يحاول بناء مشروع جديد بمثابرة وجد ويتحدث بانتظام إلى أصدقائه المقربين ويقضي وقتا ممتعا مع زوجته وأطفاله الأربعة، وحتى آخر ساعات حياته، كان يتمشى مع كلبه الجميل من نوع «لابرادوودلي».

ولكن بعيدا عن هذه الأفراح، كانت هناك الكثير من الأتراح التي عانى منها بسبب كونه ابن برنارد مادوف، حيث استمر تشكك الناس فيه والاتهامات القاسية في الدعاوى القانونية الكثيرة التي رفعت ضده، وخروجه من عالم وول ستريت الذي كان يعمل به طوال حياته، وهي أمور جعلت الحياة بالنسبة إليه لا تحتمل بصورة متزايدة.

وقال شخص من المقربين منه منذ طفولته: «لقد أخذت ضغوط العامين الماضيين تثاقل على كاهله بصورة كبيرة. كان غاضبا أشد الغضب مما فعله والده به وبالجميع. ويبدو أن هذا الغضب أخذ يتعاظم».

وقال هذا الشخص إن عبء هذا الغضب بدأ يقل مع تراجع اهتمام الجمهور بقضية والده. لكن سلسلة الدعاوى القضائية التي رفعت الأسبوع الماضي من وكيل الدائنين والقائم على أملاك مادوف تضمنت دعوى مثيرة للقلق ضد مارك وإخوته و«دعاوى أخرى ضد عدد كبير من الشباب، الذي كان يعرفهم مارك وبعضهم كان من أقاربه. وقد فتحت هذه الدعاوى الجروح القديمة. ويبدو أن عبأها كان أثقل مما يستطيع تحمله».

ويقول أصدقاء مارك مادوف (46 عاما) إن اسمه ورد في ما لا يقل عن 9 دعاوى للحصول على ملايين الدولارات منه كتعويض. وقد أضرت هذه الدعاوى بسمعته المهنية. وأعرب عن انزعاجه من المقالات التي تتحدث عنه مرارا وتكرارا - وفقا لمحاميه زورا - باعتباره خاضعا للتحقيق الجنائي لدوره في جريمة والده الأسطورية.

ويقول هذا الشخص إن الأمر الذي كان أكثر إحباطا لمارك، هو حقيقة أنه لا هو ولا أي ممن عرفوه يستطيع الدفاع عنه علنا. وقال: «كان هناك تصريحات وكيل الدائنين والقائم على أملاك والده حيث وصفه فيها بأنه أخرق فاقد للأهلية.. وكان يرى جميع من يعرفونه صامتين لا يدافعون عنه - بناء على نصائح من محاميهم - كان هذا أمرا صعبا للغاية».

ولم يعد هناك في عالم المال، العالم الوحيد الذي كان يعمل فيه طوال حياته الماضية، من يستطيع أن يخاطر علنا بإعطاء وظيفة.

وأدرك مارك أن هويته قد أصبحت ملوثة، وتقدمت زوجته ستيفاني هذا العام بطلب إلى المحكمة لتغير الاسم الأخير في اسمها وأسماء طفليها ليكون «مورغان».

ولا يظهر اسم مادوف في أي مكان على سجلات الشركة التي من المفترض أنها تصدر «تقرير سونار». والعنوان المدون لها هو مقر لشركة «يو بي إس» بالقرب من منزله، يذهب إليه بانتظام لأخذ البريد. كما أخفى دوره كمؤسس ورئيس تحرير للنشرة عن الجميع باستثناء أسرته وعدد قليل من أصدقائه المقربين.

وأعرب ما لا يقل عن 8 من أصدقائه المخلصين عن استعدادهم للحديث عن جهود مارك غير الناجحة لمواصلة حياته بصورة عادية، ولكنهم طلبوا جميعا عدم الإفصاح عن هويتهم احتراما لخصوصية الأسرة ولقلقهم من أن يصبحوا هدفا لما وصفه أحدهم بـ«المجانين» الذين يترصدون لأي شخص يرتبط بصلة إلى مادوف.

وقال صديق مقرب إن الذي لحقه من لقب مادوف هز صورة مارك للأبد.

وقال صديقه: «لقد كان دائما فخورا باسمه وكونه يعرف بابن برنار مادوف، وأن كل شيء كان يراه جميع من حوله فيه هو كونه ابن برنار مادوف».

وهذا الاهتمام الإعلامي، الذي أصبح أكثر تركيزا بعد انتحار مارك مادوف، جعل أسرته تقرر حرق جسده وعدم إقامة جنازة. وأقيمت مراسم التأبين الخاصة به في مكان لم يكشف عنه يوم الخميس.

لقد غدا مارك مادوف وشقيقه الأصغر، أندرو، من المشاهير منذ أول يوم لاعتقال والدهما. وقبل يوم واحد من ذلك، أبلغ الأخوان السلطات القانونية بأن والدهما اعترف بأن شركته للاستثمار كانت «كذبة كبيرة»، في عملية احتيال أدارها على مدار سنوات للاستيلاء على مليارات الدولارات.

وقد أقر برنار مادوف بالذنب في عملية الاحتيال هذه ويقضي الآن حكما بالسجن لمدة 150 عاما في السجن الفيدرالي بولاية كارولينا الشمالية. وتقدر الخسائر النقدية لمستثمري الشركة بـ20 مليار دولار، لكن الثروة التي من المفترض أنها كانت في حساباتها عندما انهارت شركته بلغت 64.8 مليار دولار. ولم يتصل مادوف بوالده أو والدته، روث، منذ اكتشاف عملية الاحتيال قبل عامين.

وقد عانى مارك مادوف بصورة واضحة خلال العام الذي تلا اعتقال والده. وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2009، أبلغت زوجته الشرطة بأنه مفقود بعد أن ترك المنزل بعد خلاف معها ولم يعد لعدة ساعات، وذلك وفقا لشخص كان على علم بهذه الحادثة. وقد عثرت عليه الشرطة في فندق «غراند سوهو». ووفقا للشخص الذي كان قريبا منه منذ طفولته، فإن مارك التمس المشورة بعد تلك الحادثة.

وعادت الأضواء غير المحببة إلى عائلة مادوف مع اقتراب الذكرى الثانية لاعتقال والده. ووفقا لعدد من أصدقائه، فإن مارك أعرب عن غضبه وإحباطه من تغطية وسائل الإعلام لهذه الذكرى، ولا سيما المقالات التي قرأها عشية انتحاره التي تحدثت عن استمرار جهات التحقيق الفيدرالية في دراسة احتمال تورطه هو وأخيه في نشاطات والده. وقال محاموهما إن أيا من مارك أو أندرو لم يخبرهما الادعاء بأنهما هدف لتحقيق جنائي من قبل.

وأكد أصدقاء مارك أن تجدد الاهتمام الإعلامي بالقضية واستمرار الدعاوى القضائية كل ذلك ضغط عليه بشدة. لكن أحد أصدقائه المقربين الذي تحدث معه يوم الجمعة قال إن قلقه إزاء تغطية الإعلام للذكرى الثانية لاعتقال والده لم يكن استثنائيا.

وقال صديقه: «لم يكن ثمة شيء في المحادثة يشير إلى أنه كان يرى أن هذا أمر جلل. وبدا أنه لا يمثل له سوى إعادة نشر لأخبار قديمة».

وقد نشأ مارك وشقيقه في قرية روزلين بمنطقة لونغ ايلاند بنيويورك. وكتبت بريت كانتور هاريس، وهي زميلة دراسة لمارك، على مدونتها يوم وفاته: «لقد كان شابا أشقر جميلا يحسده معظم الشباب لوسامته وكانت معظم الفتيات ترغب في الخروج معه، أو على الأقل مغازلته».

وبعد تخرجه وحصوله على شهادة في الاقتصاد من جامعة ميتشيغان، انتقل مارك إلى نيويورك والتحق بشركة والده، «برنار مادوف للاستثمار» في الأوراق المالية، وحدة صناعة السوق وتجارة الملاك. وهذه الوحدة، التي كان مارك وشقيقه يديرانها، كانت متميزة عن شركة والده الوهمية لإدارة الأعمال، وتمكنت من تحقيق نجاح هائل في وول ستريت على مدى عقود.

وتزوج مارك من حبيبته وزميلته في الكلية، وانتقل إلى حي الأثرياء غرينتش، بولاية كونيتيكت، وأنجبا طفلين. لكنه انفصل عن زوجته وتزوج التنفيذية بأحد دور الأزياء ستيفاني مايكسيل. وقد أنجبت ستيفاني طفلين لمارك واستقر في حي سوهو بمانهاتن. كما احتفظ بمسكنه في غرينتش واشترى أيضا منزلا ذا واجهة بحرية في نانتوكيت.

وبعد اكتشاف عملية الاحتيال التي قام بها والده، أصبح إنفاق مارك مقيدا ويخضع إلى إشراف وكيل الدائنين والقائم على ممتلكات مادوف. ولكن قبل ذلك، كان منصبه الرفيع في إحدى كبرى شركات تداول الأسهم يسمح له بالعيش حياة رفاهية.

وقد حصل مارك على 29.3 مليون دولار على مدى السنوات الثماني الماضية من عمله في هذه الشركة، وفقا لدعوى قضائية رفعها ضده ايرفينغ بيكار، وكيل الدائنين الذي يسعى لاسترداد أموال ضحايا عملية الاحتيال. وأكدت الدعوى أن مارك استفاد أيضا من عمل والده الاستشاري الوهمي، حيث حصل على ما لا يقل عن 17 مليون دولار من حسابات عائلته. ويسعى وكيل الدائنين إلى استرداد ما لا يقل عن 67 مليون دولار من مارك وحده، وأكثر من 130 مليون دولار من أفراد الأسرة الآخرين الذين كانوا يعملون كتنفيذيين في شركة مادوف.

وفي الدعوى التي تقدم بها في أكتوبر عام 2009، وصف بيكار الراتب الذي كان يحصل عليه مارك بـ«الخيالي»، واتهمه هو وشقيقه بأنهما كانا «مقصرين تماما» في عملهما ومسؤولياتهما في الشركة.

ويقول أصدقاء مارك إنه كان معتزا بشدة بعمله وشعر بالإهانة بسبب اتهامات بيكار. وكان يعمل بوحدة صناعة السوق نحو 120 موظفا وكانت تقوم بتداول عشرات الملايين من الأسهم في اليوم، وفقا لعرض قدمته مؤسسة «ازارد»، وساعد القائم على أملاك مادوف على بيع هذه الوحدة في العام الماضي. وكان مارك وأندرو يديران أيضا قسم تجارة الملاك بالشركة، وهو القسم الذي بدأ عام 1997 وتم تصفيته في العام الماضي. وقد حققت هذه الوحدة أرباحا تقدر بنحو 270 مليون دولار خلال 11 عاما، وتفوقت بشكل كبير على السوق ككل، وفقا لتقديرات «ازارد».

وقال صديق للعائلة وشريك تجاري لمارك إن مارك كان يبدو دائما حساسا للنقد، وكان يحتفظ بشكواه في قلبه. وأضاف قائلا: «لهذا لا أعتقد أنه كان على علم بعملية الاحتيال. كان يعاني بشدة من التوتر. وما كان يستطع أبدا أن يحتفظ بسر كهذا، لأنه كان سيمزقه».

وخلافا لهذا التاريخ، فإن سلوكه في الأسبوع الأخير من حياته يحمل إنذارا لكل من كانوا حوله. ولم يتوقعوا أبدا هذه النهاية.

وقد قامت الشرطة بتجميع رسائله النهائية بعد الاستيلاء على جهاز الكومبيوتر والهاتف الجوال الخاصين به، قبل أن يحتج محاميه على وجه السرعة ويسترد هذه الأجهزة ليعيدها إلى عائلته هذا الأسبوع.

ووفقا لتقارير الشرطة، ففي نحو الساعة 4 صباحا من يوم السبت الماضي، أرسل مارك رسالتين بالبريد الإلكتروني لزوجته، ستيفاني، التي كانت قد أخذت ابنتهما ذات الأربعة أعوام في رحلة إلى ديزني وورلد في فلوريدا يوم الأربعاء 8 ديسمبر (كانون الأول)، وتركت نيكولاس، ذا العامين، في رعاية زوجها. وفي إحدى رسائله الإلكترونية كتب: «الرجاء إرسال شخص لرعاية نيك». وكتب في الرسالة الثانية: «أحبك».

كما كتب رسالة إلى محاميه مارتن فلومنبوم قائلا: «لا أحد يريد أن يرى الحقيقة. رجاء اعتني بأسرتي».

وعندما رأت ستيفاني رسائل زوجها، اتصلت بزوج أمها في نيويورك وطلبت منه الذهاب فورا إلى شقتهما في الدور العلوي في شارع ميرسر في لور مانهاتن.

وصل زوج أمها، مارتن لندن، قبل الساعة 7:30 بقليل ليجد جثة مارك متدلية من حبل أسود معلق في عمود معدني في سقف غرفة المعيشة.

وقالت الشرطة إنه لا يوجد دليل على حدوث صراع في الشقة، التي بدت منمقة ومرتبة. ولكن هناك أدلة موجعة على عزم مارك على الانتحار.

كما كان هناك سلك مكنسة كهربائية معلق في العمود المعدني نفسه. كما عثر على حبل مشنقة من السلك نفسه على طاولة قريبة. وقد ربط حبل آخر بالعمود المعدني، ولكن لم يكن هناك أدلة تشير إلى أنه قد استخدم في محاولة الانتحار، وذلك وفقا لشخص مطلع على التحقيقات.

كما عثر على نجل مارك وكذلك كلب العائلة، غروبير، دون أن يصابا بسوء.

وقد صدمت أنباء هذه الحادثة أصدقاء مارك، الذين قالوا إن مارك كان يحاول الخروج من الأزمة التي مر بها خلال العامين الماضيين وبدأ يعيد بناء حياته ببطء.

ولأنه كان رياضيا فذا، فقد كان يعد خلال الأسابيع الأخيرة خططا للقيام برحلات تزلج في المستقبل مع أصدقائه. وكان قد زار ابنه الأكبر في كلية ويسترن كوليدج. وكان قد قام بالمقابلات التي كان يقوم بها بصور روتينية، بما في ذلك مقابلة بعد ظهر يوم الجمعة قبل وفاته.

ووفقا للشخص المقرب له منذ طفولته، فلم يكن لدى مارك أي أوهام بأنه يمكن أن يعمل مرة أخرى في قطاع الأوراق المالية، لكنه عمل بجد ونشاط خلال العامين الماضيين من أجل «الحفاظ على شبكة العلاقات التي لديه في هذا القطاع».

وقد عرض صديق مقرب، وهو مدير تنفيذي بإحدى شركات الخدمات المالية، على مارك مكتبا له وسط المدينة حيث يمكنه إجراء المكالمات وعقد الاجتماعات كي يتمكن من الوقوف على قدميه مهنيا من جديد.

ونفذ مارك بعض الأعمال للاستشارات الهادئة، ومنذ نحو عام بدأ في إرسال «تقرير سونار». ووفقا لصديق مقرب، كان هذا عملا فرديا خاصا به، حيث كان يستيقظ في الساعة 04:00 صباحا، ويبحث في الإنترنت عن الأخبار المتعلقة بالعقارات ويقوم بإعداد النشرة بنفسه. وفي البداية، بعث بالنشرة البريدية مجانا لجذب المتابعين، وبعد نحو ستة أشهر، بدأ يطلب 20 دولارا كاشتراك شهري في النشرة.

وقالت مذكرة تمهيدية للمشتركين الجدد إن «تقرير سونار» تنتجه «شركة جديدة»، وإنها «تتطلع إلى توسيع قاعدة مشتركيها».

ومن غير الواضح كم عدد الذين كانوا يدفعون اشتراكا لـ«تقرير سونار». وفي مايو (أيار) قال مارك لأحد أصدقائه إنه أصبح لديه 1000 شخص على القائمة البريدية الخاصة به. وقال محام قدم المشورة لمارك فيما يتعلق بحقوق النشر المتصلة بـ«تقرير سونار» إن تركيزهم كان منصبا دائما على استمرار النشرة لأجل بعيد. وقال المحامي إن مارك كان يأمل أن يكون النموذج التجاري «قابلا للتوسيع»، بحيث يمكن تطوير نشرات أخرى عن القطاعات الأخرى التي لا تحظى بتغطية كبيرة.

ولم يظهر «تقرير سونار» منذ يوم الجمعة قبل الماضي. وقال مسؤول تنفيذي في شركة سمسرة عقارية كبيرة يوم الثلاثاء، بعد أن سأله مراسل عن «تقرير سونار»: «ألم تعد تعمل بعد؟! لم يصلني منها أي شيء هذا الأسبوع».

* ساهم في إعداد هذا التقرير كل من الباكر واليسا غوتمان ونيلسون شوارتز وسوزان كريغ.

* خدمة «نيويورك تايمز»